فلنفتـرض أنك وجدت نفسـك فجأة تائهـاً في الصحـراء.. شمس حارقة، اتجاهـات متشابهة لا تعرف إلى أين تؤدي بك، لا تعرف الطريق إلى أقرب واحة، هل هي في الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب؛ بل لا تعرف أساساً كيف تحدد هذه الاتجاهات..!
هنـا، ظهـر لك شخصان لمدة عشر دقائق فقط.. الأول، خبير محنّـك في علوم الفلك، يمكنه ببساطة أن ينظـر إلى النجوم، ويدلك على الاتجاهات بسهولة تامة.. والثاني ليست لديه أي خبرة في علوم الفلك.. ولكنه يقدم لك (بوصلة) بالاتجاهات.. أيهما ستختار؟ .. البديهي أنك سوف تختار الشخص (العادي) الذي يقدم لك بوصلة الاتجاهات، وستتجاهل الشخص (العبقـري) الذي لديه القدرة على تحديد الاتجاهات؛ من خلال النظر في النجوم..
سوف تختار البوصلة لأنها تمثّل (النظـام) المستقــر الذي يقدم لك الخدمة المستمرّة؛ حتى بعد رحيل صاحبها، بدلاً من أن تختار (الشخص) العبقري الذي لن تستفيد من ورائه أي شيء بمجرد رحيله.. الأمر نفسه -تماماً- ينطبق على تأسيس الشركات..
كاريزما القائد
الكثير جداً من مؤسسي الشركات الريادية يعتبـرون أنه لكي تكون الشركة مميزة وناجحة، يجب أن يتمتّع صاحبها بكاريزما هائلة، أو قدرات قيادية استنثائية، متخذين من بعض قادة الشركات الكبرى نماذج لهذا التصوّر..
والحقيقة أن هذا التصوّر في مُجمله خاطئ تماماً، وفقاً لدراسات مفصّلة تمت على أهم الشركات الريادية في العالم، وتم نقــده في الكثير من كتب الإدارة والأعمال؛ باعتباره مخالفا لأبجديات النظام العصري في تأسيس الشركات القوية..
ومن بين هذه الكتب كان كتاب (البنـاء من أجل الاستمرار) الذي تعرّض لهذه الجزئية بالتفصيل، باعتبارها واحدة من أهم المبادئ التي تقوم عليها الشركات القوية. وهو المرجع الذي نستخدمه في التدليل على الطرح المُقدّم في هذا التقرير.
القائد العظيم للشركة قد يكون ضرورة حقيقية بالنسبة للشركات في بداية تكوينها، باعتبار أن فترة التكوين تحتاج إلى قيادة مميزة، وإدارة راسخة، وتنظيم صارم، وفتح لآفاق الإبداع. ولكن؛ بمرور الوقت يصبح هذا القائد سبباً في عرقلة نجاح مُستديم للشركة، ناهيك عن إمكانية فشلها.
بمعنى آخر، يمثل خطورة حقيقية لمبدأ ثبات واستمرارية الشركة؛ لأنها بالتدريج تتأقلم على قرارات وعقلية القائد العظيم. وبالتالي تكون مرتبطة بمنهجيـة (القائد الفذ)، بدلاً من منهجية (المنظومة القوية) التي تضمن لها التفوق حتى بغياب القائد.
أيهما أفضل فعلاً للتهائين في الصحراء؟ ..بوصلة تدلهم على الاتجاهات طوال الوقت بلا مشكلة؟ ..أم فلكي مميز، قد يغيب عنهم لأي سبب ؟!
نظام العمل
من أهم المعايير الأساسية التي ترتبط بشكل جوهري بمفهوم الشركات الريادية الناجحة هو ضرورة تركيز مؤسسّيها على بناء النظـام أكثر من تركيزهم على تحقيق إنجازات فردية.
مواقع التواصل الإجتماعي
لذلك، من أهم المعايير الأساسية التي ترتبط بشكل جوهري بمفهوم الشركات الريادية الناجحة هو ضرورة تركيز مؤسسّيها على بناء النظـام أكثر من تركيزهم على تحقيق إنجازات فردية تستمر بوجودهم، ثم تتراجع وتنتهي باختفائهم.
