برغم أنني لا أطيق صخب الفِرق. كتبتُ ذات مرة مقالاً نشره الموقع بوست عن ذلك" الدّوشة تسرق تعز". وكنت أعني الفِرق الصاخبة بتلك الدوشة. لا أظل في صالات الأعراس أكثر من ساعة. إلا أنني في يوم(الثلاثاء 27 فبراير 2024م) في صالة نجمة تعز. شيئاً ما أبقاني من ساعة الظهيرة حتى قريب المغرب. وهو لأول مرة يحدث معي أن أصمد كل هذا الوقت! في صالة عرس صاخبة.. قمت بواجبي تجاه العريس، صديقي العزيز: زفيته، تصورت معه، وصفقت له بحرارة. هنا
كان يجب علي المغادرة بعد قيامي بذلك ولكني بقيت.. بقيت حتى النهاية.
عادة الإنسان الهجر، التنقل من مكان إلى آخر، بإرادة أو بدون. إلا أنه ثمة أشياء تُمسك به من داخله في الأمنكة فتبقيه فيها. قد يكون في مكان عامراً بكل شيء، إلا أن لا شيء يشده من داخله، من عواطفه وقلبه ومشاعره فيغادر. وقد يحدث أن يغادر من القصر إلى كوخ...
وهنا كان الصوت الآتي من الضفة الأخرى يشدني للبقاء بقوة الحبال التي تشد السفن في السواحل. كنت سفينة أتأرجح، أهم بالمغادرة، وكانت حبال ذلك الصوت تشدني من أطرافي لأظل. عجزتْ السفينة الضخمة أمام بضعة حبال، لا لشيء سوى أنها مدهشة ورهيبة وذا خامة تستوقفك ولو كنت هارباً من عفريت. اللهُ! ما أضعف الإنسان: صوت أو كلمة بمقدروها أن تغيير مساراته.
نسيت كل شيء في الصالة ورحتُ أغرق في سماوات ذلك الصوت الملائكي الشجي. وإلى جواري كان زملاء الدفعة المحاسبين قد غرقوا أيضاً في جدليات العمل المحاسبي والوظيفة والفرص وطبيعة الأعمال والدخل الذي لا يناسب. برغم إنتمائي المهني لعالهم وسعي الدؤوب من أجل وظيفة وعمل. تنحى داخلي جانباً عن الأرقام والحِسبة والوظيفة، والتفتَ إلى تلكما الصوتين اللذان كأنهما هبطا لتوهما من الجنة.
رحتُ مدهوشاً بهما، بعبقريتهما، بتمكنهما، وقدرتهما الفائقتين على إحداث جللٍ عظيمٍ بداخلي. لا علاقة للأرقام والآلة الحاسبة بالفن. وإن سيطرت الأولى على المرء أفقدته حاسية التذوق والمتعة. كان سطوة الصوتين أشدُ وطئةً عليّ من حديث المحاسبين عن العمل. واستعادَ أملي- بأن تعز زاخرة وولاّدة وغنية بالإبداع والموهبة- أنفاسه في أعماقي، بعد أن كان قد ضربته دوشة الفِرق الغنائية في مقتل! وغوغائية صوتها الحاد والطاغِ. الذي يكاد أهل هذه المدينة أن يتطبعوا معه. بعد أن عملتْ شلل الزاعقين بـ" يا طالعين أربعة يا نازلين إثنين، إثنين لبعد العشاء والعشاء وإثنين لنص الليل" ترسم خارطة تعز الفنية.. وتسود..
استطاع صوت الأخوين الفائقين جداً "علي وسعيد القدسي" أن يعيدا لي تعريف الفن والإبداع في هذه المدينة التي عُرفت بالثقافة والخلق، وعودة المدرسة الفنية الكبيرة أيوب طارش من جديد بروح شبابية متألقة ومتجددة، وذاك الازدهار الفني الذي كنت أتأمله في مخيلتي!
ملكةْ بالصوت، تمكنْ رهيب من الفن الصنعاني، وقدرة أدهشتني حقاً، على التلاعب بالسلم الموسيقي والتنقل بين المقامات. وأداء دفعني للقول في نفسي مباشرة: ماذا يفعل هولاء هنا؟ إمتهان شُغل الفِرق هي لبداية نشأة الفنان. هولاء قد نشأوا قبل ألف عام، فنانين مكتملين. ماذا يفعلون هنا؟ لماذا لا أعرفهم؟ لماذا أراهم لأول مرة؟ هولاء يجب أن يظهروا، ليسمعهم العالم. وفكرت ملياً: لو أن هذه الأغنيات يغنياها بفيديو كليب في موسم الربيع على وادي الضباب؟ ماذا لو يغنوا ويدمجوا أغانيهم بالسينما والإخراج والجرافيكس؟ ماذا لو تركوا هذه الصالات وانطلقوا في آفاق العالم؟ ربما لرأيناهما في دار الأوبراء المصرية أو في ساحات باريس. هولاء ليس مكانهم هنا. مكانهم أوسع وأكبر من أن يضيق في فضاء صالة عرس بالحصب.
هناك أمل، هناك أصوات قادرة على الأسر. وإحداث الدهشة، وصناعة فوارق كبيرة في مساحتنا الفنية في اليمن. ما نسمعه ونشاهده ليس كل شيء. هناك سعيد وعلي، ربما لا تعرفوهما، وإن عرفتموهما ربما لن تستطيعوا الفِكاكِ عن سماعهما.