"ماتوا الرعية وخلفوا الجعانن ... باعوا الضميِد وسيبوا المكاين"
*مهجل من تعز
في رائعته "الأرض يا سلمى" انهمرت السماء كأفواه القرب على الآكام والشعاب والملاجح والعكد والأهواب، في حبكة سريعة وسلسة ورصينة ربط محمد عبدالولي بين السماء والأرض والإنسان في توثيق عجيب للقطة والتي قد لا تتكرر في مكان أخر غير اليمن، حتى لو تكررت فهذا شأن إنساني نسبي يختلف باختلاف الظروف البيئية والموضوعية والأنثروبولوجية، ومع أن القصة كتبت في 1958 إلا أنها بقت غضة طرية كأنها كتبت هذا الصيف، الإنسان اليمني هو ذلك المغترب والمرأة اليمنية تعمل في الأرض وتربي الولد، وتسقيه حب الأرض مع الحليب رضيعا، ومع البن شابا يافعا.
تمثل الأرض بالنسبة للإنسان اليمني قيمة عليا لا يمكنه التفريط فيها مهما كانت الظروف، الأرض بالنسبة له منبت الروح ومغرس الجسد، واقتلاعه من أرضه يعني له الموت، ولذا ظل مدافعا عنها وعن حقه في الحياة فيها وعليها وبين جنباتها، وتوارثت الأجيال المتعاقبة منذ آلاف السنين هذ الحب.
في حبكته القصصية يقول محمد عبدالولي على لسان الصوت الذي يخاطب سلمى "أنت تعرفين أن لا أحد سواك يعرف قيمة هذه الأرض .. فزوجك إن عاد لن يهتم بالأرض .. وابنك عندما يكبر لن تهمه هو أيضاً –سيتركها كما فعل والده ويذهب هناك بعيداً مثل الآخرين" وهو هنا يخاطب المرأة الأم ويربط بينها وبين الأرض ربطا عجيبا، والأصل تساوي الرجال والنساء في حب الأرض، لكن عبدالولي ربط المرأة بالأرض ربما لكونهما أمهات، ولهما من الصفات المشتركة ما يوثق العلاقة بينهما.
اغتراب الرجل عن الأرض هي المشكلة التي عالجها عبد الولي في هذا النص وفي نصوص أخرى "ليته لم يعد" الغوص في عمق المعاني هي طبيعة نصوصه، ربما في الستينات من القرن الماضي كانت هذه النصوص تقرأ بنوع من الشغف القروي وبنوع من الشجون، لكنها اليوم تقرأ واليمن تتعرض لمحنة نزع الإنسان عن أرضه التي يذوب عشقا فيها.
المجتمع المنتمي للأرض قديما كان يسمى بمجتمع الفلاحين المزارعين، لكن لظروف عدة ترك الرجل الأرض والزراعة والرعي واتجه نحو الاغتراب، لكن نصفه الباقي ظل فيها؛ أباه وأمه وزوجته وأطفاله.
بمجمل الحال لم يكن تخليه كليا عن الأرض، التخلي الجزئي أنهك الأرض والأسرة معا، وكان له الأثر السيء على البلد، قال صاحب المهجل التعزي وهو يتنهد خجلا مما فعله الاغتراب بالبلد، "ماتوا الرعية وخلفوا الجعانن ... باعوا الضميِد وسيبوا المكاين"، كان يعني ما يقول فبعد رحيل الآباء الكبار عن الدنيا وهم المهتمين بالأرض والزراعة والمواسم السبئية والحميرية ولم يعد أحدا يهتم بعلان والسابع.. اندرست معالم المواسم وصار المحصول شحيحا، وليتهم اتجهوا للصناعة لتعويض النقص الذي أحدثه ترك الزراعة، لكنهم غادروا تاركين مكائن الصناعة أيضا، ووصفهم "بالجعانن"، وهي صغار ثمار الدبا -القرع- التي تستخدم للحليب واللبن، بمعنى أدوات ضئيلة محدودة الاستخدام.
في الزمن الغابر يقال إن السيدة "مريم لم تتفرغ للحنق" بعد خصام مع زوجها، وعندما سئلت لماذا لم تذهب إلي بيت أهلها؟ قالت انتصف الموسم والمحصول يحتاج من يحصده والأغنام ستلد، فمن سيهتم بهن، وهذه أسباب كافية لتؤجل الحنق إلى ما بعد الموسم، كانت محقة فمن يعرف الأرض والموسم سيتفهم موقفها.