هذا التصور -استخدام البوصلة؛ وليس الاعتماد على الشخص الذي يدلّنا على الطريق- يعد هو أساس الإدارة الحديثة؛ حتى فيما يخص أدبيات الحكم، ربما أبرز أشكاله كانت في السنوات التأسيسية لدستور الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر؛ حيث انتقلت الأسئلة المتعلقّة بالحكم من نمط :
من سيتولى الرئاسة ؟ ..من سوف يتزعّمنا ؟ ..من أكثرنا حكمة ؟ ..هل سيكون من بيننا من يصلح لهذا المنصب ؟
إلى نمط آخر تماماً، وضعه مؤسسو الدولة الناشئة، وفقاً لأسئلة من نوع :
ما هي العمليات التي يمكن من خلالها أن نضمن أن يصل الشخص الكفء لإدارة البلاد؛ حتى بعد رحيلنا بسنوات طويلة ؟ ..ما هي صلاحيات الحكم لكل مسئول ؟ ..ما هي الخطوط العريضة للنظـام الذي نرغب أن يُعمل به في بلادنا؛ حتى بعد سنوات طويلة من الرحيل ؟
فكـرة الانتقال من (سلطة الفرد) أو مفهوم "الزعيم" الذي يقود البلاد إلى التفوّق -إذا قادها للتفوّق فعلاً- ثم يتراجع كل شيء برحيله.. إلى (سلطة النظام) أو مفهوم (الإدارة) التي تقود البلاد بشكل لا يتأثر نهائياً بكاريزمات شخصية مؤقتة لأشخاص مبدعين جاؤوا ورحلوا..
إدارة الرجل الواحد
بول جالفين مؤسس موتورولا (مواقع التواصل الإجتماعي)
في النصف الأول من القرن العشرين تأسست شركتان كبيرتان في الولايات المتحدة بدا للجميـع أنهما في منافسة شرسة.. شركة موتورولا، وشركة زينيث.. كل من الشركتين تعمل في مجال الاتصالات والتقنية، ولكن كل منهمـا كان لديها أسلوب إدارة مختلف..
كان مؤسس موتورولا (بول جالفين) شخصية لا يمكن وصفها بالكاريزميّة؛ ولكنه ركز مجهوده بشكل كامل على تأسيس نظـام قوي للشركة. قام بتوظيف مهندسين مميزين، وتشجيع العصف الذهني داخل الشركة، واحتضان الإبداع، وحتى تشجيع المعارضة والمنافسة والاختلاف، وأفسح الطريق كاملاً لكل الأفراد لإظهار كافة قدراتهم.
القرار في الشركة لم يكن فردياً؛ بل قام بوضع نظام يقوم بتحفيز كل فرد داخل مؤسسته يجعلهم قادرين على النمو والتعلم والوقوع في أخطاء والاستفادة منها.. حتى وصفه كاتب سيرته الذاتيـة بأنه (وضع كل تصميمـاته لبناء الرجال)..
على العكس تماماً كانت شخصية (يوجين ماكدونالد) مؤسس زينيث.. كان قائداً كاريزمياً مدهشاً، يتميز بشخصية جذابة للغاية، ساهمت في دفع شركته بشكل كبير جداً في الأسواق في تلك الفترة.. كل من عرفه أعجب بثقته الهائلة بالنفس واعتداده برأيه، وكان تلقائياً كل من يناديه يستخدم لقب (قائد).. فضلاً أنه كان مخترعاً محنكاً، وقام بالترويج للعديد من اختراعاته.. باختصار؛ كان "ماكدونالد" هو الشركة.. والشركة هي ماكدونالد..
وفي نهاية الخمسينيات، توفي كل منهما.. "يوجين ماكدونالد" مؤسس "زينيث"، ثم رحل بعده ببضعة أشهر "بول جالفين" مؤسس موتورولا.. هنا فقط، ظهـر الفرق الكبير بين أسلوبي قيادة الشركتين.. استمرت موتورولا في التقدم وتجاوز كافة العقبات؛ حتى أبحرت سفينتها بشكل كبير في السوق الأمريكي والعالمي، في الوقت الذي وهنت فيه "زينيث" بشكل كبير، ولم تعد قادرة أبداً على استعادة بريقها العظيم الذي خلّفه قائدها المحنّك (يوجين ماكدونالد) بعد رحيله.. بمعنى آخر؛ استمرّت موتورولا التي تستخدم (البوصلة).. بينما تاهت زينيث التي تعتمد على ذكـاء القائد بعد رحيله..
