حين تكون الهجرة طريقا للنجاح.. أو طريقا للفشل
الثلاثاء, 01 أبريل, 2025 - 08:49 مساءً

لطالما كانت الهجرة فرصة للكثيرين لإعادة بناء حياتهم وتحقيق طموحاتهم، لكنها في الوقت نفسه تحدٍّ يتطلب إرادة قوية وقدرة على التكيف. في فرنسا، نجد أمثلة كثيرة لمهاجرين عرب، وخاصة المغاربة، الذين استطاعوا الاندماج في المجتمع وتحقيق نجاحات كبيرة بفضل تعليمهم ومهاراتهم.
 
وعلى الجانب الآخر، هناك من ضاعوا في متاهات الفشل والانحراف رغم توفر الفرص أمامهم، فما الذي يصنع هذا الفرق؟ وكيف يمكن للمهاجر أن يختار طريق النجاح بدلًا من الضياع؟
 
خلال زيارتي لإحدى المنشآت قيد الإنشاء، التقيت بمهندس معماري شاب، كان منهمكا في عمله، يتحدث الفرنسية بطلاقة، يوجه العمال، ويمارس مهامه الإشرافية بثقة واقتدار. كان حضوره لافتًا، يعكس خبرته وشغفه بالمجال.
 
لفت انتباهي موقف بينه وبين أحد العمال، حين طلب منه إعادة طلاء إحدى واجهات المنزل. لم يفهم العامل ما كان يقول له لأنه لا يتكلم الفرنسية، كان تركيًا ويتحدث لغته الأم فقط. ظن المهندس أنه عربي، فبادره بالكلام بالعربية، لكن العامل أشار برأسه نافيا. حينها، شعرت بأن المهندس نفسه عربي، فقد لاحظت ذلك منذ وصوله بسيارته الفارهة، وتعزز حدسي عندما سألته مباشرة: "هل تتكلم العربية؟" فأجاب وهو يبتسم: "نعم، أنا أتكلم العربية."
 
هكذا تعرفت على وليد، شاب مغربي حديث التخرج في الهندسة المعمارية، بدأ رحلته المهنية في فرنسا بثبات وطموح. تبادلنا أطراف الحديث، وشعرت بفخر حقيقي لرؤية مثل هذه النماذج الشابة الطموحة التي تحقق ذاتها في بيئات جديدة.
 
وليد ليس استثناء، بل نموذج يعكس نجاح العديد من الشباب المغربي في فرنسا. فهم جزء لا يتجزأ من المجتمع الفرنسي، وقد فرضوا وجودهم بفضل مؤهلاتهم واجتهادهم. تجدهم في مختلف القطاعات، من الهندسة والطب إلى التجارة والتعليم إلى مختلف المجالات، يتركون بصمتهم بفضل تأهيلهم العالي وقدرتهم على التكيف.
 
ما يميز المهاجر المغربي عن غيره من المهاجرين العرب هو قدرته على الاندماج السريع في المجتمع الفرنسي، مستفيدا من إتقانه للغة الفرنسية بحكم الإرث الاستعماري، مما يمنحه ميزة تنافسية في سوق العمل. بعكس بعض الجنسيات الأخرى التي تواجه صعوبات لغوية تعيق اندماجها.
 
إلى جانب إتقان اللغة، يمتلك المغاربة مرونة عالية في التكيف مع بيئات العمل المختلفة، فهم متعاونون وسريعو الاستجابة، مما يجعلهم عنصرا فعالا في المجتمع الفرنسي. لهذا السبب، نجد المغاربة يعملون في مختلف المجالات والمهن دون تحسس.
 
وعلى الدولة أيضا أن تقوم بواجبها تجاه المهاجرين، ليس فقط من خلال توفير الفرص، ولكن عبر سياسات إدماج حقيقية، تمنع عزلهم في أحياء خاصة بهم وتعزز مشاركتهم في المجتمع كأفراد فاعلين.
 
لكن في المقابل، هناك وجه آخر لبعض الجاليات  التي لم تستطع تحقيق ذاتها بالشكل الصحيح. نجد أعدادا كبيرة من الشباب انحرفوا عن المسار، واتجهوا إلى تجارة الممنوعات مثل الحشيش وغيرها، مما يجعلهم عرضة للخطر والمساءلة القانونية. هؤلاء لم يضروا أنفسهم فقط، بل أساؤوا لصورة المهاجر العربي عمومًا.
 
