بعد 70 عاما على النكبة لازالت إسرائيل الصهيونية تمارس سياساتها ضمن مشروع بناء دولة تتميز بالقوة لكنها غارقة في العنصرية وروح التوسع والعدوان، تبني الصهيونية بإحدى يديها دولة لكنها تدمر باليد الأخرى المحيط العربي والفلسطيني وكل القيم والاخلاق المرتبطة بحقوق الإنسان والمواطن والارض.
وبعد 70 عاما من النكبة لازالت الصهيونية مشروع تجميع اليهود في وطن ليس لهم، هو نفسه مشروع تدمير أوطان الآخرين في العالم العربي والإسلامي. طالما الصهيونية مستمرة في سعيها لتحقيق أهدافها على حساب الشعب الفلسطيني وارضه وحقوقه ثم على حساب العرب وحقوقهم ومكانتهم وعلى حساب المسلمين وهويتهم لن تشهد منطقتنا ولن يشهد اقليمنا العربي والإسلامي الاستقرار المنشود.
في الذكرى السبعين لازالت الصهيونية تريد ذات الشيء الذي بدأته منذ النكبة، أي انها تريد المزيد من التهويد للارض، والمزيد من السيطرة، والمزيد من رموز القوة العسكرية والنووية والاقتصادية، بل تريد المزيد من تبني الرؤى الدينية والقومية المتعصبة.هذا يعني في الممارسة العملية ان كل من هو ليس يهوديا من سكان البلاد الاصليين في فلسطين يجب ان يشعر بتهديد مباشر من الصهيونية.
بعد سبعين عاما تهدد الصهيونية دول خارج محيطها كإيران وتركيا، وتسعى للتحكم بمفاتيح السياسة الأمريكية في قضايا الشرق الاوسط ومنطقة الخليج، وكأن المستوطنين قد دخلوا البيت الابيض وتحكموا بسياساته تجاه القدس وفلسطين وإيران وتركيا والخليج. ترامب نموذج لوصول عتاة اليمين للبيت الابيض، بل نموذج لوصول فكر الاستيطان للعاصمة الأمريكية.
بعد 70 عاما من النكبة وعقود على قضية العودة والحقوق التاريخية، لازال العالم العربي في صراعه مع الصهيونية في حالة مواجهة مع نفسه ومرآته وواقعه. بعد عقود من النزاع والحروب والثورات لازال كل شيء ينتظر نهضة العرب وصحوتهم من سباتهم، بينما العدو لازال في حالة هجوم مستغلا ضعف العرب في كل مكان.
بعد سبعين عاما على النكبة لم تنجح الدول العربية في بناء تقدم في وضع التعليم والتنمية، ولم تنجح في بناء ما يحترم الحقوق والمواطن، لهذا تشعر الدول العربية بضعف أمام إسرائيل وامام الغرب، فلا مواطنها ملتزم بها ولا هي متلزمة به، وهذا يجعل من بقائها مرتبطا بصورة اكبر بالامن والجيش والاجهزة القمعية وبصورة اقل بالشرعية والإنجاز. الدول العربية هي الاكثر تميزا في وسائل الضبط والاحضار والقمع والمحاكمة والتعسف، لكنها الأضعف في مواجهة التدخل الاسرائيلي والأمريكي في شؤونها. أصبحنا دولة قبيلة وطائفة أو دولة وحكما مطلقا بلا مساءلة او تفاعل. لقد أدى تقليص رقعة الحرية وسوء الإدارة، وانتشار الفساد لاستنزاف الدول العربية وتقوية الصهيونية.
بعد 70 عاما على النكبة لازال هناك مدرسة في الواقع العربي وفي العمق الفلسطيني ترى بامكانية النضال لتغير موازين وحماية حقوق تاريخية ووجودية. مسيرات العودة من غزة والى الحدود تعبير عن هذا الصمود في وجه الصهيونية. إنه نفس النضال الذي يشن من القدس والضفة وبقية فلسطين وهو نفسه مرتبط بنضال الحرية والتنمية في بقية ارجاء العالم العربي والإسلامي. في كل صراع مدرسة تؤمن بأن ما تحقق ليس نهائيا، وبأن انتصارات العدو الصهيوني بالامكان تحويلها لهزائم له، وان وجود ترامب وسياساته كاشف للحقيقة ومحفز للوعي.
بعد 70 عاما من النكبة يمثل الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للدولة الاسرائيلية واجراءات نقل السفارة للقدس يوم الاثنين 14 ـ 5 ـ 2018 واحدة من أعلى مراحل الرعونة والعليائية. سياسة ترامب الموجهة دينيا وأيديولوجيا والمتطرفة في صهيونيتها أحرجت حلفاء ترامب في الدول العربية، وخلقت مشاعر حزن وإحتجاج ممزوج بالضيق والألم في أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي. القرارات الأمريكية تجاه فلسطين في عهد الرئيس ترامب تؤدي بطبيعة الحال لمزيد من التراجع للنفوذ الأمريكي في الإقليم العربي والإسلامي.
