الكثير ممن عاشوا الثورات العربية، مهما كانت نتائج هذه الأخيرة، وأسرارها، ومآلاتها، ينسون أنها حققت شيئا مهما لم يكن يتصوره أحد من قبل، وهو تدمير قضية التوريث في نظام يُفترض أنه جمهوري، مسألة الحكم فيه تحددها الانتخابات الديمقراطية، وليس الأسس العائلية، والقبيلية، والجهوية، والعرقية. فقد هزت هذه الثورات الكثير من المسلمات التي حولها الطغيان والظلم إلى حقيقة رديفة للهزيمة القدرية للشعوب العربية.
حتى أصبحت تتجلى بالمواصفات نفسها في الجمهوريات العربية التي اتحدت على تعطيل كل إمكان للحركة والتغيير. انتهى فجأة عصر التوريث الذي سنّه الحاكم العربي في النصف الأخير من القرن الماضي، الذي تحول بقوة الأمر الواقع إلى سيف ديموقليس المسلط على رقاب الشعوب العربية المنهكة والمنتهكة في أدنى حقوقها. بدا واضحا وقتها، ولو بشكل رومانسي، أن آفاق عالم جديد في الوطن العربي كانت ترتسم تلوح بقوة حاملة في أثرها، مثل الوادي الجارف، الآمال الكبيرة، وكذلك الأخشاب الميتة والفضلات التي رماها التاريخ بعد أن تعفنت وأصبحت معوقّا لكل تحول.
من بين الجثث التي بدت طافية على سطح هذا النَّهَر الجارف، جثة التوريث التي مثلها بامتياز زين العابدين بن علي الذي رهن تونس لأصهاره، فتقاسموها كما يحلو لهم، ومبارك أيضا الذي وضع، قبل الأوان، إرثا مصريا عظيما يزن القرون، بين يديه وأيدي أقاربه الذين كانوا يتهيئون لاستلام التركة.
وليبيا والعراق وسوريا واليمن الفقير الغني قبل أن يتحول إلى ميدان لحرب مدمرة. وبدأ الكثيرون، مَشرقًا ومَغربًا، يتحسسون كراسيهم، ويبادرون إلى المقترحات الاستباقية حتى يتفادوا رياح الثورة الساخنة، والمنتظرون في القائمة الطويلة كثيرون، من الذين كانوا ينوون توريث بلدانهم أو أشلاء أوطان ممزقة، لعائلاتهم أو قبائلهم. قبل أن يصمتوا أو يتراجعوا تكتيكيا لأن الفترة غير مواتية، في انتظار فترة مناسبة ينقضون فيها على الدولة أو بقاياها.
مِن أين نشأت فكرة التوريث البغيضة المعادية لأي نظام جمهوري، حتى في خصائصه الدنيا؟ كيف تم ابتداع شكل بديل متخلف، كنت أطلقت عليه في سنة 1988 عندما كتبت روايتي: رمل الماية/ الليلة السابعة بعد الألف: الجملكية La Royaupublique. فهو نظام يضم أسوأ ما أنتجته الجمهورية، وأسوأ ما أنتجه نظام الملكية، وأبغض ما احتوته الأنظمة القبيلية والبدائية. منذ تحقيق الاستقلالات الوطنية، في الثلاثة عقود المتتالية في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، بدا واضحا، منذ اللحظات الأولى، أن انسحاب المستعمر لن تخلفه أنظمة في مستوى تطلعات الشعوب العربية نحو العدالة، والحقوق والمواطنة الكاملة وغير المنقوصة. مضت السنوات الأولى بأنظمة تحاول تجميع التناقضات المختلفة من دون القدرة على الحسم الإيجابي معتمدة في عملها على القوى الأكثر تراجعا، وتخلفا مخافة الاصطدام معها ورهنت فعل التحديث بصناعات منفصلة كليا عن خصوصيات البلاد العربية الزراعية.
من نتائج ظلم هذه الأنظمة أنها أفرغت بلدانها من طاقاتها الحية والفعلية. فهيأت السرير لقوى التخلف، والبؤس الفكري والحياتي، والقصور الحضاري لتضع البلاد العربية بين مخالبها. بدا بشكل جلي، كأن الورثاء الجدد استلموا البلاد العربية نهائيا ولم تعد الانتخابات إلا شكليات لا تعني الشيء الكثير. من يحكم بلدا أكثر من ثلاثين سنة، لا يمكنه أن يتصور أنّ من يستلم البلاد بعده سيكون أفضل منه في التسيير. عقلية الأبوة التي تتكون مع الزمن ليست إلا وسيلة من الوسائل القمعية التي تضرب كل إمكان للثورة أو للتغيير. وتصبح فكرة قتل الأب بالمفهوم الفرويدي ضرورة قصوى لأي تغيير.
