ثمة سعادة كبيرة أمحت فجأة كل الهموم اليومية والإخفاقات والخيبات السياسية والاجتماعية المتراكمة. لا نحتفل يوميًا بحدث مثل الفوز بكأس العالم، بعد عشرين سنة تتحصل فرنسا على النحمة الثانية بفوزها بكأس العالم قبل يومين، لا يحتاج الأمر إلى أن نكون فرنسيين لنفرح، يكفي أن نحب الكرة واللعب الجيد والانتصار.
ثمة سعادة لا تتكرر دائمًا يجب لمسها في عز نبضها، ليس دائمًا من الجهة التي تعود عليها الناس، ولكن من جهة أخرى، ربما كانت أجمل، لأنها في النهاية، على الرغم من حالات الإحراج، درس في السعادة والفرح والحب الكبير بين البشر.
الإنسان خلق ليكون مؤنسًا لأخيه الإنسان وإلا ما جدوى التسمية؟ ثمة سعادة تملأ كل الساحات الفرنسية يجب ألا تمضي هكذا دون أن ندخل في أعماقها، ونترك الانفجارات الجميلة فينا تتسع مثل الألعاب النارية التي جعلت من سماء باريس وموسكو مساحات كبيرة لفرح الإنسان الذي ارتمى في أحضانه وتركه على سجيته بلا حسابات مسبقة تقتل إنسانية الإنسان بدل أنسنتها أكثر.
بعد عشرين سنة من الكاس الأولى التي صنعها ابن عامل مهاجر، جاء من بلاد القبائل بحثًا عن قوته، زيدان، ورفاقه، ومنحوا فرنسا كلها سعادة قومية لم يكن أحد يراهن عليها، يومها كان المنتصر فرنســـا المتعددة ثقافيًا وتاريخيًا وحضاريًا.
قبل أن يأتي بعد سنوات من هذا الانتصار الكوني، من ينظر إلى هذا الاختلاف والتعددية الثقافية كعنصر تهديد للهوية الوطنية دون القدرة على تعريف هذه الهوية التي اشتركت في تكوينها جماعات وقوميات كثيرة ودينية وجدت في فرنسا مآلاتها للحياة والأمان، بسبب التاريخ الاستعماري أو بخيارات مسبقة.
وجد الفرنسي القادم من أصول غير أوروبية نفسه وجهًا لوجه أمام أقسى الطروحات عنصرية التي تبنتها نخب لا تخفي تطرفها ولا حتى صهيونيتها، بدءًا من برنار هنري ليفي، الذي قلب معطفه اليساري وراح يكيل التهم للعرب والمسلمين وينتسب إلى صف الذين لا يرون الحقيقة إلا بعين واحدة.
ثم آلان فيلكنكراوت الذي جاء ببكائيات عنصرية عن المخاطر التي تتهدد الهوية الفرنسية، إذ أصبحت في خطر قاتل بسبب التشوشات التي خلفتها أقوام أخرى لا علاقة لها بالحضارة، ونسي في ثانية واحدة أنه من نسل تلك الهجرات التي تمت في التاريخ، وجاءت إلى فرنسا بكل مكوناتها الدينية والثقافية، وأسهمت في إغناء الهوية الفرنسية وثقافتها التي تأسست عليها.
لم يكن كتابه الهوية الشقية (l’identité malheureuse) إلا صرخة شديدة العنصرية حتى ولو كانت مبطنة. ثم جاءت الكرزة على الكاتو، إيريك زمور، الذي احتل كثيرًا من القنوات التلفزيونية والإذاعية، بثرثراته العنصرية اليومية، التي أوصلته إلى القضاء بسبب دعواته المتطرفة ضد المسلمين والعرب.
قبل أن يكتب الانتحار الفرنسي (Le Suicide français) معبرًا فيه عن انشغالاته العنصرية. حرب معلنة. الغريب أن هؤلاء يدعون أنهم ضد اليمين المتطرف، لكنهم في زمن وجيز تحولوا إلى أساسه الثقافي والنظري التبريري، وكثيرًا ما استشهدت مارين لوبين، رئيسة الجبهة الوطنية، والمرشحة للرئاسيات الماضية بهؤلاء.
