في الثورة المصرية على وجه التحديد كان الشعار الأساسي «عيش حرية كرامة إنسانية»، وقد سميت الثورة التونسية بثورة «الحرية والكرامة». فالثورات العربية التي امتدت لسوريا وليبيا واليمن وتحولت لحراكات سياسية في دول أخرى كادت أن تغير وجه العالم العربي. لقد استندت الثورات على قاعدة شعبية وتنظيمية غير مجربة، كما أنها حوربت بشدة من قبل قوى عديدة جوهرها النظام العربي القديم. لقد استمر التراجع العربي لأن النظام العربي القديم لم يسع لاستيعاب رسالة الثورات. إن الظروف التي أدت للثورات مازالت حاضرة اليوم.
لقد حرك «العيش» الثورة المصرية لأنه ارتبط بالبطالة والفقر والعشوائيات والنظام الاقتصادي وغياب الحد الأدنى للأجور، وارتبط العيش بكل ما يتعلق بالفساد وخنق الطبقة الوسطى. فالجشع والطبقية المبالغ بها في ظل العزل الاقتصادي لفئات واسعة من المجتمع حركت الجماهير. «العيش» احتجاج على الفوارق المالية غير المبررة، واحتجاج أكبر على الاغتناء المفاجئ لأفراد لمجرد ارتباطهم بالسلطة السياسية والأمنية. لقد عبر «العيش» عن سعي الناس لتحسين واقعها وتغير شروط عيشها وعملها. ان الظروف التي أدت للثورة في مصر وغيرها من الدول العربية مازالت قائمة بل تزداد كثافة اليوم.
لكن «الحرية»، وهي الجزء المكمل للعيش، فقد عنت حرية الناس في التعبير عن آلامها واحتياجاتها في قول رأيها بهدف الكشف عن الأخطاء التي ترتكبها الدولة والفئات الحاكمة. الحرية في هذه الحالة عنت الحق في تشكيل سلطة المواطن في الرقابة والنقد. وتشمل «الحرية» حق التظاهر والتنقل والحق بحياة سياسية منفتحة تتضمن تشكيل الأحزاب والنقابات. وقد عنت «الحرية» الحق بألا يقيد المواطن بالقوانين والمحاكمات التعسفية التي تهدف لتدمير حرية التعبير والتجمع. «فالحرية» تتناقض جذريا ووجوديا مع استمرار الدولة الأمنية بكل تعبيراتها الفجة. إن استمرار غياب الحريات مدخل للكثير من التمرد والثورات القادمة في الإقليم العربي.
أما «الكرامة الإنسانية» فهي الجزء الأهم من الشعار الثلاثي الأبعاد. «الكرامة» هي السبب الأهم في ثورات الربيع العربي، فما وقع مع خالد سعيد من تعذيب وقتل ثم الكذب الذي قامت به الأجهزة الأمنية المصرية للتغطية على الجريمة ساهم أكثر من غيره في الثورة المصرية. وما وقع مع بوعزيزي من إهانة لكرامته أدى للثورة في تونس. قصة «الكرامة الإنسانية» قديمة لدى العرب اذ يتداخل معها الشعور بالعزة والشرف، فقيام حكومات وأجهزة بامتهان «الكرامة» من خلال السجن والتعذيب وإسقاط المواطنة والإهانة والتعسف والتشجيع على الاذلال عوامل ساهمت في الثورة وستساهم في القادم من حالات الثورة والتمرد.
إن جعل المواطن العربي ضحية لمهازل سياسية هو أمتهان لـ«الكرامة الإنسانية»، فعقاب المواطن على كل كلمة وموقف وما يسمى مؤخرا بتجريم التعاطف مع قطر يمثل إهانة لـ«الكرامة الإنسانية». كما أن الفصل التعسفي من العمل والإبعاد من الدول لمجرد طرح الرأي هو الآخر هدر لـ«الكرامة الإنسانية» في البلدان العربية. وتعيدنا الكرامة لجوهر أساسي من أبعاد السياسة والأخلاق. فعندما تكون السياسة في بلد أو بلدان، كما هو حال الواقع العربي، مكرسة لهدر لـ«الكرامة الإنسانية»، وإهانة المواطن وتدمير روح الاعتزاز بالذات فهي بطبيعتها ستؤدي لبذر روح الثورة.
لن تتطور الدولة العربية إن لم تعتمد على مجتمع حي متحرك يفكر بصوت عال ويمتلك حريات ثابتة وقدرة على التجديد الاقتصادي والإداري والمشاركة السياسية. إن المجتمعات التي تنتج حالة «عيش وحرية وكرامة إنسانية» هي الوحيدة في الزمن الحديث القادرة على مد تجديد الدولة. إن تراجع «العيش والحرية والكرامة الإنسانية» في العالم العربي عن المستوى الذي كانت عليه قبل ثورات 2011 يعني عمليا أن العالم العربي مازال يتعايش مع ذات الظروف التي أدت للثورات. مازال الحراك الثوري والسياسي العربي الهادف لتأمين حالة «العيش والحرية والكرامة الإنسانية» قائما في المدى المنظور كما والمتوسط، لقد حفر الشعار في التجربة العربية وهو باق معنا في الزمن القادم بسبب استمرار الدولة الأمنية العربية وبسبب الآمال والتطلعات المشروعة للشعوب العربية.
*الوطن القطرية