هل لا يزال لدينا وقت لإخفاء الشمس بالغربال؟ الحقيقة مرة وتقهر هشاشتنا الإنسانية، وتجعلنا نعيد النظر في شرطيتنا الحياتية: هل بقي فينا ما يمكن أن ندعي به إنسانيتنا التي توحشت كثيراً في القرن الأخير لدرجة أن أصبحت تعلن بعنف عن وحشيتها في وضح النهار بدون خوف من العقاب، ولكن هذه الشرطية القاسية نفسها، تنور المسالك وتفتح أبواب المستحيل، إذا فهمناها وأعددنا لها أسلحة المقاومة المناسبة لاستعادة ما سرق منا قبل أن نتحول إلى التقتيل والتناحر. ليست المسألة من قبيل نظرية المؤامرة لأنها تتعلق بالإنسان أينما وجد وليس بالعربي فقط الذي تم الدفع به إلى الوراء ليظل خارج التاريخ.
ماله جيد بينما هو لا يقبل ولا يحتاجونه وليظل في دائرة التخلف لتتم السيطرة عليه في كل عصر. الإنسان وإعادة صياغته وتشكيله. الحروب تفقد الإنسان إنسانيته وتجعل منه كائناً يدور داخل منطق القوة إما منتشياً أو مهزوماً. يمكننا أن نتخيل وضعية أجيالنا العربية القادمة التي لم تعش إلا الحرب وراء الحرب، قبل أن تهيكل دواخلها الحروب الإقليمية المنظمة في مشهدية تراجيدية غير مسبوقة. بغض النظر عن المعتدي والمعتدى عليه، النهاية واحدة: بلدان خربة وشعوب مقتولة لن تقوم لها قائمة، ولا مستقبل لخياراتها، هذا إذا كانت لديها خيارات. عالم الحروب المعمم جعل المواطن العالمي يعيش في خوف وكراهية غير مسبوقة.
كل يوم تكبر أكثر وتمس قطاعات واسعة. الشخص يكره نفسه أولاً لأنه لا يرى لها أي جدوى. الأشخاص يكرهون بعضهم بعضاً. وعلى مستوى أوسع، الدول تتبادل الكراهية لأسباب تاريخية حضارية أو مصلحية. وعلى الرغم من وحدانية الله، تكره الأديان بعضها كما لو أن كل دين هو المحق الوحيد في قصصه ومروياته وتاريخه. وكل دين يسحب الحق باتجاهه وينكر وجوده عند الأديان الأخرى.
ينسحب ذلك على الأفراد بسهولة وهم من يعطون كياناً وجسداً لهذه الكراهية. حتى الديانات المسالمة التي لا دعوة لها للإنتشار بالقوة كما فعلت المسيحية وبعدها الإسلام، لا تنجو من فعل الكراهية المبطنة التي نراها في الكثير من الممارسات الخطابية أو المادية الفعلية، السيخي يكره البوذي، والبوذي لا يمنحه خده الأيسر لإكمال صفعته.
الأسود على الصعيد العرقي يمنحنا تاريخ العبودية كل أشكال الكراهية. كلها براكين تشتعل في الخفاء. الأسود يكره الأبيض ويمكنه أن ينسج كل المبررات لذلك، التاريخي منها والعنصري اليومي، والأبيض ليس أقل كراهية للأسود ويتهمه بكل ما راكمه عبر التاريخ من تهم ثقيلة وظالمة وعنصرية بررتها له الدراسات الإثنية والأنثروبولوجية الموجهة. الطوائف الدينية، كيفما كانت وجهتها وخصوصياتها لا تحب بعضها مهما بدت مسالمة بحسب ميزان القوى المسيطر. الكاثوليكي يكره البروتستانتي، في المسيحية نفسها، التاريخ البشري يبين قوة وتأثير هذا التراكم في الكراهية الذي أودى بالملايين ظلماً. في الإسلام، الشيعي يكره السنّي والعكس أيضاً يستقيم، كلما كانت الدولة الناظمة قوية، خفتت هذه الأمراض مؤقتاً، وكلما هرمت أو ضعفت، استيقظت وتحولت إلى كراهية تنتهي إلى حروب لا تنتهي. القبائلي والكردي يكرهان العربي والعكس صحيح أيضاً.
بين العربي والقوميات التي احتضنها حروب صامتة لا أحد يدري متى تشتعل. هل يمكن للبشرية أن تحارب المرض من جذوره لمحوه نهائياً؟ وهي تريد ذلك؟ أشكّك في أمر لا يعدو أن يكون مثالية لا معنى لها. تكاد تكون الكراهية قدراً بشرياً سيؤدي إلى إفنائه. على مستوى حضاري أوسع، الغربي يكره الشرقي، والشرقي يبادله نفس الكره الذي يتجلى في خطابات محتوياتها العميقة مفضوحة. مع أن لا بلد اليوم صاف، القوميات والعرقيات والأديان متداخلة في نسيج البلد الواحد. وهذا يرسم مستقبلاً غير مريح للأقليات في البلدان ذات السيطرة الدينية أو العرقية.
