[ الهواتف الذكية.. أجهزة ما زالت تخبئ الكثير ]
بدا نجاح الهواتف الذكية في الفترة ما بعد عام 2007 مُغريًا لمُعظم الشركات التقنية، ومن أجل ذلك دخلت مُعظمها إلى فقاعة النجاح تلك. لكنها وفي ذات الوقت رغبت في العثور على فقاعة أُخرى تكون السبّاقة فيها أملًا في تكرار ذلك النموذج.
وبناءً على ما سبق، خرجت أجهزة تقنية مُختلفة كانت تهدف لتقليل أهمّية الهواتف الذكية على غرار الساعات الذكية والحواسب اللوحية، وتلك محاولات حدثت على فترات زمنية مُتباعدة قليلًا، إلا أنها أوصلت رسالة واضحة لمُعظم الشركات مفادها أن التقنية الثورية القادمة موجودة ومُستخدمة حاليًا، ولا يجب الاستعجال لإزاحتها من مجدها.
رحلة الأجهزة الذكية
نجحت الهواتف الذكية في تحقيق قفزة كبيرة جدًا في العالم التقني بعد شبكة الإنترنت، فهي أجهزة تحوّلت من متوسّطة الأهمّية في حياة الفرد إلى شيء أساسي لا يُمكن التخلّي عنه، وذلك خلال سنوات قليلة فقط في ظل دخول الجميع إلى هذا السباق.
ظنّ البعض أن السوق وخلال ثلاثة أعوام، أي في الفترة ما بين 2007 و2010، قد تشبّع من الهواتف الذكية وأنها وصلت لنهايتها. ولهذا السبب انهالت الانتقادات على شركة آبل عندما أطلقت الجيل الأول من حواسب "آيباد" اللوحية بدون دعم لشريحة اتصال لإجراء المكالمات، مُعتبرين أن المستخدم يرغب في استخدام الجهاز كحاسب وكهاتف في ذات الوقت، وهذا فتح المجال أمام الهواتف اللوحية "فابلت" (Phablets) التي كانت عبارة عن حواسب لوحية بشاشة 7 بوصة تقريبًا مع مُكبّر للصوت وسمّاعة لوضع الجهاز على الأذن وتلقّي المُكالمات، الأمر الذي لم يُثبت جدواه بعد مرور السنين(1).
في 2013 تناقصت أهمّية الهواتف اللوحية في ظل وجود صيحة تقنية جديدة تتمثّل بالساعات الذكية التي كثر الحديث عنها في ذلك الوقت. وكما هو الحال في الحواسب اللوحية، بدأت الأصوات تتعالى طمعًا في دعم الساعات الذكية لإجراء المكالمات واستقبال الرسائل، هاربين من الهواتف الذكية ليس لأنها سيئة، بل لأن نموذج النجاح الذي حقّقته ما زال بعد تلك السنوات مُغريًا بالنسبة للجميع.
وتخبّطت الساعات الذكية في أول عامين أو ثلاثة بعد دخولها للأسواق، فبقيت دون تعريف واضح كجهاز تقني، فهل هي بديل للهاتف الذكي؟ أو مُساعد للهاتف الذكي؟ أو هل هي جهاز مُستقل وله وظائف خاصّة تتكامل مع الهاتف الذكي؟ ومن هنا بدأ التركيز على وظائف الصحّة في تلك الساعات خصوصًا أنها على تماس دائم مع جلد الإنسان وجسده، لتبدأ المُستشعرات بالتطور، وهي في 2017 قادرة على قياس مستوى السُكّر في الدم عبر الضوء فقط، إضافة إلى إمكانية معرفة مستوى ضغط الدم أيضًا بعيدًا عن الطُرق التقليدية(2)(3)(4).
في نفس الحقبة، أي في 2013 تقريبًا، توجّهت غوغل نحو مجال آخر وهو النظّارات الذكية كاشفة عن الجيل الأول من "غوغل غلاس" (Google Glass). لكنها عكس غيرها لم تطمع ولم تدخل بنيّة التخلّص من الهواتف الذكية، بل كانت تختبر المجالات التي يُمكن أن تفتحها تلك الأجهزة والتطبيقات التي يُمكن تطويرها لتقديم تجربة تقنية جديدة للمستخدمين في المُستقبل، لتكون بذلك خطوتها الأقرب لاسشترافه.
وبعد الهواتف والحواسب اللوحية، والساعات والنظّارات الذكية، خرجت المساعدات المنزلية من العدم، الأجهزة التي قدّمتها أمازون للمرّة الأولى في جهاز "إيكو" (Echo) الذي كان يُحاكي أفلام الخيال العلمي مثلما حاكته نظّارة غوغل قبلها بعامين تقريبًا، لتنفجر أهمّية تلك الأجهزة بعد دخول غوغل وآبل ومايكروسوفت، لتنضم بذلك هذه الفئة لبقيّة الفئات السابقة التي حاولت البحث عن التقنية القادمة وعن فقاعة النجاح العُظمى التي لا تبدو واضحة حتى هذه اللحظة.
