اليمن بلاد الحروب اللامنتهية.. وأكثر من ذلك: بلاد التحالفات المتناقضة والمصالح الدولية المتعارضة..!!
على الدوام، اُبتليت هذه البلاد: إما بقادة طُفيليين أو عملاء لا وطنيين أو - غالبا - زعماء ديماغوجيين.. في مواجهة جماعات وتكتلات وطنية (في النادر)، أو شبه وطنية على الأقل؛ وإما بجماعات وتكتلات ما قبل وطنية، أو مرتهنة لأفكار وأهداف متخلفة أو ما وراء وطنية، أو ميكافيللية على الأقل.. في مقابل حكام حاولوا أحيانا استعادة الروح الوطنية، أو ربما آخرين رمت بهم الأقدار للأعلى دون أن يكونوا مناسبين لمثل هذا الشأن العظيم..!!
وعلى هذا المنوال، تمرغت اليمن بين الكوارث والمآسي، تنقلت - وما تزال - من حرب إلى أخرى..
واليوم، وبينما ما نزال في خضم حرب داخلية طاحنة، أوصلتنا إليها تشكيلة من تلك الابتلاءات القاهرة التي لم تتعاضد مثلها من قبل على هذا النحو المتداخل والمتناقض على حد سواء.. إذا بالخصوصية التدميرية تأبى أن تمهلنا حتى ننتهي مما نحن فيه من مآس، لتباغتنا مجددا في سلوك بعض من أسندت إليهم المسؤولية في البلاد..!!
هذه المرة أيضا، توحي رغبات المرتهنين لمصالح الخارج، أن اليمن - الذي ما زال يكابد جراحه العميقة - تنتظرها حرب أخرى، مرجح أن تتبدل فيها التحالفات الرخوة بين الأقوياء في الخارج والطفيليين في الداخل.
هذه الحرب، منذ فترة، ونحن نسمع قرع طبولها من قبل السلطات التي تحكم عاصمة اليمن المؤقتة (عدن)، ومن ورائها يقف حكامها الفعليون القادمون من خلف بحار شبه الجزيرة العربية. ومؤخرا تصاعد صوتها أكثر، لتكشف عن رغبة، هي في الحقيقة لم تكن بخافية على أحد منذ زمن، إلا أنها كانت ما تزال في طور المسكوت عنه اضطرارا، ربما تجنبا للأسوأ في ظل السوء القائم.
السيناريو الأرجح للحرب القادمة
يمكن تخيل أرجح سيناريوهات هذه الحرب على هذا النحو السهل: أن تكون اليمن موطئا جديدا لحرب أخرى بالوكالة، لكن هذه المرة بين مصالح الدولتين الأقوى في دول التحالف العربي.
فلا يمكن للسعودية - على سبيل التخمين السياسي - أن تواصل النظر مطولا بذات العين الخفية لما تقوم به رديفتها الخليجية (الإمارات) من محاولات لتحقيق رغبة الجنوبيين الانفصالين، التي هي بالأصل تجسد جزءا من أهدافها الاقتصادية في المنطقة.
وأخذا بعين الاعتبار، أن الفصيل الجنوبي المنادي بانفصال الجنوب عن الشمال، والذي بات شبه مسيطر كليا على السلطة في عدن، هو فصيل تربطه علاقات متينة - معلنة أحيانا - مع إيران؛ التي هي بالأساس العدو المفترض لدول الخليج بشكل عام، والعدو اللدود للسعودية بشكل خاص، فإن هذه الحقيقة تزيد من ترجيح إمكانية تبدل التحالفات الخارجية والداخلية المستقبلية.
وفي حال سيناريو كهذا، فإن مسألة انفصال الجنوب عبر دعم الانفصاليين الجنوبيين الذين يحكمون العاصمة المؤقتة لليمن، التي ما تزال في أتون حرب داخلية مدعومة خارجيا بالحضور وبالوكالة أيضا، تغدو هي العامل المشترك بين العدو المفترض للسعودية (إيران) والشريك المفترض لها (الإمارات). فالانفصال بالنسبة للإماراتيين يحقق مصلحة اقتصادية كبرى، بالسيطرة على المنطقة الحرة الوحيدة التي قد تنافس منطقتها الحرة في دبي، فيما لو أديرت بشكل جيد. وهذا بالنسبة للإيرانيين تحقيق لقوة حليفهم اليمني (الحوثيين)، الذين تضعف قوتهم وحاضنتهم الفكرية والمذهبية في ظل الوحدة اليمنية. المعروف أنه كلما اتجهنا من الشمال جنوبا يضعف تأثيرهم السياسي والمذهبي، فضلا عن أن الانفصال سيجعل الجنوب أقرب إلى سلطنة عمان، الحليف الأكبر في دول الخليج لطهران، وبالتالي يمكن ضمان السيطرة على قراره لمصلحة الطرفين.
