ما يجري في سوريا حرب، وفي الحروب نعرف كيف تبدأ، لكن لا أحد يجزم كيف ستنتهي.
حلب، كبرى المدن، بدأت بانتفاضة من أهلها، وانتهت بسقوطها في الأيام الماضية في قبضة تحالف نظام دمشق مع الإيراني والروسي. لكن الحرب لم تنته؛ حيث بقيت نحو نصف أراضي البلاد خارج سيطرتهم، فلا يستعجلن أحد النهايات مهما بالغوا في الدعاية والاحتفالات.
وحلب بالفعل كانت معركة مهمة تستوجب المراجعة، وسقوطها لا يعبر عن انتصار حلف الأسد بل عن فشل حلف الثوار وحلفائه في إدارة الأحداث؛ فقد انتفضت المدينة مبكرًا، منذ يوليو (تموز) عام 2012، واستمرت جبهة مشتعلة، ورمزًا للثورة السورية، ونجح الثوار في ربطها برًا بمدينة حماه، مما أعطى تأكيدًا على جدية الانتفاضة.
وخلال أربع سنوات لم تعش هذه المدينة ليلة هادئة مع محاولات النظام استعادتها، مدركًا أن حلب قد تصبح مركزًا لحكومة المعارضة وقيام بداية دولة بديلة. النظام لجأ إلى حيلة تخويف العالم من الإرهاب فأفرج عن معتقلي الجماعات المتطرفة، زاعمًا أن المعارضة ليست إلا «القاعدة»، وبالفعل تأسست جماعات متطرفة مسلحة موازية للمعارضة. «داعش» بكل تأكيد هو امتداد لتنظيم الزرقاوي (القاعدة)، وقد كرر النظام السوري خبرته وتجربته؛ حيث إنه كان الراعي للمعارضة العراقية، خاصة المتطرفة المحسوبة على «القاعدة». «داعش» ظهر بقوة، وبدعاية صاخبة، بإعداماته الاستعراضية البشعة التي روعت ونفرت العالم مما يحدث في سوريا.
لكن تنظيمات أخرى متطرفة ولدت لاحقًا، أبرزها «جبهة النصرة»، أيضًا هي امتداد لتنظيم «القاعدة»، لم تكن محسوبة على النظام السوري. وبكل أسف وجدت تأييدًا من أطراف إقليمية، وسمح لمقاتليها بالعبور، ووجدت الرعاية الإعلامية. كان من المؤكد أن دخول تنظيمات دينية متطرفة مسلحة سيخدم النظام وسيخيف الحكومات الإقليمية والدولية. فالأردن الذي كان ممرًا ومقرًا تراجع وقلص دوره. السعودية شنت حملة كبيرة تطارد كل من تثبت له علاقة بدعم هذه الجماعات أو يحاول السفر للالتحاق بها.
انشق معسكر حلفاء المعارضة السورية إلى فريقين؛ فريق مع الجيش الحر، وهو يمثل المعارضة الوطنية، وفريق مع التنظيمات المتطرفة، اعتقادًا أنها أسرع وأقوى، وهي رد على تحالف قوات النظام الوحشي. بدت سوريا كما لو أنها ساحة تنافس على القيادة الإقليمية، فتكررت أخطاء لبنان، عندما انقسمت القوى الإقليمية بين مؤيد لـ«حزب الله» ومناصر لفريق «المستقبل»، في معركة عززت وضع إيران ومكنت الأسد وحلفاءه من اغتيال العديد من القيادات المعتدلة والهيمنة على لبنان.
الذين دعموا «جبهة النصرة»، وبقية التشكيلات المتطرفة، عمليًا ساندوا النظام السوري وسهلوا على إيران وروسيا وميليشياتهم الوجود بحجة مقاتلة الإرهابيين.
حرب السنوات الخمس في سوريا دارت وتدور بين فريقين رئيسيين؛ بين قوى تمثل غالبية الشعب السوري، والنظام الأمني العسكري، وفيها أيضا الجيوب الإرهابية التي تمثل خطأ استراتيجيا خطيرا. ولا يبرر تحالف النظام مع «داعش»، خاصة في الرقة، وشراء البترول منه، اللجوء إلى «جبهة النصرة»، لأن مشروع الثورة ومشروعيتها يتناقضان مع الاعتماد على جماعات متطرفة. وإلى عام 2015 كان الجيش السوري الحر الذي يهيمن على معظم سوريا، وكانت مظلته السياسية (الائتلاف الوطني)، قد برهن على التنوع والتعددية وتمثيل مكونات المجتمع السوري.
بكل أسف، وبسبب التنافس، تم التضييق إقليميًا على الجيش الحر من الحلفاء أنفسهم. ومع ظهور الجماعات الإرهابية على جانبي المعركة وجدت الدول الغربية حجة تبرر لنفسها منع المعارضة من الحصول على الأسلحة النوعية مما سهل على النظام تنفيذ عمليات القصف الوحشية والإبادة والتهجير للتجمعات البشرية في المدن.
هذه الأخطاء ليست وحدها وراء سقوط حلب، وتقلص المناطق المحررة، حيث إن دخول إيران وروسيا الحرب، وتساهل الإدارة الأميركية مع قيام هذا التكتل الضخم، تسببا في الوضع المأساوي الذي نراه اليوم.
مع هذا فإن المعادلة القائمة على الأراضي السورية التي مكنت النظام وحلفاءه من التفوق لا يمكن أن تدوم لأسباب سورية داخلية، حيث لا تزال الأغلبية معادية للنظام رغم نجاحه في تهجير خمسة ملايين سوري إلى خارج البلاد، وكذلك بسبب ضرورات التوازن الإقليمي الذي لا يحتمل التمدد الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
نقلاً عن صحيفة "الشرق الأوسط"