تمرّد تقني
بتجاهل الهواتف الذكية قليلًا، فإن الأجهزة التقنية آنفة الذكر لا تُعاني من أية مشاكل، أي أنها أجهزة ذكية تقوم بالعديد من الوظائف التي يحتاج المستخدم إليها. لكن الخلفية التقنية للمستخدم تُشير لقدومه من الحواسب التي كانت الأجهزة الأساسية إلى جانب الهواتف المُتنقّلة بشكلها القديم. وهذا يعني أنه كمستخدم اعتاد على مشاهدة المعلومات بحجم كبير نوعًا ما ومقبول يسمح له التحكّم بحرّية عند تصفّح الإنترنت أو إنشاء المستندات، الأمر الذي كان صعبا في الهواتف المُتنقّلة، لكنه أصبح أسهل بعد تقديم الهواتف الذكية.
اعتاد المستخدم على لوحات المفاتيح في الحواسب، وفي الهواتف أيضًا، ولهذا السبب حصل هاتف "آيفون" على نصيبه من الاستهزاء لعدم وجود لوحة مفاتيح فيه. لكن المستخدم فاضل بين لوحة المفاتيح، التي يُمكن أن يعتاد على شكلها الجديد، وبين كمّية البيانات الكبيرة التي يُمكن أن تُعرض على الشاشة، ولهذا السبب اختار الأخيرة لأنها الأهم دون أدنى شك. وهي إشارة تقنية واضحة إلى أهمّية عرض البيانات بأفضل شكل مُمكن، وهي تخصّصات جديدة تتفرّع من تصميم الواجهات في الوقت الراهن.
ما سبق يُفسّر عدم تحوّل أجهزة تقنية مثل الساعات الذكية أو النظّارات الذكية إلى فقاعة نجاح يقفز الجميع إليها، فالشركات كانت بحاجة أولًا للعثور على الطريقة الأمثل لعرض البيانات في شاشاتها الصغيرة بحيث يتقبّلها المستخدم ولا ينفر منها، مع التشديد على فكرة أنها أجهزة مُكمّلة للهواتف الذكية ولم تأتِ أبدًا لاستبدالها. نفس الأمر تكرّر مع المساعدات المنزلية التي جاءت بجيلها الأول بدون شاشة، فالجميع رحّب بها بفضل نسبة الذكاء العالية التي جلبتها. لكنها وفي ذات الوقت طرحت تساؤلات ومخاوف تتعلّق بالخصوصية لأن المستخدم لا يرى شيئا بأم عينه، ولهذا السبب قدّمت أمازون جهاز "إيكو شو" (Echo Show) و"إيكو سبوت" (Echo Spot)، وهي مساعدات منزلية مزوّدة بشاشة. أما غوغل، فوفّرت إمكانية اتصال المساعدات المنزلية بشاشة لعرض الإجابات بشكل فوري عليها.
تأكّدت بذلك أهمّية رؤية البيانات بالنسبة للمستخدمين، وهو شيء رُصد من جديد في المساعدات الرقمية داخل الأجهزة الذكية التي أصبحت تدعم الكاميرا لقراءة المشهد وعرض البيانات عليه مثل تعليمات الانتقال من مكان للآخر أو معلومات حول الأبنية الظاهرة أمام المستخدم، ففي السابق كانت العملية مُمكنة صوتيًا، لكنها الآن أصبحت مرئية كذلك.
فيسبوك بدورها تُثبت أهمّية احتراف طريقة عرض البيانات أولًا، فهي قرّرت الخوض في مجال النظّارات الذكية، لكنها ذكرت حرفيًا أن مُهندسيها يعملون حاليًا لتوفير أفضل طريقة لعرض البيانات من داخل الشبكة الاجتماعية، أي عرض مشاركات الأصدقاء والصفحات، وإلا فإنها لن تكون الأجهزة التي يرغب الجميع باقتنائها(5).
فقاعة الهواتف الذكية
حافظت الهواتف الذكية على نموّها وعلى أهمّيتها عامًا بعد عام، بل أضحت كذلك المورد المالي الأساسي لبعض الشركات. كما ظهرت بعض الشركات التقنية لإنتاج الهواتف الذكية فقط دون أن تمتلك خبرات سابقة في مجالات تقنية أُخرى، وهذا يعكس أهمّية هذه الأجهزة حاليًا، وفي المُستقبل. وفي وقت يظن فيه البعض أنها كأجهزة تقنية كشفت عن كل أسرارها، تعود من جديد لإثبات أنها مُستمرّة، على الأقل حتى ظهور جهاز تقني جديد يُجيد عرض البيانات بطريقة مُريحة بالنسبة للمستخدم قادر على التعامل معها بسهولة.