الأرض التي إن اختلف عليها الأهل تقاتلوا على بضعة أمتار لا تكفي لأن تكون قبورا لهم، ها هي اليوم تترك للأغراب يسرحون ويمرحون فيها، هل يعقل أن ينسى الناس أرضهم بهذه السهولة؟ هل حولتهم الغربة بعيدة المدى الى متخلفين حضاريا وجغرافيا ووجدانيا؟ كان المغترب الأول يبكي قريته و"العلبة وشجرة العسق والطولقة" إذا ما ذكرها في بلاد الغربة ولسعته الغربة بحرارة الفقد ولفحت وجهه رياح السموم تذكر هواء القرية وبرودها وانهمرت دموعه، فهل جاء اليوم الذي ينسى الإنسان أرضه وبلده؟ هل الحصار المطبق على اليمن من الثمانينات ساهم في خلق هذا الإنسان المشوه؟ هل يعقل أن هذا هو الإنسان الحضاري الذي يتغنى أمي اليمن؟ الأغراب ينتهكون أمك اليمن فأين أنت؟
من يقعون في فخ الفيدرالية قبل التصويت الشعبي عليها يختزلون وطنيتهم في قراهم، قد يكونون محقون نوعا ما، لكن الوطن كل لا يتجزأ وفقا لخرائط الجمهورية اليمنية، واستعادة الدولة مقدمة على مخرجات الحوار، فهناك اليوم من يريد إعادة رسم خرائط جديدة لليمن مستغلا وجوده على الأرض ووجود من لا تعنيهم اليمن ولا تعنيهم الأرض ممن ألفو الذل والشحاذة والبيع كابرا عن كابر ومن باع لبريطانيا سيبيع للإمارات وسيبيع لإسرائيل ولكل جازع طريق.
هذه الأرض لا يعرف قيمتها سوى الفلاح ابن الفلاح، فمن أين لنا بنشر "ثقافة الفلاح" في أوساط النخب المترفة والمغرورة، ممن يحترفون الغواية على أساس أنها سياسة، ويرضون الذل على أساس أنه سياسة، ويوفرون الشرعية للمحتل الجديد تحت غطاء السلطة والشرعية المغتربة.
في مشهد درامي مكتمل الأركان -أكاد اسمع الموسيقى التصويرية تصاحبه- يقول محمد عبدالولي على لسان الضمير الذي يحدث سلمى: "أرضك يا سلمى ذرفت عليها الدم والجهد ومنها تأكلين طوال الأعوام. ومنها يأكل ابنك ويترعرع فوق ثراها. حتى زوجك حين يعود يأكل منها وأنت .. أنت من يخرج خيرات هذه الأرض. منها حبوبك وحشائش ماشيتك -ولبنك وسمنك.. وكل شيء في هذه القرية .. من الأرض. أليست الأرض حياتك! .. وحياة ابنك الذي سيعرف عندما يكبر مدى الجهد الذي بذلته؟"
الأرض يا سلمى اليوم لا تعني "هوبك والشاجبة" بل تعني اليمن الممتدة من صعدة إلى المهرة، ومن سقطرى حتى ميدي، ومن خور مكسر حتى برط العنان، هذه الأرض اليمنية كتابنا المفتوح الذي يحتاج منا إلى إعادة قراءة أحرفه، وإن تطلب الأمر سنعيد كتابته، وقد بدأنا منذ منتصف القرن الماضي في كتابته فعليا، سواء أدرك هذا الجيل أو لم يدرك ذلك، إننا أمام كارثة تنكر البعض لتاريخهم ولأمهم الأرض مجاملة لهذا النظام أو ذاك، ثوابتنا تتفتت بسبب الجهل والغباء والتخلف والعناد، إننا نندثر يا محمد عبدالولي ونتحول إلى رماد، لقد أصابتنا العين يا سلمى.
يختم محمد عبدالولي رائعته بمقطع تحدي نحتاجه في زمن الضياع الذي نعيشه: "وفتح باب الغرفة .. دخل أبنها الصغير وارتمى في أحضانها وسلمى تهتف بداخلها –سأعلمه كيف يحب الأرض .. بينما كانت المياه تغوص في أعماق الأرض" فهل فشلنا أم فشلت سلمى في تعليمنا حب الأرض؟
احرسوا معابدكم وعقائدكم ومذاهبكم وأيدولوجياتكم وأحزابكم ومقدساتكم، لكني لست سوى حارسا للبن للأرض لليمن الكبير الممتد من هود بن نوح حتى أمين بن فيصل، لماذا أنا هنا في هذه النقطة بالتحديد ربما قدري ربما حدسي ربما روحي ربما قلبي، يوما ما كنت استشعر الانقلاب قبل حدوثه، كل خروج ضد حكومة الوفاق عارضته بشده وكسبت عداوات هشة من الأحباب من الشباب، كنت خائفا من "نثرة" كهذه التي نحن فيها، وقبل اندلاع حركة المقاومة على الأرض كنت اسبقها واتوثب الحرب كما توثب صعاليك الله وحملوا السلاح، وضعت نفسي في مواضع لا أحسد عليها ولا استحي منها، اليوم أنا هنا ضد الأغراب ضد الاحتلال الإماراتي الذي يتوسع كل يوم على الأرض، أشعر أن معركتي مع الحوثي وصالح قد حسمت لصالحي، فبقائهما مجرد فزاعة لا أكثر من وجهة نظري، ولذا أنا لا أقبل محوهما من الوجود، ومستقبلا يجب أن يحاكما بجرم هدم الدولة بانقلابهما اللعين، لكن بقائهما معنويا اليوم ربما يسهم في إيقاف زحف الأغراب، لكن معركتي معهما قد انتهت فعليا، وهي مسألة وقت فقط، تبادلنا القتل والموت وشبعت واكتفيت، لا أدري ماذا عنهما؟ المعركة اليوم ليست معهما، ولا أتمنى لهما البقاء الا كفزاعة تنبه الطامع، ولا مشكلة لدي مع تيارات سياسية تبرز عن مكونيهما، أنا هنا مع كل يمني ضد أي أجنبي غازي كائنا من كان، وهذه قناعة تكونت مع مرور سنوات الحرب الثلاث.