أسئلة كثيرة أثارها -ولا يزال يثيرها- ذلك اللقاء الذي تم بين قادة حماس في قطاع غزة ومحمد دحلانغرد النص عبر تويتر في القاهرة، والذي تلاه حديثه إلى جلسة للمجلس التشريعي في غزة (عبر الفيديو كونفرنس)، وتصاعدت الأسئلة أكثر فأكثر بعد تصريحات قائد الحركة في غزة يحيى السنوار عن العلاقة مع إيران وتركيا وقطر ومصر والآخرين، بمن فيهم نظام بشار الأسد (28/ أغسطس/آب).
من الواضح أن اللقاء مع دحلان ثم تصريحات السنوار إنما هي تعبير عن هواجس الحركة في القطاع، من دون أخذ مصالح عموم الحركة في الاعتبار، وخاصة في الضفة الغربية (دعك من الشتات)؛ فضلا عن مصالح القضية بشكل عام.
منذ عام 2006، وحماس تعاني من تيه سياسي رغم كل البطولات والجهود العظيمة التي بذلتها، والسبب بالطبع هو مشاركتها في انتخابات سلطة أوسلو (السلطة الفلسطينية) عام 2006، وهي سلطة صُممت لخدمة الاحتلال، ثم تصاعد الموقف حين تم استدراجها لحسم عسكري أفضى إلى سيطرة كاملة على قطاع غزة، مما حوّلها عمليا إلى حركة لإدارته وتأمين متطلباته والدفاع عنه، أكثر من مبرر وجودها المتعلق بالقضية برمتها.
الجمع بين السلطة والمقاومة وهمٌ كبير غرق فيه البعض، وجاءت جولات المواجهة مع العدو منذ نهاية 2008 لتعزز هذا الوهم، في تجاهل لحقيقة أن العدو هو الذي كان يهاجم وأن ما يفعله القطاع هو الدفاع لا أكثر، مع فارق هائل في الخسائر، وبالطبع لأن الحرب هنا تتم بين جيشين وليست حرب عصابات كما في حالات المقاومة، والتي لا تزال متاحة في الضفة وما تبقى من فلسطين.
والخلاصة أنه مهما راكم القطاع من سلاح فإنه -بوضعه المحاصر- لن يشكل تهديدا وجوديا للاحتلال، ومن يطلب التهدئة وإعادة الإعمار لن يهاجِم كي يدمَّر من جديد، لا سيما أن هجومه قد يوجع العدو لكنه لن يشكل تهديدا وجوديا، وستكون خسائره أكبر بكثير، من دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية قاعدة المقاومة التي بُنيت، ويمكن توظيفها ضمن مواجهة شاملة مع العدو.
وما يذكّر أكثر بوهم الجمع بين السلطة والمقاومة هو سؤال: ماذا لو كانت السلطة تشمل الضفة الغربية حيث يوجد جيش الاحتلال؟ من هنا يبدأ نقاش جوهر هذه السلطة ووجودها وخطيئة المشاركة فيها، فهي مصممة لخدمة الاحتلال، وحين حاول ياسر عرفات -رحمه الله- التمرد على طبيعتها وقع له ما يعرفه الجميع.