استراتيجية التدريب
في العشرينيات من القرن العشرين، شهد العالم ميـلاد شركتين ضخمتين في عالم السينما والترفيه.. شركة (والت ديزني).. وشركة (كولومبيا بيكتشــرز).. يعرف الجميع أن ديزني كان شخصية رائعة.. مبدعا، ومميزا، ورسّاما، وفنانا، وإداريا محنّـكا تتوافر فيه كافة معايير القيادة والكاريزما. ومع ذلك، تفرّغ الرجل لسنوات طويلة لتأسيس (نظـام) أكبر بكثير من اهتمامه بتحقيق إنجازات فردية تُنسب لاسمه فقط..
قام بإطلاق أول فيلم رسوم متحركة في العالم، وشخصية "ميكي ماوس"، ونادي ميكي ماوس، وديزني لاند وغيرها.. ومع ذلك، ورغم كل إنجازاته الفردية، لم يهمل أبداً تأسيس النظام.. في أواخر العشرينيات لم يألُ جهداً عن دفع رواتب عملاقة لاجتذاب أهم طواقم من المبدعين إلى الشركة، حتى قيل إنه منحهم راتباً يفوق راتبه الشخصي.
وفي الثلاثينيات، بدأ في تقديم دروس مكثفة في الرسم لكل الرسّامين في شركته؛ بل وأنشا لهم حديقة حيوانات صغيرة يمكنهم استلهام رسومات لصور الحيوانات من خلالها. وأيضاً قام بإنشاء نظام حوافز سخي للغاية غير مسبوق في عالم صناعة الرسوم المتحركة؛ بهدف اجتذاب المواهب الجيدة.. في الخمسينيات قام بإنشاء مركز تدريبي للعاملين، وفي الستينيات أنشا جامعة ديزني التي تقوم بتدريب وتوظيف العاملين.. باختصار؛ قام بالتوازن الشديد بين إنجازاته الشخصية كقائد محنّـك مميز موهوب من ناحية.. وبين تكريس جهده لإنشـاء منظومة متكاملة صامدة لا تهتز برحيله..
النتيجة أن شركة "والت ديزني" -مع كل الصعوبات التي واجهتها بعد رحيل مؤسسها القائد العظيم- استطاعت الصمود والبقاء على القمة كواحدة من أقوى وأشهر الشركات العالمية في مجال الترفيه حتى هذه اللحظة..
على العكس تماماً مما قام به "هاري كون" مؤسس كولومبيا بيكتشرز.. كان يمثل نموذج (القائد المؤسس)؛ حيث قدم نفسه باعتباره محور الشركة التي حققت إنجازات كبرى في عهده طبعاً لفترة طويلة. كان كل تركيزه هو أن يقدم نفسه كإمبراطور لصناعة الأفلام؛ حيث تمتع بنفوذ شخصي هائل في هوليوود، لدرجة أنه أول شخص حصل على لقب (رئيس ومنتج) سوياً.. حتى توفى في العام 1958.. يوم وفاته حضر جنازته 1300 شخص.. علق أحد ممن شهدوا جنازته المزدحمة بالقول:
إن هؤلاء الـ 1300 شخص الذين شهدوا الجنازة لم يأتوا لوداعه.. وإنما جاؤوا للتحقق من موته فعلاً !
السبب أن العاملين لم يصدّقوا أن القائد قد مات. هو قام بتقديم نفسه طوال الوقت باعتباره الشركة نفسها، ولم يترك أي إنجازات تشير إلى اهتمامه بالعاملين أو صناعة منظومة قوية، أو استهداف تنمية القدرات على المدى الطويل، أو تعميق هوية كولومبيا بيكتشرز.
كانت هذه المنهجية في الإدارة سبباً في تراجع الشركة بشكل كبير بعد وفاة مؤسسها، فوقعت الشركة فريسة للفوضى؛ حتى انتهى الأمر ببيعهـا إلى شركة كوكاكــولا في أواخر السبعينيات، ثم تم الاستحواذ عليها بواسطة شركة سوني في أواخر الثمانينيات..
بين الكاريزما والإدارة
"سام والتون"، مؤسس متاجر والمارت العملاقة للبيع بالتجزئة، كان قائداً مميزاً ذا كاريزما عالية يشهد بها الجميع.. بدأ بداية متواضعة للغاية بمتجر واحد صغير في الاربعينيات، نمى بسرعة بفضل مهاراته المميزة في الإدارة والقيادة.. وكأمر طبيعي، بمرور الوقت ظهر العديد من المنافسين؛ مما جعل مهمة "والتون" تتعقّد أكثر، خصوصاً أن منافسيه كانوا يحققون إيرادات مميزة للغاية أيضاً في سوق التجزئة..
