"Hara hachi bu" هارا هتشي بو".. كرر هذه العبارة دون أن تفكر في معناها، لأنها في الأصل باللغة اليابانية، وتشير إلى طريقة للحفاظ على الحياة والعيش لأطول عمر بناء على أسلوب محدد في الأكل والممارسات اليومية، وهذا الأسلوب في تناول الطعام بوجه خاص، قد عرف به سكان أرخبيل أوكيناوا الياباني، ويعود في جذوره إلى الثقافة الكونفوشيوسية وقد توارثوه عبر قرون طويلة.
مؤخراً، أصبح شعب أوكيناوا، جنوب اليابان، مصدراً للإلهام في الدراسات الغربية، بعد أن لوحظ أن أعمار سكان هذه الجزيرة هي الأطول في العالم، ومن النادر أن يعيش أحدهم أقل من 85 سنة، كما أن أجسادهم متزنة ومعتدلة الوزن حيث الرشاقة والنحافة في الغالب، كما أنهم لطيفون قليلو التذمر.
قاعدة الكرسي
في البداية اعتقد العلماء أن السبب يعود إلى أمر جيني، لكن Hara hachi bu كانت هي المفتاح لحل اللغز، فالأمر لا يتعلق بالجينات إنما أسلوب حياة متوارث عبر الأجيال.
ووفقاً للعالم الياباني ماكوتو سوزوكي، الذي قضى 30 عاماً في تقصي هذا الموضوع بصحبة زميليه الكنديين برادلي وكريج ويلكوكس، فإن ظاهرة معدل الحياة المرتفع في الأرخبيل، تعود لقاعدة تشبه الكرسي رباعي الأرجل، وعليه فإن التوازن الكامل يعني: الغذاء والجسد والنفس والفلسفة (الحكمة)، وهذا الرباعي هو الذي يصوغ هيأتك.
سر الكعكة
Hara hachi bu يمكن أن يقال أيضاً Hara hachi bunوbun تعني كعكة، غير أن مدلول العبارة يعني مباشرة بالعربية، "أن تأكل إلى أن تملأ 80 بالمئة من معدتك"، وهي القاعدة الكونفوشوسية التي حافظ عليها سكان أوكيناوا.
وجوهر هذه الفلسفة يقوم على عملية التحكم في نظام السعرات الحرارية في جسم الإنسان، فإذا كان الشائع في الغرب هو الإفراط في تناول الطعام بسعرات عالية، فإن ما يفعله الأوكيناوايون هو الاتزان وليس العكس تماما، وفق الالتزام بقاعدة "هارا هتشي بو".
فالعادة أن الفرد من شعب أوكيناوا يستهلك يومياً ما معدله 1800 إلى 1900 سعرة حرارية، وهو بضع مئات أقل من المعدل الأميركي، وهذا هو السبب الأوضح لتلك الحيوية والعمر الأطول عند سكان الجزيرة.
فن الأكل
لكن فلسفة Hara hachi bu أكثر عمقاً، فهي تتضمن مجموعة من تقاليد الأكل الصارمة، فمبادئ "هتشي" تقوم على أكل وجبات صغيرة وتناول الطعام ببطء بدلاً من الإفراط مرة واحدة.
كما أن عليك أن تعرف اللحظة التي يجب أن تتوقف عندها عن الأكل، لا تنظر إلى الامتلاء أو الشبع، بل إلى الشعور الداخلي الذي يخبرك أن عليك التوقف الآن.
وهذا يتطلب تدريبا شديدا ولا يأتي من مرة واحدة، وهو فن إدارة شهية الأكل، ويرتبط ذلك بتدريب الدماغ عند الشخص على كيفية كسب هذا الشعور. وبالنسبة لسكان أوكيناوا فقد تدربوا على ذلك عبر الأجيال وصار جزءاً من التقاليد التربوية التي تبدأ منذ الصغر.
في المقابل وعند أغلب الشعوب فإنه لا أحد يعطي نفسه الفرصة لكي يفكر مع نفسه أنني شعبت فعلا، لا داع للمزيد.
هذه الإشارة بأن تتوقف التي ترسلها المعدة للدماغ تجعلك فعليا تصوم لعشرين دقيقة قبل أن يعود الشعور بالجوع أو رغبة الشبع المفرط.
نوعية الغذاء
كذلك فإن نوعية الغذاء أو المأكولات لها دور هي الأخرى، فالنظام الغذائي عند شعب أوكيناوا يحتوي على نسبة عالية من الفواكه والخضراوات الطازجة، بالإضافة إلى الحبوب والبقوليات والأسماك، مع التركيز على أنظمة الغذاء التقليدي وتحاشي ما أمكن الأطعمة المصنعة، وهو ما يعتقد أنه سبب رئيسي في ندرة أمراض الشيخوخة والزهايمر والسرطان والقلب والأوعية الدموية عند هؤلاء الناس.
قواعد الحياة الإيجابية
بالنسبة للغذاء فقد بات الأمر واضحاً، أما الجسد والنفس فالأمر يقوم على ممارسات رياضات مثل "تاي تشي" والكاراتيه والمشي والرقص واليوغا، وفنون الدفاع عن النفس، وهي أمور تتكامل مع الجانب الروحي عند الإنسان.
كذلك معروف عن الأوكيناوايين أنهم شعب غير مدخن وهذا يقلل عدة أمراض كهشاشة العظام والقلب والسرطان وغيرها، وهم يحرصون على المشي في الهواء الطلق تحت الشمس.
للحياة الإيجابية عندهم حكمة تقوم على أن الإنسان كائن اجتماعي دعامته الحب والدعم من الأصدقاء والرفاق، فكبار السن عندهم يعيشون بشكل مستقل إلا أنهم يندمجون روتينياً في الوسط الاجتماعي عبر الألعاب والرياضات الجماعية أو الأندية، ويشار إلى أن جزءاً من ثقافتهم يقوم على احترام الكبار وزيارة العائلة، وإيقاع الحياة عموماً هادئ ومعتدل وليس من ضجيج سوى متعة الإحساس بأنك في هذا العالم.
وفي الصباح نرى الناس عادة يشغلون أنفسهم بالتأمل والاندماج في الطبيعة مع إشراقة الشمس.
كذلك العمل الجماعي هو أسلوب حياة مفضل، فالانتماء للمجموع يعزز الروحانية ويوقظ الحس والتفكير، وهم شعب لا يحب الموسيقى والرقص بشكل مستمر باعتبارهما يشعران الروح باليقظة والمرح، أما العلاجات فأغلبها تميل للطب التقليدي بعيدا عن الأدوية الحديثة.