مصيبة السياسة تبدأ حين تجري الإجابة على السؤال الأول، ويتم تجاهل السؤال الثاني والثالث وما بعد ذلك؛ فحين اتُخذ قرار الحسم العسكري -وأيضا بقرار منفرد من قطاع غزة دون علم الضفة والخارج- لم يسأل أهل القرار أنفسهم: ثم ماذا بعد؟ وكيف تتم السيطرة على جزء صغير من البيت، ثم يُترك الجزء الأكبر منه مستباحا للطرف الآخر وسياسته المعروفة، بدعوى الدفاع عن النفس (تم تجاهل ما سيجري لفرع الحركة في الضفة)؟
لم يطرح سؤال: ماذا بعد ذلك؟ هل سيتم القبول بانتخابات جديدة سيحشد الطرف الآخر فيها بكل وسيلة ممكنة للفوز بالتحالف مع آخرين؟ في ظل حقيقة أن الفوز الأول لم يكن بتفوق كبير لولا قانون الانتخاب (القائمة والدوائر)، وحيث لم تتجاوز نسبة التفوق في نظام القائمة سوى 3% حين كانت حماس في ذروة تألقها. أم سيتم فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، ومن ثم الوقوع في أسر الجار المصري بأجندته المعروفة؟
لم يسأل أصحاب قرار الحسم هذه الأسئلة، واكتفوا بالقول إن الطرف الآخر كان يقتل ويضطهد، في تجاهل لحقيقة أن العدو الصهيوني لم يكن يمانع في ذلك الحسم، بل كان يفضله كما كشفت ذلك وثائق ويكيليكس، وفي تجاهل لمصير فرع الحركة الآخر في الضفة والثمن الذي سيدفعه، وقد دفعه بالفعل. وهكذا تحوّلت حماس -منذ صيف 2007- إلى حركة لإدارة قطاع غزة، والدفاع عنه، وتأمين متطلباته، وبقيت القضية الكبرى أسيرة برنامج العبث الذي تمارسه قيادة السلطة التي يعترف بها العالم.
ولو تركت الانتخابات برمتها -كما حدث في 1996، حين حضرت بوصلة الشيخ الشهيد أحمد ياسين الواعية- لأخذ عباس فرصته المحدودة في التفاوض المعروف النتيجة بالطبع، ولكان بالإمكان بعدها حشد الشعب الفلسطيني في سياق المقاومة، بعيدا عن سياسة العبث التفاوضي، تماما كما حدث بعد أربعة أعوام من انتخابات 1996، في سياق انتفاضة الأقصى بعد قمة كامب ديفد صيف 2000.
الآن، وعبر التفاهمات مع دحلان ومصر؛ ينهض الخوف من تحوّل قطاع غزة إلى دولة جوار يحكمها فرع حماس هناك بالشراكة مع فرع "فتح"، وبضمانة جهات يعرف الجميع طبيعة مواقفها، من دون الجزم بتحولات الموقف التالية في العلاقة بين الطرفين.
أما العلاقة مع دولة الاحتلال، فيعلم الجميع أن دور القطاع في مقاومة العدو لا يتجاوز رد عدوان لن يحتاج العدو إلى شنّه ما دامت قيادته (أي القطاع) ملتزمة بالضوابط، وستلتزم أكثر بسبب حاجات أهله ومعاناتهم، الأمر الذي يتعزز في ظل الهدوء النسبي بالضفة، وحيث يردد الناس هنا: لماذا نبقى نحن وحدنا في المعاناة، بينما يعيش الشق الآخر من الوطن في وضع أفضل؟!!
وفق الصيغة الجديدة التي تبشرنا بها تفاهمات حماس مع دحلان؛ ستكون التهدئة الدائمة هي العنوان، تماما كما يحدث مع دول الجوار الأخرى (كانت سابقا تسمى دول الطوق)، فيما ستبقى الضفة الغربية أسيرة العبث التفاوضي، ولا يُستبعد أن يُفرض عليها الحل المؤقت، إن كان باعتراف رسمي أم بحكم الأمر الواقع، وسيتحول المؤقت إلى دائم، ولا يكون بوسع حماس -التي صارت قيادتها في غزة- المطالبة بالمقاومة في الضفة وهي تفصل القطاع، وتقبل بهدنة بلا سقف مع العدو.
لا يتوقف التيه عند هذا الحد، فما عبّر عنه السنوار فصلٌ آخر، إذا إن أحدا لا يمكنه إدراك كيف يمكن له وللحركة جمع إيران وتركيا وقطر والإمارات ومصر في صعيد واحد؟! ولا تسأل بعد ذلك عن خسارة الرأي العام العربي والإسلامي -ومنه الفلسطيني أيضا- بالعلاقة المتنامية مع إيران، وهي تشن عدوانا سافرا على الأمة يستعيد ثارات التاريخ، ويستخدم القضية للتعمية على أهدافه الطائفية المفضوحة، في حين لا شيء في موازين حركات الثورة والتغيير يعدل خسارة الحاضنة الشعبية، من دون التقليل من أهمية القول إن الحاجة ماسة، وإنه يجوز للمضطر أن يأكل الميتة.
