تفكيك شبكة إجرامية تدعى (ع. ق.ع)، عمل القوات العملية، المرتبطة باليمين الفرنسي المتطرف، التي كانت تستعد لارتكاب جرائم ضد شخصيات إسلامية ونساء متحجبات. هذا هو الخبر الخطير الذي بثته قناة (LCI).
هل لنا أن نندم على زمن مضى؟ سيكون ذلك عبثيًا، فما مضى كان في زمانه في الحقيقة هو الحاضر. كم تبدو مثلاً طليلطلة بعيدة بعد أن سقطت في وقت مبكر، فقد أرخت للتسامح الديني بشكل إيجابي، ولتلاقي الأديان في عز محاكم التفتيش المقدس، فكان المسلم معنيًا بمصير المسيحي واليهودي، واليهودي بمصير الديانتين، أم المسيحي الغريب في دينه فيبحث عن كنيسة أخرى أكثر تسامحًا غير تلك التي صنعتها وفرضتها محاكم التفتيش المقدس لممارساتها اللاإنسانية.
ما ظهر في الآونة الأخيرة في فرنسا يدفع إلى أكثر من سؤال، مجموعة فرنسية متطرفة تستهدف الشخصيات الإسلامية والعربية وتعلن الحرب ضد كل من يدين بغير تطرفها.
هل ظهرت هذه المجموعة صدفة؟ هل جاءت ردّ فعل على إجرام داعش، أو ما شابهها من العمليات الدموية التي تعرضت لها فرنسا بالخصوص ضد جريدة شارلي إيبدو والحديقة الإنكليزية؟ ثمة وضع عام يجب أن لا ننكره، إحساس عام بعدم الأمان في ظل اعتداءات إسلاماوية هيّأ للخطاب المتطرف ومنحه المبررات التي يحتاج إليها في ظل تسيد خطاب أوروبي وأنجلوساكسوني استمر طويلاً في فرنسا تحديدًا، دون سياسة ردعية حقيقية ضده، لأنه لا يخفي عنصريته بمختلف تمظهراتها، تبنته الدولة وقتها متمثلة في رئاسة الجمهورية في فترة حكم الرئيس ساركوزي، خطاب وضع العربي والمسلم في موقع تبرير تصرفه حتى لو لم تكن له أي علاقة بأي حركات إجرامية، لا من قريب ولا من بعيد.
ظل الخطاب الرسمي عدائيًا يحمل الأجنبي كل الويلات، بينما الأزمة الرأسمالية هي أزمة بنيوية، والحلول التصريفية الجاهزة صعبة.
مديونية الدول الأوروبية ثقيلة جدًا، نفهم بشكل واضح أن هذا الخطاب العنصري وجد صداه لدى الطبقات المستضعفة التي أعتنقت سياسة اليسار، ولكن منذ أن سقط هذا الأخير توجه كثير منها نحو الأحزاب المتطرفة، وقد ظهر هذا جليًا في الانتخابات في السنوات العشر الأخيرة، حتى الحنفية العنصرية التي كانت إلى وقت قصير تجرم فيها العنصرية الكلامية والممارسة.
مع ساركوزي ووزرائه أصبحت العنصرية جزءًا من التنكيت العام والسخرية، فبقدر ما صعد الخطاب العنصري صعد معه للأسف الخطاب المعادي للسامية، لكن في الحالة الثانية كانت القوانين جدّ رادعة وغير متسامحة، بينما تقاعست أمام ما يتعلق بالعنصرية لأسباب دينية عميقة تارة، وتارة أخرى استجابة لخطاب مهيمن.
هذا الخطاب على المستوى العالي خلق له منظرين وضعوا المهاجر على أنه مهدد لهم في حياتهم، بل أكثر من ذلك حين عدّوه مفككًا للهوية الفرنسية الموحدة التي لا يستطيع أحد تحديدها. نقاشات الهوية التي بعث بها ساركوزي الذي جاء لـ«يكرشر»، أي يمسح الخارجين عن القانون من سكان الأحياء القصديرية، لم تنفع كثيرًا تلك الحركة التي قام بها شباب الأحياء؛ لأن الوضع الاجتماعي لم يتغير، بل تفاقم وتفاقمت معه البطالة والجريمة، وقد دعم ذلك خطاب عالم شديد الخطورة له تأثير كبير جدًا.