ولكن التاريخ والأرقام تؤكد أن منهجية "سام والتون" تحديداً في الإدارة هي التي جعلت متاجر والمارت العالمية تصل إلى هذه المرتبة الضخمة من النجاح.. كان "والتون" يركز بشكل كاسح على بناء النظام، رغم أنه كان يمتلك شخصية كارزمية عالية جداً.. إلا أنه سار بالتوازن في الإدارة ما بين الكاريزما والحسم من ناحية، وتأسيس نظـام صارم لشركته يسمح باستمرارها مع رحيله من ناحية أخرى.
أوجد "والتون" آليات تنظيمية مميزة، وأنظمة تحفيز مبدعة. وقام -أيضاً- بمنح المدراء السلطة والحرية لإدارة أقسامهم كما لو كانت ملكهم، وخصص جوائز نقدية تقديراً للشركاء الذين يساهمون بالأفكار التي تخفّض التكلفة وترفع الأرباح، ومستوى الخدمة. أوجد أيضاً مسابقات تنافسية بين المتاجر، ووضع نظاماً للاجتماع صباح كل يوم سبت مع العاملين، لإبراز قصة نجاح أحدهم؛ ممّن حققوا نجاحاً مهماً أو قاموا بتجربة شيء جديد. وأيضاً قام بإشراك العاملين في الأرباح وتمليكهم الأسهم..
حتى النصائح التي كان يقدمها العمّـال والاقتراحات، كانت تنشر فى مجلة والمارت الداخلية، ويُبرز أسماء أصحابها بكل التقدير.. باختصار؛ الرجل خلق نظاماً متماسكاً جداً، جعل الشركة تستمر بنفس النجاح بدون أي اهتزاز، حتى بعد رحيله سنة 1992..
على العكس تماماً من بعض منافسي "والمارت"، مثل متجر "أميــز" الذي كان قادته يديرون الشركة من برج عاجي، ويؤلفون كتباً ضخمة بخصوص الخطوات التي يجب أن تتخذ لإدارة الشركة فوقياً؛ دون أن يفسحوا أدنى مجال للمبادرة أو لتأسيس نظـام تعاوني جماعي لإدارة الشركة.. والمارت استمرت لأنها قامت على (النظـام).. بينما غيرها تراجعت؛ لأنها بنيت على أساس القيادة الفردية..
الخاتمة
لا يعني كل ما تم ذكـره هنا -وهناك العديد من النماذج الأخرى التي يمكن أن تُذكـر بتفصيل أكبر في هذا السياق- أن التميز القيادي والكاريزما الشخصية لمؤسسي الشركات ليست أمراَ ضرورياً. بالعكس، كما ذكـرنا في البداية، من الضروري أن يكون المؤسس لديه الخبرة القيادية والكاريزما الكافية لإدارة شركته خصوصاً في مراحلها الأولى.
ولكن أن تظـل الشركة بشكل كامل قائمة على مهارات المؤسس وخبرته وكاريزميته؛ بحيث تتحول إلى نموذج القافلة التي تهتدي بذكـاء قائدها، وتضـل بمجرد أن يغيب عنها.. هذه هي المعضلة الأساسية التي يجب أن يضعها كل رائد أعمال في اعتباره.
إذا كنت قائداً ذا شخصية جذابة وكاريزما متميزة، فنعمّـاً هي.. فقط يجب أن تعرف أن هذه الكاريزما هي مجرّد وسيلة للوصول بشكل أسرع لتأسيس نظـام قوي يضمن استمرارية الشركة مع غيابك.. أما إذا لم تكن كذلك، فلا بأس.. أنت تسير في نفس طريقة هؤلاء العظماء الذين أسسوا شركات مثل 3M وسوني وبوينج وميرك، وغيرها.. أشخاص عاديون تماماً ليس لديهم مهارات قياديـة رائعة، استطاعوا أن يجتهدوا في تأسيس شركات عملاقة، استمرت بعد رحيلهم.
أهم ما يجب أن يكون في اعتبار ريادي الأعمال العربي هو أن يستهدف صناعة البوصلة وتقديمها لشركته. ولا يستهدف أن يظهر بمظهر القائد الذكي طوال الوقت الذي تتعثر شركته بمجرد غيابه.. تأسيس نظام قوي ومتماسك يدوم حتى بغياب صاحبه، أهم وأبقى من الاكتفاء بكاريزما القيادة.. قاعدة أصيلة ثابتة في عالم تأسيس الشركات الرائدة.