ذلك النمو لم يأتِ من فراغ أبدًا، فمع كل إضافة جديدة تظهر موجة من التطبيقات التي تجعل استخدام الهواتف الذكية أمرا مُمتعا؛ تطوّر الكاميرات مع تطور أنظمة التشغيل سمح بتوفير تطبيقات لتعديل صورة المستخدم بعد التقاطها بأدوات جيّدة جدًا. كما ساهم تطوّر تقنيات الاتصال في وصول صيحة اللعب الجماعي على الإنترنت فاتحة بُعدا جديدا في مجال التسلية والترفيه على الأجهزة الذكية. تكرّر الأمر بعدها مع المساعدات الذكية التي جاءت أولًا بوظائف عادية، لتظهر تطبيقات (مهارات) تُضيف وظائف متنوعة منها حجز المطاعم وطلب سيّارات الأُجرى من الهاتف نفسه دون الحاجة للتبديل بين التطبيقات.
في 2017 ظهرت تقنيات الواقع المُعزّز (Augmented Reality) التي بدت النظّارات الذكية العشّ الأمثل لاحتضانها، فهي غابت لفترة من الزمن عن أعين المستخدمين، وليس عن أعين المُهندسين الذين دأبوا بدورهم لتقديمها بأفضل شكل مُمكن، ليجدوا بعد الكثير من الاختبارات أن شاشة الهواتف الذكية هي الأمثل لتعزيز الواقع. وهو الأمر الذي أظهرته غوغل، وآبل أيضًا في هواتف "آيفون إكس" (iPhone X)، فتقنيات التعرّف على الوجه تتكامل مع حزمة الواقع المُعزّز لتحويل تفاصيل وجه المستخدم لبيانات يُمكن الاستفادة منها في بقيّة التطبيقات. دون نسيان الكاميرا الخلفية التي تتكامل كذلك مع نفس الحزمة وتُقدّم تطبيقات تقنية مُختلفة.
بمعنى آخر، ومن الناحية التقنية، لكل فعل ردّة فعل، فلكل تقنية جديدة هناك سيل من التطبيقات التي سترى النور وتُعزّز من تجربة استخدام الهواتف الذكية. وما بعد تقنيات الواقع المُعزّز قد تظهر مُستشعرات التعرّف على البصمة المُدمجة مع الشاشة، الأمر الذي إن حدث قد يعني تقنيات جديدة لاستشعار نبضات القلب، أي تطوير مُستشعرات تُحاكي تلك الموجودة في الساعات الذكية. وهذا يُفسّر أهمّية وثقل الهواتف الذكية.
عندما قدّمت غوغل نظّاراتها الذكية قبل أربعة أعوام تقريبًا، مهّدت لأهمّية تقنيات الواقع المُعزّز، التقنيات التي ظهرت بالتزامن مع تقنيات الواقع الافتراضي (Virtual Reality)، والتي دفعت الشركات لإنتاج نظّارات خاصّة اعتُبرت أنها الصيحة القادمة، لكنها مثل البقيّة ما تزال موجودة لكن بخطوتين للأمام وواحدة للخلف لأنها ما تزال بحاجة لاكتشاف نوع البيانات والطريقة الأمثل لعرضها. وبعد أن اعتبر الجميع أن الفيديو بزاوية 360 درجة هو النوع الجديد من المحتوى، تبيّن أنه ليس كذلك، وعاد يوتيوب مثلًا لإطلاق معيار جديد يدعم الفيديو بزواية 180 درجة فقط(6)، لأن المستخدم لم يكن بحاجة جميع التفاصيل السابقة، ومن يدري، قد تتقلّص زاوية الرؤية مع مرور الوقت من جديد لأن ما يحتاجه المستخدم هو مُشتّتات أقل في ظل غزارة المحتوى الذي نعيشه الآن.
في عالم الأجهزة الذكية هناك معادلة ما تزال صحيحة بعد عقد من وصول تلك الأجهزة تتمثّل بالتطبيقات، فكُلّما كان وصول التطبيق أسهل، كُلّما ازدادت أهمّية الجهاز أكثر. وهذا يعني أن الهواتف الذكية لن تفقد أهمّيتها، ولا تحتاج الشركات، أو المُطوّرين، لتجاهلها تمامًا ظنًّا أن الساعات أو النظّارات هي الصيحة القادمة، فتقنيات الواقع المُعزّز لم تبح حتى الآن عن الكثير بانتظار خيال المُطوّرين لكتابة تطبيقات تنقل استخدام الهواتف الذكية لمُستوى آخر. وكما قال "تيم كوك" (Tim Cook) مؤخرًا: إن تقنيات الواقع المُعزّز ينتظرها مُستقبل كبير، لكن نظّارات تلك التقنيات ليست جاهزة بعد لا من ناحية تقنيات عرض البيانات، ولا حتى من ناحية طريقة عرضها(7).