ويكفي أن نتأمل ما يحدث في زماننا القريب منا لندرك أن عالم اليوم تكبر كراهيته لدرجة أنه حوصلها ونظمها لأنها أصبحت متعددة الأقطاب. بل ويتحكم فيها الأقوى ويستعملها عند الحاجة القصوى.
ما حدث ويحدث في العالم العربي لا يمكن أن يكون نتاجاً محلياً فقط، ولكنه أيضاً ثمرة لتوجهات عالمية جديدة تتجاوز قدرات العالم العربي. لقد ضخمت السينما الهوليوودية المرتكزة على صورة كاريكاتيرية وسلبية للعربي، تنم عن كراهية شديدة كان يراد تعميمها عن طريق الصورة. وبالفعل ذلك ما حدث. فقد حفلت السينما الهوليوودية بالشخصيات العربية المتوحشة والمتخلفة ومصاصة الدماء والإرهابية. وتم تعميم هذه الصورة الانجلوساكسونية عن العربي عبر العالم. وأعادت أوروبا إنتاجها لإخفاء جرائمها ضد ما فعله استعمارها ضد جزء كبير من البشرية، أو ما فعلته ضد اليهود حيث أبيد شعب بكامله على أساس ديني، لدرجة أن الصورة المسوقة والمشحونة بالكراهية تجعلنا نتخيل وكأن العرب هم من تسبب في الهولوكوست؟ بينما لا كلام عن المتسبب الفعلي. الكراهية ليست عمياء فقط ولكنها شيء مفجع. ثم ضخمت صورة العربي القاتل حتى وصلت إلى العربي الإرهابي الذي احتل مكان الأمير دراكولا، الذي يتلذذ بإراقة دماء الأبريا في مجتمعات متقدمة بيضاء وذكية وبريئة.
لا نرى أبداً اليد التي تحرك المشهد وتصنع الصورة وتثبتها في أذهان الناس على مدار السنوات. مع أن في مجال الإرهاب، تفتخر بريطانيا وأمريكا وإسرائيل أيضاً، وبعض الدول التي تدور في فلكها، تفتخر بأنها كانت من وراء تدريب عصابات القاعدة لمواجهة روسيا، قبل أن تنقل عملها عميقاً في الأراضي الإسلامية والعربية، وترتد على اليد المصنعة.
ثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن عصابات الدولة الإسلامية وجدت حماية وتسليحاً لها في البلدان الأوروبية، وفي بعض الدول الإسلامية، لتفقد بعض الثورات العربية معناها إذ أصبحت رهينة أيد أجنبية تم من خلالها التدمير الكلي للعرب واستنزاف قواهم. لم يعد هناك من شك في أن التهجير اليهودي من البلاد العربية كانت وراءه أيد نظمت عمليات إجرامية التخويف وتسهيل عمليات الهروب والتهجير نحو إسرائيل. شهادات المثقفين اليهود العراقيين الذين تركوا بلدهم الذي ولدوا وكبروا فيه وهربوا بسبب التهديدات وكراهية العرب لهم، إو على الأقل هذا ما صُوّر لهم.
وتم تفريغ الشرق المتعدد من يهوده، ويتم اليوم إفراغه من مسيحييه وفق خطة جهنمية أعدت سلفاً وروعي فيها عنصرا الكراهية والتخويف. كل شيء حفاظاً على حياتهم. مما عمّق الكراهيات المختلفة وانهارت المواطنة، القوة الحافظة للوحدة، وتخلت عن نظامها الحامي للأفراد والجماعات. هذا لا يعني أن العرب ملائكة، فالكم من التجهيل الذي غرسته الأنظمة الديكتاتورية في شعوبها، برعاية إمبريالية، يبيّن أن مسؤولياتهم ليست أقل، بل يتحملون مسؤولية الانهيارات العربية المتلاحقة، لكن اليد الكبرى التي تسيّر كل هذا من مخابر معدة سلفاً لذلك، لا شك فيه. بعد أن تحكمت هذه الأيدي على المنابع الاقتصادية العربية تحديداً، تتحكم اليوم في فعل الكراهيات وتسعى لتوجيهها بدقة. ما يحدث في العالم العربي اليوم من تدمير ذاتي لا يخرج عن هذا. الزمن القادم لن يكون إلا زمن الكراهيات التي ستتنوع وتتعدد داخل أرضية لا تزال خصبة.