البحث جارٍ عن صيغة يرحل بشار الأسد في نهايتها، لكن متى وكيف. لا بدّ أن يرحل بـ «طريقة منظّمة» كما يقول الأميركيون، لكن من دون أن «يُحدث فوضى» كما ينصح الروس الذين تقع على عاتقهم مهمة ترتيب أو «تنظيم» رحيله. الكل يؤكًد أن لا مستقبل له في سورية، أما الصياغة الأحدث فهي: يبقى النظام لكن ترحل العائلة. وللأسف، ثمة اقتناعات محسومة من زمن، لكن سياسات الدول الفاعلة تبرزها أو تحجبها حسب الظروف: بقاؤه = لا حل. بقاؤه = لا إعادة إعمار بل مزيداً من الدمار، ولا عودة للاجئين بل مزيداً من التهجير. بقاؤه = بقاء روسيا وإيران، والمجتمع الدولي يقبل روسيا على مضض اذا كانت مستعدّة للإنخراط في إنهاء الصراع كما في محاربة الإرهاب، ولا يقبل إيران لأن مصالحها مبنية فقط على التخريب من خلال استمرار الحرب. بقاء الأسد + إيران = استمرار الإرهاب، كونه يتغذّى من وجودهما ويستفيدان منه، لكن حتى أميركا- ترامب لا تبدو مُقبلة بعد على كشف الدور الأسدي- الإيراني في تصنيع الإرهاب.
حتى التداول بـ «بورصة أسماء» لخلافة الأسد، وهي أربعة الى خمسة أسماء لشخصيات علوية، لا يبدو جدّياً بعد، بدليل أن أي عودة الى تفاهمات أميركية- روسية ليست قريبة، ولو أنها متوقّعة، ولن تكون أولاً على «البديل»، فهناك عقبات لا بد من تذليلها، فمن جهة يُفترض حسم التحضير لمعركة الرقّة ودير الزور و «ما بعد داعش» فيهما وكذلك احتواء التوتّر المتصاعد بين تركيا والأكراد، ومن جهة أخرى ينبغي ضبط حركة الصراع الداخلي بفرض وقف لإطلاق النار يلتزمه النظام والإيرانيون. وفي النقطة الأخيرة قد تعمل روسيا على تصويب مسار آستانة بإشراك دول عربية في ضمان لهدنة ومراقبتها، وإذا صدق ذلك فسيكون محاولة أولى جدّية لوقف الأعمال القتالية، أما اذا نجح كما هو مؤمل فسيكون مهمّاً أيضاً أن ينعكس على أداء وفد النظام في المفاوضات السياسية، وإن كان كثيرون يعتبرون أن استمرار بشار الجعفري في رئاسة الوفدين الى آستانة وجنيف يعني حكماً أن النظام لا يزال يناور.
غالبية الأسماء المطروحة من المدنيين، لكن الأرجح أن «البديل» سيكون عسكرياً ليتمكّن من التعامل مع تداعيات «الرحيل» داخل النظام، ومن طمأنة الطائفة العلوية التي راهنت طويلاً على الأسد، قبل أن يتحوّل العديد من أبنائها من الضباط أمراء حرب يقودون ميليشيات موازية للجيش، ولعلها كغيرها من الطوائف تسأل الآن كم سيقتل وكم سيدمّر وكم سيعمل على تعقيد إنهاء الحرب، قبل أن يرحل، وفي أي حال سيتركها حين يرحل. فالميليشيات المنبثقة من الطائفة تتوزّع بين الروس والإيرانيين وفق مصالح قادتها المتنافسين على التربّح من تجارات شتى في مناطق سيطرتهم باسم النظام. والمؤكّد أن الروس الذين تمسكوا طويلاً بالأسد، واعتقدوا أنهم يستطيعون فرض بقائه بالضغط على الأميركيين، فشلوا في مساعدته على التأهل عسكرياً وسياسياً لهذا البقاء. لكن ها هم الآن يشاركون في درس «البدائل» ولو أن أحداً لا يصدّقهم، ويخشون ردود فعل الأسد والإيرانيين في حال اتّضح اعتمادهم معادلة «رحيل الأسد مقابل بقاءالنظام»، خصوصاً أنهم يعرفون تركيبة هذا النظام وارتباطها بعائلة الأسد.
الواقع أن القوى الدولية تبحث منذ بدايات الأزمة عن توازنات مستعصية إنْ لم تكن مستحيلة لإنتاج تسوية. فهي تريد أولاً الحفاظ على الدولة والمؤسسات، ولأجل ذلك منعت انهيار النظام. وهي تريد ثانياً معارضة موحدّة و «علمانية» تكون قيادتها قابلة إما للتفاهم معها أو الضغط عليها. ومع الوقت أصبح الهدف الأول أشبه بكذبة أو خرافة، لأن النظام نفسه استفاد من الدولة الى حدٍّ كبير ولم يبقِ منها سوى الواجهة التي تظهره كواجهة معترف بـ «شرعيتها»، علماً أنه لا يحترمها أصـــلاً واعتبرها دائماً أداةً في خدمة النظــام، وإذا كان يتعامل مع الأطراف الخارجية على أنه «دولة» فإنه لم يتعامل يوماً كـ «دولة» مع الشعب بل «آلة للقمع» صارت لاحقاً «آلة للقتل».