كم هو مؤلم ومحزن أن ترى تلك التجمعات من الشباب على مداخل الأحياء والحارات في مختلف المدن الفرنسية، يبيعون أو يزاولون مثل هذه الأنشطة، بينما كان يفترض أن يكونوا في المدارس والجامعات والكليات المختلفة.
 
كان بإمكانهم الاستفادة من فرص التعليم والدعم الذي تقدمه الحكومة في هذا المجال. فهذا البلد، كغيره من بلدان العالم الأول، يدعم التعليم بمختلف مراحله ومستوياته، ويتيح للجميع إمكانية تحقيق طموحاتهم ونجاحاتهم. التعليم هنا مجاني، فلماذا لا يتم الاستفادة من هذا الدعم؟ لماذا لا يحرص العربي على متابعة ابنه حتى يصل إلى بر الأمان؟
 
لخطباء المساجد دور كبير جدًا، فعليهم مسؤولية كما على الأسرة دور أيضًا. بدلا من أن يتناول الخطباء وأصحاب الجوامع مواضيع قد عفا عليها الزمن وجمع التبرعات، بإمكانهم أن يتحدثوا عن هذه القضايا المهمة، قضايا ضياع الشباب وذهابهم إلى المجهول.
 
ما أجمل أن يعتلي الخطيب المنبر ويتحدث إلى الناس عن مثل هذه الظواهر الخطيرة، أن يخاطبهم عن الحلول والتوعية بدلاً من الخوض في مواضيع بعيدة عن هموم الناس اليومية. بإمكان الخطيب أن يوجه رسالة واضحة إلى أولياء الأمور، يذكّرهم بمسؤوليتهم تجاه أبنائهم، بضرورة متابعتهم ورعايتهم، لا أن يتركوهم عرضة للضياع والانحراف.
 
وعلى الآباء أن يدركوا قيمة هذا البلد الذي وفر لهم الأمن والاستقرار وسبل العيش الكريم. من واجبهم أن يكونوا جزءا فاعلا فيه، وأن يندمجوا في مجتمعه، ليس فقط كأفراد مستفيدين، بل كعناصر ناجحة تساهم في بنائه وتعكس صورة إيجابية عن المهاجر العربي.
 
عند مقارنة نظام التعليم في فرنسا مع البلدان الأخرى، نجد فرقًا شاسعًا. فالتعليم في فرنسا متاح للجميع، من مرحلة الطفولة حتى التعليم الجامعي، كما توفر الدولة منحًا وبرامج دعم للطلبة، مما يسهل عليهم إكمال دراستهم دون عوائق مالية. بينما في بعض الدول العربية، يواجه الطلاب تحديات كبيرة مثل قلة الموارد، وارتفاع تكاليف التعليم، وضعف جودة المناهج، مما يجعل تحقيق الأحلام أكثر صعوبة.
 
كان بإمكان هؤلاء الشباب أن يسيروا على خطى وليد، أن يكونوا مصدر فخر بدلًا من أن يصبحوا عبئًا على مجتمعاتهم. وليد اليوم مهندس معماري ناجح، يعمل في مشروع مهم، وأعتقد أنه سوف يحصل على راتب جيد بفضل اجتهاده وتأهيله.
 
تشير الإحصائيات إلى أن عدد المغاربة المقيمين في فرنسا يفوق المليون شخص، مما يجعلهم إحدى أكبر الجاليات الأجنبية هنا. (المصدر: ويكيبيديا).
 
في النهاية، تبقى الهجرة بابا مفتوحًا للفرص، لكنها في الوقت نفسه اختبار حقيقي للقدرة على التكيف والنجاح. وليد، وغيره من الشباب المغاربة الطموحين، اختاروا طريق العمل والاجتهاد، فحققوا نجاحاتهم وأصبحوا نماذج مشرفة لمجتمعاتهم.
 
في المقابل، هناك من انحرفوا عن المسار الصحيح، فتاهوا في دروب الممنوعات والضياع. الفرق بين الفريقين لم يكن في الفرص، بل في الاختيارات التي صنعها كل واحد منهم.
 
فما أعظم أن يستفيد الشاب العربي من الإمكانيات الهائلة والضخمة التي توفرها له الهجرة، بدلا من أن يكون مجرد رقم في قوائم الإحصائيات السلبية. النجاح متاح للجميع، لكن الأمر يعتمد أولًا وأخيرا على الإرادة والاختيار.
 

التعليقات