بينت كرة القدم، في مستطيل رمزي بلون أخضر، أن الهويات عمل مستميت لسعادة الإنسان والبلد الذي نشأت وتشكلت فيه، وكان الفريق الفرنسي الملون من الأوروبي إلى العربي، إلى الأمازيغي، إلى الروسي، إلى الإفريقي، هو سيد المستطيل الأخضر الذي أثبت فيه وجوده بالقوة الفنية التي تؤهله للاعتراف بجهده.
عندما تجمع الفرنسيون قبل عشرين سنة، في مساحات الشانزليزيه، كانوا يهتفون بصوت واحد: «شكرًا زيدان»، «شكرًا الفريق الوطني». بعد عشرين سنة وعلى مسافة يوم واحد من العيد الوطني الفرنسي، ها هم يهتفون بصوت موحد بحياة الفريق الملون الشاب نفسه.
اسم واحد على الأفواه، هداف هذه الكأس الذي فاز بجائزة اللاعب الشاب، مبابي، من أم جزائرية السيدة فائزة العماري، لاعبة كرة اليد السابقة، ومن أب ويلفريد مبابي لوتان، كاميروني، لاعب كرة قدم ومدرب للأطفال أقل من (15) سنة، في الجمعية الرياضية لبوندي. وبوندي من الضواحي الباريسية التي ينظر لها دومًا بعين سلبية بسبب العنف والضياع، وهي طبعًا صفات ليست دائمًا صحيحة؛ إذ لا يحكمها سوى التصور المسبق عن الضواحي التي أهملت زمنًا طويلاً حتى تحولت صورتها من منتجعات عمالية إلى أماكن للمخدرات والجريمة المنظمة.
ها هو كيليان مبابي (20 ديسمبر/كانون الأول 1998) يقلب المعادلة بضربة قدم، ويظهر للعالم أن الضواحي التي كبر فيها وكبر فيها زيدان أيضًا، في أوساط عمالية، قادرة على إسعاد فرنسا كلها، سواء كانت البشرة سوداء أم بيضاء أم صفراء أم حمراء.
انتصرت فرنسا بكأس العالم، لكن الذي انتصر أكثر هي فرنسا المتعددة ثقافيًا وفكريًا وحضاريًا. فرنسا الملونة والجميلة والمتسامحة مع تاريخها، التي وضعت كل الأطروحات العنصرية، ولو لزمن، في الركن وتأملها كقش ميت. أجمل درس لهذه الكأس أنها خرجت من منطق هتلر الذي عندما رأى جيسي أونز، حفيد أحد العبيد السود، يفوز كبطل في السباقات الأربعة في ألعاب 1936م الأولمبية، لم يتحمل وغادر المنصة الشرفية، تاركًا وراءه جثة الجنس الآري الذي لا يهزم، التي ارتكزت عليها النازية.
الرياضة تهز اليقينيات المريضة على الملأ ولا يمكن تفاديها، وتظهر أن البشر كيان واحد ولا يوجد عنصر آخر سوى العنصر البشري، وما عداه تفرعات صغيرة في الجنس البشري، وجميل أن يناقش البرلمان الفرنسي فكرة محو كلمة الجنس من الدستور.
البشرية متعددة، ولهذا الحديث عن العرق الصافي ليس في النهاية إلا تنويع على النظرية النازية. الفريق الفرنسي كان من الناحية الرمزية واحدًا من أجمل الدروس الثقافية للتسامح، وضربة قوية لكل أشكال العنصرية ولكبار المنظرين لها، الذين يرون فيمن لا يشبههم عدوًا ودخيلاً يجب عزله وطرده، لأنه في أعماقهم يذكرهم بذاكرة جريحة كانوا المتسببين الأول فيها.
* عن القدس العربي