من السهل أن يخرج عليك البعض بسؤال: "وما هو البديل؟"، تماما كما فعل أنصار اتفاق أوسلو عام 1993، حين كانوا يردون على رافضي الاتفاقية المشؤومة، بسؤال: "ما البديل، ونحن مشتتون في الأرض والعدو في وضع مرتاح؟".
من يتورط في المسارات الخاطئة ينبغي أن يعترف بما تورط فيه ابتداءً، قبل طرحه سؤال: "ما البديل؟"، مع العلم بأن أي مسار يضيّع القضية ليس بديلا، فهذه حركة تأسست من أجل تحرير فلسطين، وليس من أجل إقامة سلطة على 1.5% من مساحة فلسطين التاريخية، وهي (أي الحركة) ستفقد جمهورها إذا ضيّعت البوصلة.
وحين تتورط في خيار كهذا، يكون عليها أن تعيد النظر في كل مسارها، لا أن تستسلم له ولمتطلباته ثم تسأل من يرفضونه عن بديلهم، فضلا عن استخدام لغة جماعة أوسلو في توصيف الرافضين "المرتاحين"، وترديد أن "اللي إيده في الميْ مش زي اللي إيده في النار"!!
هل سأل من صافحوا دحلان أنفسهم: لماذا سيصالحهم؟ وما هي أجندته وأجندة المحور الذي ينتمي إليه؟ ربما سألوا، لكنهم تجاهلوا ذلك واعتمدوا على نظرية أنهم أذكى، وأنهم سيدبرون الأمر، لكأن الطرف الآخر غبي لا يدري ما يفعل، ولا تسأل عن أجندة إيران في هذه اللحظة التي تزهو فيها بامتداد نفوذها من طهران إلى المتوسط.
الآن، وفي حال استمر المسار الذي نتخوّف منه؛ قد تدفع الحركة في الضفة ثمنا جديدا يضاف إلى ما دفعته سابقا، بعد الفوز في الانتخابات وبعد الحسم العسكري. هذا رغم أن عباس لن يكترث واقعيا بانفصال القطاع عن الضفة -وإن قال غير ذلك- ما دام أن غيره سيتحمل وزر ذلك، وما حاجته بقطاع يتوزع بين عدوين (حماس وجناح فتح الذي يسيطر عليه دحلان)؟!
على قادة وكوادر حماس العقلاء أن يرفضوا هذا المسار، ويشيروا إلى أن الإصرار عليه قد يفضي إلى انفصال حماس القطاع عن حماس الضفة والخارج (سيحدث ذلك مع فتح أيضا)، والحديث عن أن ما سيجري ليس انفصالا كلامٌ بلا قيمة من الناحية العملية، ولا شك في أن كثيرين بالقطاع يرفضون ما جرى ويجري، وإن غُيبت أصواتهم أو غابت خشية الصدام مع الآخرين.
إن الحل الأفضل هو البحث عن أي وسيلة للتخلص من عبء السلطة في القطاع مع الاحتفاظ بالسلاح، وهنا يجب إحراج عباس أمام الشعب بالتعاون مع كل الفصائل، لا سيما أن مسألة السلاح تحظى بالإجماع. ويمكن في هذا السياق طرح مبادرة وطنية كبرى عنوانها إعادة تشكيل منظمة التحرير كواجهة سياسية للشعب الفلسطيني عبر انتخابات في الداخل والخارج، وجعل السلطة في الضفة والقطاع إدارية فقط، وتُدار بالتوافق.
السياسة لا تحتمل الأخطاء، وعلاج تبعات الأخطاء الإستراتيجية أكثر صعوبة بكثير، لكن بداية التصحيح يجب أن تتمثل في الاعتراف بالخطأ، ومن دون ذلك سيعلو صوت الانتهازية، وليس في السياسة أي شيء لا يمكن تبريره.
نكتب هنا من باب النصح، لأننا نعتقد أن حماس حركة كبيرة، لها تراثها العظيم في وعي الشعب بما قدمته من تضحيات وبطولات رائعة، وهي تستحق أن تُدار بقدر أكبر من الحكمة التي لا تضيّع ذلك الإرث لعظيم. ولا شك في أن إصلاح الموقف لا يزال ممكنا.
الجزيرة نت