خلال النصف الأول من عقد التسعينيات من القرن الماضي، ظهرت أهم القنوات الفضائية الناطقة بالعربية بعضها من عواصم أوروبية وبعضها الآخر من عواصم عربية.
وللمفارقة كانت الفضائية العربية الأولى الأوسع انتشاراً هي قناة أم بي سي التي يملكها رجل الأعمال السعودي وليد الإبراهيم، وكانت تبث من لندن قبل أن تنتقل إلى المدينة الإعلامية في دبي بالإمارات.
شهدت هذه القناة الحرب الأهلية المدمرة في اليمن المعروفة باسم حرب صيف94، وكانت هذه القناة تغطي الحرب من الجبهتين الشمالية والجنوبية، وكان اليمنيون في ذلك الوقت يتسمرون أمام شاشة هذه القناة لمتابعة تطورات الحرب لأنها كانت المصدر العربي الوحيد الذي يمتلك حضوراً وتغطية آنية للحرب بطريقة مختلفة، فقد كانت مساحة التغطية واسعة في الجبهتين وفي الوقت الذي كانت فيه القناة تنقل عبر مراسليها وجهة نظر صنعاء كانت أيضاً تنقل وجهة نظر عدن، وكان أداءها محل انزعاج شديد من المخلوع صالح الذي كان يرى القناة تتناغم مع التوجه العام لدى معظم دول مجلس التعاون الخليجي لدعم الانفصال الذي أوقفته الإدارة الأمريكية حينها.
أردت من هذه الإشارة أن أبرهن على أن التوجه نحو توظيف الإعلام لتعزيز النفوذ السياسي شأن بدأت به الرياض التي كانت سعيدة بأداء قناة أم بي سي، ولا زلت أتذكر الزيارة التي قام بها العاهل السعودي الحالي إلى مقر القناة في لندن عندما كان لا يزال أميراً لمنطقة الرياض برفقة نجله ولي العهد الحالي الأمير محمد بن سلمان، وكيف كان سعيداً ومزهواً بما تنجزه قناة أم بي سي.
بعد عامين فقط من نهاية حرب صيف العام 94 التي كانت قطر تقف فيها إلى جانب وحدة اليمن تأسست قناة الجزيرة، في سياق رؤية مختلفة في تقديري، لا تهدف إلى تكريس نفوذ قطر، فهذا البلد الصغير، لا يراهن على قناة لفرض النفوذ والهيمنة، بل من أجل إعادة التوازن في المشهد الإعلامي، بما يؤدي إلى تعزيز دور الإعلام في ترسيخ قيم الديمقراطية والانتصار لحقوق الإنسان عوضاً عن أن يصبح أحد وسائل تكريس الهيمنة السياسية للأنظمة.
وهذا أيضاً سيؤدي في بعده السياسي إلى إيجاد معادلة جديدة، تسمح بحدوث توازن في العلاقات بين الدول لا على أساس حجمها الجغرافي والبشري ولكن على أساس إسهامها في التطور والرفاه واحترام كرامة الإنسان.
لقد كانت رسالة الجزيرة معبرة عن هذا المعنى بالتحديد، ورسالة كهذه لم تكن سهلة بالنسبة لقطر التي وجدت نفسها في مجابهة مع الدول والأنظمة، وتحملت الأذى المعنوي والمادي، واضطرت إلى سحب سفرائها من بعض العواصم العربية، لكنها لم تتنازل أبداً عن الخط الموضوعي للجزيرة، ما سمح لهذه القناة بأن تتطور وأن تحدث التأثير العميق الذي رأيناه في بنية الوعي العربي وتجسد بشكل واضح في ثورات الربيع العربي.
إبان تلك الثورات كانت سماء الوطن العربي يعج بالفضائيات، وبعضها اتحد في جبهة واحدة ضد الربيع العربي، ومع ذلك كان التأثير الأكبر للجزيرة.
والأمر يُعزى في تقديري إلى الموقف الأخلاقي للجزيرة الذي جعلها تتسق مع إرادة الشعوب في الوقت الذي تكاتفت فيه شبكة واسعة من الفضائية المحلية والإقليمية لمجابهة وإجهاض ووأد الثورة والتغطية على الممارسات القمعية التي أقدمت عليها الأنظمة ضد مواطنيها.
وهناك عامل آخر ذو بعد مهني يتمثل في حضور الجزيرة المؤثر في المكان والزمان المناسبين، كما حدث في حرب أفغانستان، فقد كانت الفضائية العالمية الوحيدة التي تعمل من مكتب رسمي لها في كابول، وفي حرب العراق الذي غطته بواسطة شبكة واسعة من المراسلين، على الرغم من أن نظام الشهيد صدام حسين حينها لم يكن مرتاحاً للجزيرة، وكما حدث في تركيا حيث تميزت القناة بتغطيتها المتميزة للمحاولة الانقلابية الفاشلة في الخامس عشر من تموز/ يوليو 2016.
هذا الحضور ضمن للقناة موقعاً متميزاً في المشهد الإعلامي الدولي، ولم يكن غريباً أن يخرج الغرب عن حدود ادعاءاته باحترام حرية الإعلام، ليتخذ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير في لحظة زهو بالقوة التي لا تحدها حدود، قراراً سرياً بضرب مقر الجزيرة في الدوحة. هذا لم يحدث لحسن الحظ، لكن حدث وأن اُستهدفت القناة من قبل هاتين الدولتين في العراق وأفغانستان، بالقصف المباشر لمكاتبها التي كانت معلومة للجميع.
الجزيرة كانت ملهمة الثورة العربية الأكبر والأهم والأخطر في هذا العصر، وكانت نافذة المقهورين وكانت ملاذهم، في ظل استماتة الأنظمة الدكتاتورية في وأد الربيع والتغطية عليه ودفن نتائجه.
وما بقي من التحالف العربي اليوم في اليمن يريد أن يُسكت الجزيرة، لكي يمضي في تنفيذ مخططه لإنجاز تسوية سياسية كارثية في هذا البلد. هذا ما يتضح من سلوك أبو ظبي في عدن، وهو سلوك ينم عن استعلاء غير مقبول على اليمنيين واستهتار لا يمكن احتماله من دولة السجون هذه، التي حولت الأبراج والساحات والحدائق ومراكز التسوق في أبو ظبي ودبي إلى مناطق مخنوقة تخلو من أنسام الحرية والكرامة.