العالم العربي ينفرط من العقد وكل حبة تسقط في مدار مظلم أو زاوية معتمة. ويتحلل بهدوء وبرضى الجميع، وكأن هذا الجميع منتش بما أصاب الجسد العربي الذي أنهكته الدكتاتوريات الرعوية، وتجهز عليه الخلافات التي ستحول العالم العربي إلى لا شيء في الحسابات الدولية أكثر مما هو عليه حاليا.
في الظاهر، يتمتع العالم العربي مجتمعا ومنفردا، بكل مؤسسات الحماية لكنه لا يفعل أية واحدة منها. جامعة عربية ميتة تشبهه في كل شيء، لا تحرك أي ساكن حتى بالشجب كما كانت تفعل قبل سنوات طويلة. منتمون للمؤسسات الدولية لحماية الطفولة والتراث.
لا الطفولة محمية، ولا التراث الذي أدخل في المحميات الإنسانية ويدمر على مرأى الجميع. اليونيسكو تفتح عينا وتغمض أخرى أمام تغيير ملامح القدس وتهوديها وأمام تدمير المعالم السورية والعراقية. الكثير منها تم تدميره من طرف تنظيم «الدولة» (داعش)، الذي أباد الزرع والضرع ليتحول إلى آلة محو ذاتية. هو القنبلة النووية التي ابتدعتها الأنظمة العربية الفاشلة، والغرب الاستعماري والحركة الصهونية لتدمير العالم العربي من الداخل بحيث لن تقوم له قائمة.
والآن يبدو أن المرحلة الأولى من التدمير الداعشي تم والانتقال إلى المرحلة الأخطر، مرحلة التقسيم على أساس إثني أو عرقي أو طائفي.
لو صعدنا متن طائرة هيليكوبتر وحلقنا فوق مناطق الحروب العربية لأكتشفنا حجم الدمار الذي لم تخلفه أية حرب سابقة. وما يرتسم في الأفق أفظع. مثل موجات التسونامي، في مدها تمحو كل ما كان حيا وواقفا وفي جزرها تنهي ما بدأته. المرحلة الأولى انتهت بتخريب الدولة، كيفما كانت، بوصفها الحامي للمؤسسات واستمرار المجتمع. ليبيا تموت. تتشكل ثم تنفرط لتتشكل من جديد في غياب أي منطق وأي حل، لأن الأيادي التي تلعب كثيرة وغير متفقة. سوريا الدولة والبلاد، لحقها تدمير غير مسبوق، ويتم الآن تسريع الأحداث لرسم خريطة قادمة للمنطقة بعد تحرير الرقة ومحيطها، كما في الموصل.
من يسبق هو من يفرض سلطانه وحله. العراق يعاني من الشيء نفسه بعد انهيار كل البنيات التحتية. الجيش يدافع عن مدينة الموصل التي تكاد تسقط نهائيا بين أيدي القوات الحكومية، تاركا وراءه ثمنا باهضا في الأرواح والعمران. دخل الأكراد في الحسابات خارج نظام الدولة الفيديرالية المحتمل، وهي كل من حرر أرضا فهي له كما في الحرب العالمية الثانية. نتساءل اليوم، هل نفرح لتحرير الرقة والدير في سوريا وتحرير الموصل من قتلة «داعش» أم نحزن للحروب القادمة والتي سترسم الخرائط الجديدة وفقها؟ ويبدو أن التطرفات والأطماع من كل الجهات المحلية والدولية، وصلت إلى سقفها. هل سيكتب للسوريين والعراقيين أن يفرحوا بسقوط «داعش» أم أن المعارك القادمة ستكون أقسى وأخطر؟ لن تكون سوريا هي سوريا ولا العراق هو العراق ولا ليبيا هي ليبيا.
وماذا سينتج عن حرب اليمن؟ المؤكد يمنا آخر، ممزقا. سنرى يمنا، جزء منه حاقد على الجزء الآخر إذا رحمته الأوبئة التي بدأت تأكله يوميا بالآلاف. وكأن هذا كله بخرابه ودمه، لم يكن كافيا لتندلع حرب صعبة داخل خليج كان خارج هذه المآسي مؤقتا، فانضم هو أيضا إلى القافلة بانقسامه إلى قسمين خطيرين ولا نعرف المآلات. كل الشكر للكويت التي رفضت الاستسلام لقدر الأحقاد والحروب والخلافات بغض النظر عن وجاهة الأسباب من عدمها. الحدود المغاربية تنام على البراكين الأشد خطرا، في وضع كارثي، يتفاقم يوميا. تهديدات «داعش» باجتياح تونس أصبحت أكثر من مجرد احتمال بعد أحداث بن ڤردان.
الحدود المالية تسيطر عليها حركة إسلاموية متطرفة شديدة التخلف، لا مشروع لها إلا التدمير والتخريب وهي امتداد للروح الداعشية الدموية. الحدود الليبية براكين مهيأة لانفجارات مقبلة، يمكن أن تشتعل في أية لحظة مخلفة وراءها رمادا وتمزقات لا تحصى من المساحات يديرها أمراء الحروب العفنة.
ويتم العمل في المخابر الدولية على الطوائف الصغيرة مهما كان مستوى عيشها وإيقاظ الجانب الإثني والعنصري والطائفي فيها. حرب المغرب العربي مؤجلة لكنها تلوح في الأفق . الإثنيات المتعددة الأمازيغية المتطرفة، الطوارق، غير حرب الطوائف التقليدية، السنية، الشيعية المتخفية وفروعها، والأحمدية، والطائفة الإباضية.
هناك عناصر تفجيرية كثيرة يتم اليوم إشعالها. يضاف إلى ذلك الوضع الاجتماعي المتفجر والخطير جدا في كل البلدان المغاربية في وقت أن اسبانيا وفرنسا تعملان كل ما في وسعهما لتفادي انفصال الباسك ومنع تكوين قومية مستقلة لأن ذاك قد يدفع بأوروبا وأمريكا إلى السير في الطريق نفسه. الاحتمالات الخطيرة التي تسم عصرنا، تدق نواقيسها.
والعرب غير منشغلين مطلقا بما يحدث فيهم وعليهم ومن حولهم. ألا يوجد حقيقة حاكم عربي واحد له القدرة والحكمة والحب لتجميع القادة العرب والتنبيه للخطر المحدق؟ يستحق العربي أن يعيش حياة كريمة، أجمل وأفضل وأن يحلم كما كل الناس. ليس غبيا وليس متوحشا، له ما للآخرين وعليه ما عليهم.
هل من صوت للخير؟ سيحترق كل شيء وسيختلط الحابل بالنابل ونتحول إلى قبائل تقطع الطرقات والمسالك على بعضها بعض، وتفني بعضها على منبع ماء. وسيكتب تاريخ آخر على رمال الموت التي تنتظرنا في شكل مقابر جماعية مفتوحة عن آخرها.