السيناريو الأخطر كنتاج لتأخر الحسم العسكري
إن الحرب الجارية الآن في اليمن، منذ أكثر من عام ونصف، لم يتوقع لها الاستراتيجيون السعوديون، وربما المستشارون العاملون مع التاج الملكي السعودي، أن تطول إلى هذا المدى، فيما تؤكد حالة المراوحة الراهنة وتآمراتها أنها قد تطول أكثر. وفي النهاية - وربما هذا ما يحدث حاليا وما زالت الأمور في المنتصف - ثمة من استفاد من هذه الحرب وقطف ثمارها سريعا، وثمة من ما زال يسعى بكل الوسائل لأن يستفيد منها (سواء من الحلفاء الخليجيين أم الحلفاء اليمنيين)، على حساب ما يمكن أن يعتبرخسارة سعودية كبيرة، في مختلف الأصعدة: الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والتحالفات السياسية الخارجية للدول الكبرى، بل وحتى على مستوى التماسك الداخلي أحيانا.
تنامي دعوات الانفصال، في هذا التوقيت، وعلى هذا النحو المستفز، من شأنه أن يراكم على السعودية حالة التشتت والتوهان التي شملتها مؤخرا، منذ ظهرت إلى السطح وبوضوح حالات الضعف والعجز واللاكفاءة، بل والفساد، وأحيانا ما يمكن أن تصنف على أنها "تآمرات خفية".. في أعلى هرم السلطة الشرعية في اليمن، وزاد منها الاستقطابات الجانبية لقادة الانفصال الجنوبيين من قبل حليفتها الخليجية الأقوى؛ ليزداد الأمر سوءا مع تراجع التحالفات الاستراتيجية الدولية الكبرى، وارتفاع منسوب الضغوطات الموجهة ضدها، على مستوى المنظمات الحقوقية الدولية وجماعات الضغط الخارجية..
وفقا لكل تلك التراكمات، الناجمة بالأساس عن تأخر الحسم العسكري في اليمن، فإن الحرب الراهنة في اليمن قد تفضي إلى حرب تصفية مصالح بالوكالة، ينتظرها اليمنيون - على غير عجل - بين الطرف المؤيد والداعم للانفصال، والآخر الرافض، القلق من أهدافه ونتائجه المستقبلية المشكوكة.
تصريحات جنوبية استفزازية
على أن الواضح، أن ثمة من لا يريد للرياض أن تلتقط أنفاسها، فيذهب إلى التسريع في حدوث ذلك التصادم، عبر تفاقم مسالك القادة الجنوبيين (المسيطرين على عدن بشكل خاص)، على ذلك النحو المستفز، الذي وصل حد استدعاء حرب الوكالة تلك، من خلال الدعوة التي وجهها محافظ عدن (المحسوب على أبو ظبي)، قبل أيام، لسرعة تشكيل ما أسماه "كيانا سياسيا" باعتبارها "الفرصة السانحة" الآن، في مقابل ما يعتقد أنه "الكيان السياسي" للشمال، الذي أعلن تحالف الانقلابيون (الحوثي - صالح)، عن تشكيله في صنعاء مطلع آب/ أغسطس الماضي، تحت اسم "المجلس السياسي الأعلى" لإدارة البلاد.
قد لا يترجح شيء من تلك المخاوف، على اعتبار أن دعوات الانفصال - في نهاية المطاف - تمثل حقا للجنوبيين، إلا أن تصعيد تلك الدعوات في الوقت الراهن وبتلك الطريقة الانتهازية، وفي ظل السيطرة على الجنوب من أحد الشركاء الخارجيين في الحرب التي ما زالت تخاض في اليمن، قد يوحي أن هناك أطرافا من مصلحتها تأخير الحسم في بقية المناطق اليمنية غير المحررة، والتي ليس من قبيل المصادفة البحتة أن جميعها تقع في شمال اليمن..!! مثلما لم تكن تصريحات محافظ عدن الداعية إلى استغلال ما أطلق عليها هذه "الفرصة السانحة" الآن، مصادفة هي الأخرى، أو مجرد كلام عابر يلقى على عواهنه. وإلا ما هي الفرصة هنا في ظل ما تمر به المحافظة ومحيطها من انعدام للأمن والسكينة والاستقرار في ظل ما تزخر به بين الحين والأخر من عمليات إرهابية نوعية، مع انفلات أمني واضح..؟!! في الوقت الذي تتغلغل فيه وتتغول، يوما إثر آخر، ما تسمى بقوات "الحزام الأمني" المشكلة والمدعومة والمدربة من الإمارات، والتي تمارس أبشع صور الانتهاكات، ليس في حق كل ما هو شمالي فحسب، بل وأيضا في حق كل من يختلف بالرأي مع توجهات هذه القيادات، من أبناء المناطق الجنوبية.
