إنهم يخدعون الجميع، ولا يبحثون عن تهدئة أو مصالحة وطنية أو حل سياسي. إنهم يعبدون السلطة ولا إله لهم إلا مَن يساعدهم على مصادرتها واحتكارها، بالمال أو بالسلاح أو بأي وسيلة. إنهم يتلاعبون بالوسطاء الدوليين وبما يُطرح عليهم من حلول يعرفون مسبقاً أنهم سيرفضونها، فلا يرضيهم سوى الاعتراف بسيطرتهم والتعامل مع انقلابهم على أنه «الشرعية»، ولا يقبلون حتى بتقاسم السلطة! استباحوا الدولة وجيشها ومؤسساتها، ورموا تاريخها ومستقبلها تحت أقدامهم، وأكثر ما يثير سخريتهم أن يُدعَوا إلى هدنة إنسانية فمعاناة الناس آخر ما يهمهم ولكنهم يوافقون أحياناً على هدنة ليستولوا على المساعدات ويعيدوا طرحها في السوق السوداء ليموّلوا حربهم... هؤلاء هم الحوثيّون الذين لم يتردّدوا في استهداف مكّة المكرّمة بالقصف كاشفين آخر أوراقهم وهي كانت أولاها بالأحرى، لأن مغامرتهم السقيمة في اليمن كانت ترمي إلى تهديد المملكة العربية السعودية ومقدّسات المسلمين.
لا يمكن التعامل مع هذا النموذج من المؤدلجين بمعايير الأمم المتحدة والقانون الدولي، ولا بمنطق الدولة والشرعية، إذ أنهم ألغوا الدولة ويرون في دعوتهم إلى التفاوض تقديراً لقوّتهم التي تدفع سفراء الدول إلى محاورتهم وتقديم العروض إليهم، وهذا يدفعهم إلى عدم التنازل عما سلبوه ونهبوه من أجل أي اتفاق مع الطرف الآخر، لأنهم أصلاً يرفضونه ولا يعترفون بشرعيته، بدليل أنهم وضعوا الرئيس ورئيس الحكومة والوزراء في إقامة جبرية تحوّلت إلى اعتقال، ثم لاحقوا الرئيس لقتله والتخلّص مما يمثّله من شرعية. وحين يبدي الحوثي شيئاً من المرونة، وهذا نادراً ما حصل، فإن حليفه المخلوع يذكّره بما اتفقا عليه، أي لا حل على أساس القرارات الدولية ولا عودة إلى المبادرة الخليجية ولا قيمة لمخرجات الحوار الوطني ولا التزام إلا بما يؤخذ بالتفاوض على أساس ميزان القوى.
وبما أنهم اختبروا قبل «عاصفة الحزم» وبعدها أن القوى الكبرى تسايرهم ولا رغبة أو قدرة لديها للضغط عليهم بالسياسة أو بالعقوبات، فإنهم يتشبثون بشروطهم ليواصلوا التفاوض على التفاوض أو من أجل التفاوض.
لم يكن إطلاق الحوثيين صاروخاً باتجاه منطقة مكة المكرمة مجرّد تفصيل في مجريات الحرب الدائرة منذ ثمانية عشر شهراً، ولم يكن فقط ردّاً على المساعي المتجدّدة لطرح صيغة تسوية سياسية وإفشالاً للدعوات إلى هدنة، بل كان خصوصاً رسالة إيرانية مفادها أنه لا حلّ في اليمن، وأن ما رسمته طهران لليمن لم تعطّله الحرب بدليل أن الحوثيين يقومون بالمهمة الموكلة إليهم بالتعرّض للسعودية. وعبثاً القول بأن إيران أو الحوثيين يستفزّون مشاعر المسلمين باستهدافهم المقدّسات الإسلامية وحرمتها، فهم يعرفون ما يفعلون بل مهّدوا له في الأيام السابقة بصاروخ أول، وعلى مدى الشهور الماضية بالقول إن مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة «مهدّدتان»، لكنهم نسبوا التهديد إلى «داعش».
يُذكر أن الأمين العام لما يُسمّى «حزب الله» كان أشار في إحدى خطبه (16 فبراير 2015) إلى أن مكّة والمدينة هما «الهدف الرئيسي لداعش»، ثم كرّر في خطاب آخر (17 أبريل 2015) أن «مكة في خطر لكن من جانب تنظيم داعش الذي يريد هدم الكعبة، باعتبار أن الناس يطوفون بها وهي عندهم أحجار صماء سوداء، ما يتنافى مع عقيدة التوحيد كما يفهمونها». في الآونة الأخيرة، وفي إطار تهجّمه على السعودية، كثّف حسن نصرالله أحاديثه عن حلب كمعركة مصيرية سترسم ملامح المنطقة، وبسبب الأزمة التي افتعلتها إيران هذه السنة لمنع مواطنيها من المشاركة في الحج فإن نصرالله والعديد من أبواق إيران الآخرين راحوا يربطون معركة حلب بما يسمّونه معركة «تدويل مكّة». إذاً فهي استراتيجية إيرانية قبل أن تكون أهدافاً «داعشية»، وفي أي حال صار التمييز بينهما ضرباً من العبث.
كل الأدوات الإيرانية، من النظامين العراقي والسوري إلى «حزب الله» اللبناني و«الحشد الشعبي» العراقي وحوثيي اليمن والميليشيات المستوردة، بالإضافة إلى «داعش»، هي «ذيول للأفعى» تعمل في خدمة التخريب الإيراني للمنطقة العربية. لم يعد الأمر مجرّد «تدخلات» بل تخطّى كل الحدود الدينية والأخلاقية والإنسانية للاعتداء على الحرمات الإسلامية. ولم تعد تكفي التحذيرات والإدانات بل يتطلّب الخطر الداهم وقفة جدّية عربية وإسلامية لوضع حدٍّ لهذا التمادي. وبطبيعة الحال لا أحد يدعو إلى إشعال حرب أخرى في المنطقة، فهذا ما تسعى إليه «رأس الأفعى»، ظنّاً منها أنها يمكن أن تنتصر فيها، بل إن المطلوب اتخاذ كل الخطوات للتضامن الفعلي في الدفاع عن السعودية واستقرارها وعن المقدّسات وحرمتها.
*نقلاً عن "الاتحاد" الإماراتية