هذا الأب الحاكم، الخائف على وطنه؟ يذكِّر بقوة بالديكتاتور في أمريكا اللاتينية كما وصفته أعمال كبار الروائيين من أمثال غارسيا ماركيز، أليخو كاربانتييه، استورياس، وفارغاس يوسَّا وغيرهم؟ الذين جعلوا من فكرة الأبوة حالة مرادفة لنهايات الطغيان حيث يظن الديكتاتور من خلالها أنه استقر نهائيا، ولا يدرك أن فكرة الأبوة هي صورة لبداية تحلله وموته. فقد دفن ورثاء حركات التحرر الوطني كل قيم النبل التي بنت الجمهورية عليها مشروعَها الأساسي: الديمقراطية، حرية التعبير، الحق في المواطنة، العدالة الاجتماعية، التوزيع العادل للثروات، والتساوي في الحقوق والواجبات.
جاء فعل التوريث بشكل متدرج. الاستيلاء على تسيير البلدان العربية عن طريق انقلابات تصحيحية؟ تعيد الجمهورية إلى مساراتها الطبيعية مقابل الذين انحرفوا بها عن جادة الصواب؟ وعندما استتب لهم الأمر، وكونوا شبكة غير محدودة من المصالح والمصاهرات، استلذ الحكام العرب كراسيهم، وأصبح فجأة بقاؤُهم إنقاذا للأمة، وذهابهم خرابا لها.
لا يوجد نظام عربي واحد تم فيه الانتقال بشكل ديمقراطي سلسل يحترم اشتراطات النظام الجمهوري، قبل بدء فعل التوريث الذي تحول إلى شكل من أشكال دوران السلطة داخل البيت الواحد، أو العائلة الواحدة، أو القبيلة الواحدة، وكأن البلاد لم تنجب إلا عائلة تفردت بالإمكانات العقلية والمادية والمالية والتسييرية كلها. وفجأة فتح المجتمع أعينه على نظام تُشكل فيه العائلة بمعناها الأكثر ضيقا، العصبَ الأساسي في نظام الحكم. وبدأ نظام جديد يلوح في الأفق هو اختزال عظيم لكل قيم الانتهازية والتخلف، والقبيلية، والجهوية البائسة، في صورها الأكثر تهالكا: نظام الجملكية. الذي انتمى له الكثير من المثقفين الانتهازيين، الذين وجدوا فيه وسيلة لحماية البلاد من التدخلات الأجنبية والتفكك الداخلي.
نظام لم يسبق أن رأيناه في التاريخ البشري الذي تحددت فيه الخيارات بقوة الثورات طبيعة النظم الملكية والجمهورية. الجملكية استفادت بانتهازية نادرة من منافع النظام الملكي الأكثر تجبرا، ومنافع النظام الجمهوري الأكثر سوادا، من حرية النهب وديمقراطية التقتيل، ومواطنة المصالح الفردية الضيقة والفساد، ودُفع بجزء كبير من أفراد المجتمع إلى الحفر والسجون والظلم. وبدت الجملكية كأنها النظام الأوحد القادر على جمع الممارسات الانكشارية الجديدة التي كونتها الأنظمة العربية المسماة جمهورية، وخلق نوع من التحالف المصلحي الضيق والنفعي.
لنجد أنفسنا في نهاية المطاف أمام أنظمة لا اسم لها إلا الدكتاتورية التي ولَّفت كل شيء حسب أهوائها من أحزاب، لا تحمل من السياسة إلا اسمها، ودساتير فصلتها حسب مقاساتها، تضمن لها الاستمرار الأبدي في الحكم، بعهدات متلاحقة لا شيء يوقفها، ولا يزيلها حتى الموت لأن الوريث يكون قد هُيِّئ سلفا، محاطا بمافيا تعيش على هامش الصفقات الكبرى التي تسيرها العائلة وحواشيها من المستعاشين الذين يؤتى بهم جهويا لخدمة الأنظمة المتعاقبة، في صلب دواليب الاقتصاد.
الثورة في البلاد العربية، هزت نظام الجملكية في أسسه العميقة، وأنهت هذا النظام المتخلف وأعادت إلى الواجهة نقاش الجمهورية في صفائها الأول. بغض النظر عن البدائل التي جيء بها لاحقا، فقد كُسر نهائيا، يقين النظام التوريثي الذي شكل البنية التحتية المتينة للنظام الجملكي، وقبل قيام الجملكيات العربية المتحدة.
القدس العربي