ولم يكن متوقّعاً أن يساهم التدخل الإيراني في إعلاء شأن الدولة بل اخترق الجيش والأمن اللذين يشكّلان أهم «مؤسساته»، أما روسيا التي جعلت من الحفاظ على الدولة حجّة رئيسية لإقناع الأطراف الدولية الأخرى بضرورة الحفاظ على النظام (أي على الأسد) ففرضت مصالحها على ما تبقّى من الدولة، وهي نفسها تتخوّف من انهيار «الدولة» إذا رحل الأسد.
أما بالنسبة الى المعارضة التي كان عليها أن تبدأ من الصفر، ومن دون أي مقوّمات ذاتية سوى صمود شبابها وتعرّضهم لأعتى أنواع العنف من جانب النظام، فإن اعتمادها على دعم القوى الدولية كان اضطرارياً وحتمياً، وكانت هذه القوى وتناقض أهدافها مصدر بلبلة وتشويش للمعارضة أكثر منها عنصراً يحفّزها على توحيد صفوفها. فالتلاعب الخارجي المبكر بمكوّنات المعارضة ومنعها من إسقاط النظام أو تهديده، وكذلك غموض موقف الإدارة الأميركية السابقة من الأسد وتحذيرها من استشراء الإرهاب والطائفية، أدّت جميعاً الى عكس الأهداف المتوخّاة. ففيما كانت واشنطن تبدي خشيتها من «أسلمة الثورة» وتمكين الإرهاب من اختراق صفوفها كان النظام يرتكب أبشع مجازر التهجير الطائفي ويفتح ممرات لدخول «داعش» الى مناطق المعارضة مستغلاً حجب التسليح عن «الجيش السوري الحر».
المفارقة أن القوى الدولية لم تكن هي نفسها موحّدة الرأي والموقف فيما كانت تشكو من أن المعارضة متعدّدة الرؤوس والأصوات الاتجاهات، بل إن التيئيس والخذلان وإطالة الأزمة دفعت ببعض الفصائل (راضية أو مضطرّة) الى أسوأ الخيارات بالتعاون أو التحالف مع «جبهة النصرة». هناك اقتناع متزايد الآن لدى المعارضة والفصائل بفكّ أي ارتباط مع هذه «الجبهة» وأجندتها «القاعدية»، وقد ظهر في اشتباكات الغوطة الشرقية، كما في اتصالات تخوضها جهات إقليمية لسحب «النصرة» من إدلب لتجنيبها مصير حلب. وما أدركه المراقبون المطّلعون على الوضع الميداني أن العبث الخارجي بالصيغة التي بلورها «الجيش السوري الحرّ» في بداياته كان عاملاً حاسماً في بعثرة وحداته وتفكيك تماسكه، ولم تكن صدفة أن الطيران الروسي ركّز، منذ أواخر 2015، على تصفية ما تبقّى من مناطق وجيوب في يد هذا الجيش، فهو ليس إرهابياً ويعتبره النظام والإيرانيون أكثر خطراً عليهم من «داعش» أو أي تنظيم إرهابي آخر سيُقضى عليه في نهاية المطاف.
في أي حال، إذا كانت التوازنات مستحيلة فكيف تكون «الحلول» المستخلصة منها ممكنة؟ وبعدما أصبح النظام و «دولته» مكشوفَين أمام الجميع، وبالأخص الروس والأميركيين، كيف يمكن موسكو مواصلة التفكير في دعوة المعارضة الى القبول بـ «حكومة» مع الأسد، وبصيغة تحجم حتى عن اعتبارها موقّتة؟ فمثل هذه الحكومة تناسب الوجود الروسي لمواصلة إدارتها للأزمة ولا تناسب سورية، وبطبيعة الحال فإن أي حلّ بوجود الأسد ليس حلّاً. في الفترة الأخيرة تأكّد لموسكو، مثلاً، أن مسار آستانة لا قيمة له ما لم تشـــارك فيه فصائل المعارضة، وتأكّد أيضاً أن الدول الداعمة لا تستطيع ولا ترغب في الضغط على الفصائل ما لم تكن هناك صدقية لهذا المسار ووظيفته المعروفة. هناك ملامح تغيير في الموقف الأميركي لن تُعرف حقيقته إلا متى أعلنت واشنطن استراتيجيتها خلال هذا الشهر أو متى بدأت تطبيقها من دون الإعلان عنها، لكنها في الانتظار لا تبدي اهتماماً بمساري آستانة وجنيف، كما لو أنها تراقب أداء روسيا والنظام وإيران قبل عرض أفكارها.
*الحياة اللندنية