لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها؟ ممن؟ من طفل لا يملك إلا مقلاعاً والكثير من الإرادة؟ من شباب مسالم وجد سلاحه الأخير في إطارات السيارات لتضبيب الرؤية أمام أسلحة الإجرام؟ قليل من الحياء أمام الدم الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه بصدر عار أمام آخر الأسلحة الفتاكة، بعد أن يئس من الذل العربي. حد أدنى من التواضع أمام شاب محروق القلب بمرارة اليأس، لم يبق أمامه إلا جسده. لم يعد الفلسطيني الذي يرمي بنفسه في كل ثانية، في أتون النيران المشتعلة، يطلب من القادة العرب أن يدافعوا عنه، بعد أن أصبح صمتهم إذلالاً غير مسبوق.
هم أنفسهم الذين أقنعوه في 48 بغلق أبواب البيوت والخروج، وأخذ المفاتيح، والخروج لأيام، حتى يتم سحق عصابات الهاجانا والشتيرن، ليعود بعدها سالماً. خرج الفلسطيني وانتظر طويلاً. علّق المفاتيح على الخيام وانتظر أكثر. وضع لها مكاناً مقدساً على حائط البيت الذي بناه في المخيم. غسل المفاتيح التي تصدأت من شدة الانتظار ولا شيء حصل. أغلب المفاتيح ضاعت لأن الأقفال كلها غيرت ولا خيار له لاسترجاع بيته، إلا بالدفاع عن حقه في العودة بدون بركات أنظمة لم تبع البيت فقط، ولكنها باعت نفسها أيضاً. ماذا بقي لهذه الأنظمة سوى التدمير الذاتي بعد أن خسرت كل حروبها المعاصرة لأسباب كثيرة منها الخيانات المستشرية، سطوة الدكتاتوريات العربية العمياء والبليدة، التي تسلطت أو سلطت على الشعوب العربية لترويضها وإذلالها بعد أن أسكنتها في دوائر الفساد والتخلف، والبيع والشراء، بعد أن أحلام الفئات الشعبية الواسعة التي حققت بتضحياتها الكبيرة، الاستقلالات الوطنية.
وشلت كل الإرادات الشبابية بتجميد الحكم والسلطة في دائرة جيل أعطى لنفسه كل الشرعيات، على الرغم من تآكلها، أو في شباب لم يكونوا في المحصلة إلا البطانة الحامية للنظام التي تخرجت من نفس الحاضنة الصهيونية. وتم رهن المستقبل العربي وتدمير كل سبل النهضة التي صاحبت الفترة الوطنية والقومية والتي انهارت كلها. لا سياسة، لا ديمقراطية، لا تنمية، لا تقاسم عادل للثروات.
حروب بينية، وأخرى أهلية منهكة بالمال العربي، شتّت هذا العالم كلياً. لم نعد نملك أرضنا بعد أن اجتاحتها الحرائق أو سرقت في العلن على مرأى العالم. لم نعد سادة سمائنا بعد أن أصبحت مستباحة بدون التمكن من الرد. الصهيونية تتمدد وتتغطرس لدرجة أن أصبح ابتلاع القدس مسألة وقت.
السفارة الأمريكية في القدس ليست إلا نتيجة للمذلة العربية. وسيصبح الدخول إلى الحرم القدسي كما المقام الخليلي، كما الضفة، خاضعاً كلياً للكيان الصهيوني، وبحسب مزاجه وإرادته أكثر مما هو عليه الآن. أسوأ من ذلك، بعد قتل أكثر من خمسين فلسطينياً في يوم واحد، لم تعد للروح العربية أي قيمة. مجرد حشرة كما شاء لها القتلة. ابتذل الدم العربي لدرجة أنه أصبح لا يهم إلا المواطن الذي لا سلطان له. لم نعد نطلب من قادتنا العراة من أي حياء الدفاع عنا، ولكن فقط الصراخ أمام ظلم وجريمة موصوفة في عز النهار، انتفضت ضدها أوروبا وآسيا وإفريقيا، ودول صغيرة لا تظهر على الخرائط.
لم نعد نطلب من ترساناتنا العسكرية وطيراننا العسكري الذي يبدع بشكل غير مسبوق في تدمير كل ما ظل واقفاً في المدن والقرى العربية، أن توقف الغطرسة الصهيونية أمام شعب أعزل، وأن تحمي سماء منتهكة، ولم نطلب تفعيل سلاح النفط منذ أن استولى عليه اليانكي وأتباعه. لم نطلب من جامعتنا العربية الميتة التي أصبحت جثتها تفوح في كل مكان قبل أن تتحول إلى سم قاتل لكل من يقربها، أن تجتمع بشكل طاريء، حتى ببوابيها، وعمال صيانتها، ما دامت عاجزة على أن تجمع رؤساءها أو وزراء خارجيتها.
لم نطلب المستحيل، سوى أن تسحب سفيراً للتشاور فقط صوناً للعرض المنتهك، أو توجه رسالة احتجاج ضد القاتل أو مستبيح القدس الشريف وأرواح الغزاويين والفلسطينيين، أن تصرخ بيأس على الأقل ليعرف الصهاينة أننا لم نبلع ألسنتنا أستسلاماً لماكينة الإجرام المنظم، سنفهم حينها جبنها وسنبحث لها عن أعذار. ثم ماذا بعد؟ جريمتان موصوفتان في يوم واحد: سرقة القدس على مرأى من العالم، واغتيال منظّم لأكثر من خمسين شهيداً، وألفي جريح، أكثرهم في حالة خطيرة. وهل يُطلب من العاجز أن يكون كبيراً ونبيلاً؟ ألا اللعنة كلها على صامت أمام المذلة والجريمة.
خسر الحاكم العربي مبرر وجوده. لا حل سوى التفكير شعبياً من خلال المنظمات الحقوقية والاجتماعية ومجموعات النفوذ الوطنية والعالمية لمساعدة الشعب الفلسطيني بكل الوسائل المتاحة، للاستمرار في الحياة والمطالبة بالحماية الدولية، وحقه الذي لا يموت أبداً للبقاء في أرضه، ومقاومة القتل والطرد العنصري والديني الذي يتم تقنينه من طرف الصهيونية العالمية والمجالس الأسرائيلية. ما قام به ترامب ليس في النهاية إلا استمراراً لعقلية اليانكي الذي أباد الهنود الحمر، وسرق منهم كل شيء، بما في ذلك حق التنفس والمشي والحديث.
عزل الشعب الفلسطيني هو مشاركة ومباركة للمشروع الصهيوني. إسرائيل أسست لمشروعها الذي لا يزال مستمراً بشكل براغماتي. منذ التهجير الإجرامي في 1948، وهي تعمل على تحقيقه كمن يشتغل على لعبة الليغو، يركبها بتأن وفق خطة مسبقة، وكل يوم يضيف لها قطعة. ماذا فعلت مؤسساتنا وأنظمة المذلة سوى مباركة الطغيان؟ اليأس كبير وأصبح معمماً، لا تزال هناك أسلحة لم تفعل كما يجب على الصعيد العربي والعالمي المتعاطف مع الشعب الفلسطيني. المجموعات النافذة عالمياً واللوبيهات المعادية للفكر الصهيوني العنصري. لا تزال الثقافة أيضاً سلاحاً حياً. ولكن لهذا شرطية مسبقة، أن لا تظل فلسطين على صورتها الحالية الممزقة: فلسطينيو غزة.
فلسطينيو الضفة. وفلسطينيو الداخل أو 48. وفلسطينيو الشتات الذين يمكنهم مع الشتات العربي والعالمي أن يفعلوا شيئاً مفيداً لشعبهم. يحتاح العرب والفلسطينيون تحديداً إلى الكثير من الذكاء لاستعادة حق التفكير الجماعي وليس المناطقي، لتحرير أرض تسلط عليها أسوأ وأبغض احتلال وأكثره حقداً على العنصر البشري الحي. بدون وضع حد للتمزق الفلسطيني، سيستمر النزيف طويلاً.
*عن القدس العربي