لعبت القنوات التلفزيونــية المتعاطفة دورًا كبيرًا في ما كان يقوله المفكر والأكاديمي آلان فيلكنراوت في كتابه (الهوية البائسة) الذي حلل فيه اختلالات الهوية بسبب الهجرات المتعاقبة وعدم قدرة الإسلام على استيعاب الحداثة والنموذج الأوروبي، وكأن هذا النموذج يقع خارج النقد. وعلى الرغم من خطاب برنار هنري ليفي الفلسفي، إلا أن فلسفته لم تمنعه من أن يكون مستشارًا لساركوزي خاصة ما يتعلق بالحالة الليبية التي تدين له اليوم بكثير في دمويتها وتفككها وانهيار شبه الدولة الذي كان قائمًا.
لا أعرف كيف يواجه هذا الوعي الشقي والأعمى في لاإنسانيته آلاف الضحايا الذين كانت له مسؤولية في سقوطهم ظلمًا. ثم يأتي في السياق التسلسلي نفسه إبريك زمور، الذي أوصله خطابه المتطرف ضد العرب والإسلام إلى القضاء، إذ جمع المسلمين كلهم في سلة واحدة، الداعشي والمسلم بالفطرة أو بالوراثة، في خلطة، فأصبح كل من ينتمي إلى الاسلام عدوًا للحضارة والحرية. وما أشبه البارحة باليوم، عندما أصبحت اليهودية عدوًا كليًا يستحق الأيادي في الفكر الكهنوتي في أندلس محاكم التفتيش وفي الفكر النازي الذي انتقل بسرعة من خطاب المعاداة إلى الهولوكوست.
لا أدري إن كان إريك زمور يعرف أنه كان يلعب في ساحة شديدة الخطورة سببت إبادة أكثر من ستة ملايين يهودي؟
عندما تفتح حنفيات التطرف لا أحد يستطيع التحكم فيها، لا يمكن محاربة الإرهاب بإنتاج إرهاب جديد، فمن يقرأ رواية ميشيل هولبيك، «الإذعان» (la Soumission)، سيجد الحالة مجسدة إبداعيًا كما أرادها كاتب الرواية.
فكل إرهاب يستند إلى ثلاث ركائز مهمة لضمان استمراره واتساعه: خطاب يسند ذلك الإرهاب بشكل دائم، وقد وجد في مناخ الخوف الذي زرعه القتلة الإسلاميون والمتطرفون الغربيون من الذين نظروا للحالة. ثم المال من أجل شراء الأسلحة وغيرها، وكثيرًا ما وجدوا هذا المال في المنتجعات المالية العربية، أو بفعل بيع المخدرات التي سهلوا عبورها وتكونت المجموعات الفعالة باسم إسلام مفبرك يبيح كل شيء وقت الحاجة، حتى الزنا والاغتصاب.
أما ثالثًا فبإشاعة إسلام الرعب والخوف وتدمير دول بكاملها وتتويه شعوبها والزج بهم في المنافي وطريق الضياع والعدم، خاصة في سوريا والعراق واليمن، ليبدأ زمن آخر سيدته إسرائيل، تلك الدولة النووية الوحيدة في المنطقة، بلا منازع.
كيف لنا أن لا نتوقع- في ظل هذه الخطابات العنصرية في الوسائل الإعلامية الثقيلة وتوجيهها للرأي العام- ما فعلته إسرائيل عندما اعتدي على المفكر الفرنسي بونيفاس ولم تدافع عنه أية قناة تليفيزيونية من تلك التي يسيطر عليها كارتيل معين برؤية لا ترى إلا الحقيقة التي تريد؟ مع أن صور الاعتداء في مطار بنغوريون واضحة، والشتائم مسموعة، حتى الشرطة لم تتدخل! لقد مر الأمر إعلاميًا وكأن أمرًا لم يحدث، فالاعتداءات الكلامية كانت واضحة، والدفع واللكم كانا واضحين أيضًا، فضلاً عن أنه اتهم في المطار بمعاداة السامية.
ومن يعرف بونيفاس ومن قرأ له لا يمكنه أن يتهمه بهذه الصفة. كل هذا التيار المتوازن الذي يمثله بونيفاس لا صوت له. إن هذا الخطاب المعادي وهذا الخواء المساعد تولدت عنهما كل التطرفات التي لم تكن تنتظر إلا ذلك، ومنها هذه المجموعة الإجرامية اليمينية المتطرفة الشديدة الخطورة التي ضبطت بقوائم للقتل وهي تستعد لارتكاب سلسلة من الجرائم ضد الشخصيات المسلمة أو القريبة منها والعربية. أعتقد أن هذه المجموعة ليست إلا الوجه الآخر لعقلية داعش.
* عن القدس العربي