هكذا بعد 70 عاما تقف ابنة الرئيس الأمريكي بزهو وفخر ويقف زوجها كوشنر (المسؤول عن ملف السلام في الادارة الأمريكية) باعتزاز في جبل في القدس المحتلة محاولا التصرف وكأن نقل السفارة الأمريكية انتصار للسلام والحياد. كم هو مخادع ذلك الوهم، فبينما الإحتفال مستمر وسط انغام من الموسيقى وكلمات تعكس جنون القوة وفاشية اليمين الاميركي والاسرائيلي وقعت مجزرة قبيحة في غزة. هكذا بينما تلقى الكلمات وتؤخذ الصور الخاصة بالاحتفال عمت المظاهرات والاشتباكات كل فلسطين. صورة الموت جنبا الى جنب مع الاحتلال والإحتفال مخادعة لكل من شاهد الموقف او شارك به. الحدث يذكر بفيلم التايتانيك وقيام مجموعة العرض بعزف الموسيقى وكأن شيئا لم يكن بينما كانت السفينة تغرق بكل الحاضرين. كتب احدهم في احدى الصحف العالمية: يبدو بأن ايفانكا ترامب في حفل السفارة في القدس هي ماري انطوانيت الصهيونية. فقد تصرفت ايفانكا وكأنها في لاس فيغاس وليس في فلسطين المحتلة حيث وصل الغضب اول امس في العالم الإسلامي والعربي كما وفي فلسطين لواحدة من أعلى قممه. لا يبدو من ابتسامة ايفانكا وكوشنر ان شيئا مما وقع خارج السفارة وصل اليهم، هذا تأكيد بأنهم يعيشون في فقاعة محكمة الاغلاق.
الغضب العربي مما وقع في نقل السفارة لم يصرف بعد، إنه من النوع الذي يتخزن في ضمير امة شعرت أول أمس كم هي ضعيفة ومفككة وكم هي بحاجة لإعادة النظر بكل ما أوصلها لهذه الحالة. الغضب العربي ليس جديدا، لكن ما وقع يوم الثلاثاء 15 ـ 5 ـ 2018 وجه صفعة لشعوب ممتدة عربية وإسلامية. هذا الشعور بالضغط والكبت امام القهر سيجد له تعبيرا في وقت من الاوقات. من يقرأ التاريخ يعرف بأن إهانة العرب والمسلمين في عقر دارهم وفي بلادهم والمستمرة منذ زمن سينتج ردا قد يختلف عن كل ما عرفناه في السابق.
لقد احتلت إسرائيل القدس الشرقية عام 1967 في حرب عدوانية على الدول العربية، وقد إعتبرت الأمم المتحدة القدس بالاضافة للضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء في حينها أراضي محتلة يجب عدم تغيير معالمها بل يجب إعادتها للسيادة العربية ضمن سياسة تهدف لحل الصراع. كل هذا سقط في ذكرى النكبة الـ70 مما أعاد الصراع لأسسه الاولى بلا الاوهام حول الدور الأمريكي المحايد والنزيه أو الدور الإسرائيلي القابل بحلول وسط. لقد عاد الصراع لنقائه الاول حول الحقوق التاريخية والأرض وحق العودة وحماية الشعب العربي الفلسطيني من جرائم الصهيونية وبشاعة اساليبها، والتصدي للفصل العنصري والتميز واخذ الارض والمكان والإبعاد والقتل.
بعد مرور 70 عاما على النكبة لازال الشعب الفلسطيني في الحلبة: لم يستسلم، ولم يقدم شرعية لأعدائه، لازال الشعب الفلسطيني يعيش على الارض التي تستهدفها إسرائيل بعدد يساوي عدد الإسرائيليين من اليهود. لازال الشعب الفلسطيني يزاوج بين وسائل النضال. من هنا قيمة أنماط جديدة للمقاومة المدنية في فلسطين. فالمقاطعة وإحياء الذاكرة، والصمود بواسطة الفن والإعلام والكتابة والتعليم والثقافة ومسيرات العودة وبناء المؤسسات وزرع الاشجار وتحدي الموانع وحماية الحريات، قد تكون الشكل الأهم للمقاومة التي تتواجه اساسا مع الصهيونية وآلياتها القمعية.
إن الطريق الثالث الذي لا هو عسكري ولا مستسلم للواقع هو نتاج طبيعي لتحول تاريخي لم يكتمل. الطريق الجديد شعبي الجذور يمثل أعماق الحالة الشعبية الباحثة عن المستقبل والساعية لاعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني.
? استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت