عندما كلمني العزيز نصير شمة، الموسيقي الكبير، يدعوني لمعرض بغداد (29 مارس/آذار- 8 أبريل/نيسان)، لم أتردد كثيراً، ربما حباً في نصير، وربما رغبة في رؤية العراق، بعد غياب طويل، أو حتى تلبية لمغامرة مبطنة فيّ لرؤية الأشياء بعيني لأصدق أن العراق ببعض الخير.
لقد علمتني تجربة الجزائر، في العشرية السوداء، أن أحذر من إعلام لا تهمه الحقيقة بقدر ما تهمه الدعاية والسبق والتضخيم لدرجة أنني، أنا المرتبط بطلبتي في الدكتوراه، مرة كل شهر على الأقل في الجزائر، بدأت أتخيل أنه بمجرد نزولي وخروجي من مطار الجزائر، سأختطف وأقتل. طبعاً، المخاطر كانت موجودة ولكن في الجزائر أيضاً، حياة يومية للناس فيها قدر من الراحة.
لا يوجد إلا القتل. يوجد أيضا إصرار كبير على الانتصار لكل ما يضمن الاستمرار. من يومها تعلمت أن أنظر إلى الأشياء بنسبية كبيرة.
هو ما فعلته في زيارتي الأخيرة إلى بغداد. قررت السفر وأنا أقرأ أسئلة الحيرة في عيني ابنيّ باسم وريما، وزوجتي التي سبق أن زارت بغداد يوم فوزها بجائزة نازك الملائكة في عز أزمة الاحتلال، وعادت مزهوة على الرغم من أن الحقبة كانت صعبة جداً. لم تقل شيئاً إلا كلمة. إحذر قدر ما تستطيع. ننتظرك حبيبي.
وصلت إلى بغداد على متن «الإماراتية»، على الساعة التاسعة والنصف صباحاً. المطار يكاد يكون عادياً لولا الخلفية التي كنت أحملها عن حروب صدام الخاسرة، والاحتلال الذي ربما لم يغادر غرف برج المراقبة في المطار، وجرائم داعش. الوعكة الأولى كانت في الفيزا.
بعثت لي في وقت قياسي لكنها لم تكن قد وصلت بعد من وزارة الداخلية إلى المطار. لكن لباقة ضابط الحدود الشاب وطيبته وتعرفه عليّ وعلى الكاتب السوري الوحش، خفّف من وهن الانتظار الذي لم يكن مشكلة كبيرة في بلاد لا تزال علامات الحروب الفائتة على جدرانها. إتصلت بالعزيز نصير شمة لأخبره بؤس لي والوضع. البلاد، في النهاية، في حالة حرب. وما يحدث يكاد يكون عاديا. لا يعني هذا أننا لم نغضب، لكنه غضب العاشق.
من المطار إلى نزل بغداد حواجز وعلامات على الحيطان تبين أن الحروب الأخيرة التي مرت على المدينة والبلاد كلها لم تكن سهلة، وكانت مدرة للروح أيضاً. المدينة ليست حيطانا، وبنايات، ولكنها داخل يتجلى في علامات تقرأ في كل مكان بما في ذلك الوجوه. الحيطان الإسمنتية الثقيلة الواقية في الأماكن الرسمية، والأسلاك الشائكة تبين أن الحالة لا تزال هشة، لكن إرادة التخطي كبيرة.
في المقابل، حركة السيارات الكثيفة والزحمة والناس وابتساماتهم في الشوارع، حركات الشباب والرغبة في الانتصار للحياة، تعطي الإحساس بالأمان. إنتهى بنا المقام إلى فندق بغداد، في عمق شارع السعدون. أول شيء أراحني هو اللقاء مع شباب النزل الذين في حالة حب بشكل لا يمكن تصوره، جميلين ورائعين وثقافتهم أغلبهم خريج جامعات عراقية.
جولة صغيرة في شارع السعدون خففت قليلا من حالة الضغط النفسي. التحقت بنا الصديقة الروائية علوية صبح المصابة مثلي ببغداد. عندما اقترحت زيارة المتحف، كانت في رأسي صور المديرة أيام الاحتلال، وهي تصرخ في وجه العصابات المنظمة التي دخلت ونهبت على مرأى من دبابة أمريكية لا تختلف كثيراً عن آلات هولاكو البشرية، ولا عن عدمية داعش. شعرت براحة كبيرة عندما تجولت في أعماق المتحف، وكيف أعيد ترميمه. ربما لم يستعد كل القطع الثمينة، لكن الإرادة كانت كبيرة. ثم ذهبنا للمحاضرة المشتركة أنا وعلوية صبح، ثم التوقيعات.
القاعة كانت مليئة. في العراق شعب يقرأ ويصر على الحياة. لم تمسح الحروب قوته على الاستمرار في الوجود والهروب في عمق قصص الكتب. ما أسعد قلبي، عدد الشابات والشباب الذين كانوا يوقفوننا في أرض المعرض إلى المحاضرة للتصوير، أو لملاحظة صغيرة عن رواية من رواياتنا التي قرأوها. لم أحس يوماً بأنني أنتمي لمكان بكل حواسي إلا مرتين لدرجة الدهشة، الأولى في فلسطين عندما فجأنا في الأمسية التي نشطها الصديق إيهاب بسيسو في رام الله، وعندما ذهبت إلى نابلس، وطولكرم لاحقاً. هذه المرة كان التدفق كبيراً، محباً، وشاكراً، وسعيداً، ومناقشاً، وملوناً المكان بملابسه وعطره. لحظات من العمر لا تتكرر، في زمن عربي شديد القسوة. نقاشات، سجالات، توقيعات. كل شيء كان ينبيء بعرس. جميل. وكبير. عندما وقفت وراء جناح دار الكتب العلمية، لم أصدق ما رأيت. ثلاث ساعات وقوفاً للتوقيع.
من عاداتي أن لا أجلس أثناء التوقيع، يعطيني ذلك إحساساً جميلاً مع القارىء وشراكة حقيقية في المحاورة. القارىء صديق الصدفة التي سحبته نحو كتاب، أي كلمات حسسته بمشترك ما. وكان لابد من العودة في اليوم الثاني للتوقيع من جديد. التوقيع ليس فقط لحظة فرح للقارىء والكاتب ولكنه لقاء جميل بين عاشقين. الأول يكتب والثاني يقرأ ويشعر بنفسه معنيا بما قاله الكاتب. فقد رأيت فرحا لا يوصف في معرض الكتاب الذي لونته ألبسة الشباب الجميلين، والشابات الرائعات، القارئات بامتياز اللواتي أصبحت القراءة رهانا لهن للانتصار على صعوبات اليومي المفروض عليهن، وقلق المستقبل، بعد أن عشن في مجتمع لم يرين فيه إلا الحروب المتتالية، تحت مختلف اليافطات، والتقتيل الأصولي.
الكتاب فسحة، وفي العراق يصبح حياة موازية، مهما كانت الكسورات العميقة. أشهد أنني رأيت عراقاً حياً رغم الوضع السياسي الذي لا يخفى على أحد. هل يخرج العراقيون من الاصطفاف الطائفي الذي فرضه الاحتلال، ومنطق المحاصصة والاتجاه نحو عراق المواطنة، والأرض المشتركة والعراق الموحد؟ الرهان كبير، والذكاء العراقي أكبر. وقد يكون ذلك حلماً، لكن من قال إن الأشياء العظيمة لا تبــــدأ من الأحــلام؟ I have à dream، ألم يقلها لوثر كينغ في زمن عنصري سرق منه حياته، لكن حلمه استمر حتى تجلّى؟
*القدس العربي