ولعل هذه التصرفات تشكل نواة صلبة للحرب القادمة، تلك التي ثبت أكثر من مرة أن قياديين على مستوى رفيع في السلطات التي تحكم عدن يهددون بها كل مخالفيهم من قوى سياسية ومشايخ وأفراد. بل أبعد من ذلك: إذا ما صحت تلك التسريبات المنسوبة لقائد القوات الإماراتية المتواجدة بعدن، والتي يقال إنه أطلقها في اجتماع خاص عقد مؤخرا مع قيادات ما يسمى بالحزام الأمني بالمحافظة، وعد فيها بإعادة رئيس الحكومة السابق "خالد بحاح" إلى حكم الجنوب، بعد أن أقاله الرئيس اليمني قبل اشهر، وكذا وعده بإعادة "أحمد علي صالح"، نجل المخلوع، المتواجد حاليا في الإمارات، إلى حكم الشمال، مع توعده بمعاقبة الإصلاحين (المنتمين لحزب التجمع اليمني للإصلاح) - الحزب الإسلامي المعتدل المشارك مع الشرعية والتحالف في الحرب.. إذا ما صح ذلك، فإن الإمارات تلعب لعبة خطرة جدا في اليمن، ربما تكون قد حصلت على ضوئها الأخضر من أطراف دولية مؤثرة، أو ربما أنها تعمل على فرضها كأمر واقع.
هذه اللعبة لا تقتصر خطورتها على تدمير مستقبل اليمن ووحدته وتمزيق نسيجه الاجتماعي فقط، والتأسيس لحروب طويلة الأمد، بل تتعداها إلى ما يمكن أن تعتبر مواجهة صريحة مع جارتها الشقيقة، التي لطالما تغاضت وأغمضت عينيها عمدا عما فعلته حتى الآن، ضدا على توجهاتها السياسية وأمنها القومي ومصالحها الحيوية المعلنة منها والغير معلنة.
تماهي براجماتي (ضمني) بين طهران وأبو ظبي
إن التماهي في بعض الأهداف بين أبو ظبي وطهران، في اليمن، حتى وإن لم يكن له أساس صريح معلن، إلا أنه عمليا يظهر بشكل رغبات متطابقة بشكل أو بآخر. تختلف القوتان المؤثرتان في الشرق الأوسط، في جزئيات وتفاصيل التوجهات السياسية والاقتصادية، مع انعدام توافق شبه كلي ربما في التوجهات الدينية والمذهبية والفكرية، إلا أن سيطرة إيران على قرار الشمال (عبر حلفائها الحوثيين)، والإمارات على قرار الجنوب (عبر أتباعها الانفصاليين)، من شأنه - ربما - أن يؤسس لمصالح مشتركة مستقبلا، كما هي عادة الدولتين البراجماتيتين، على قاعدة "لا ضرر ولا ضرار".
وعلى هذا النحو، يكفي أن تواصل الأولى مهمتها في جنوب اليمن، في دعم حليفيهما المشترك، بينما تواصل الثانية مهمتها في الشمال لإطالة أمد الحرب، ما يحقق فكرة استغلال "الفرصة السانحة" للانفصال من جهة، ومن جهة أخرى إضعاف وإنهاك العدو (الإيراني)، والحليف (الإماراتي)، الذي قد يتحول لاحقا إلى عدو غير معلن في حرب مرجح لها أن تخاض بالوكالة ضمن تصفيات المصالح في اليمن بين الشمال والجنوب. ونقصد بالشمال هنا، تلك القوة التي تبنيها السعودية حاليا (على مُكث) لمواجهة التمدد الإيراني في اليمن. أما الجنوب فهي تلك القوة التي بنتها الإمارات لتحقيق الانفصال والسيطرة بها على الجنوب لاحقا وحماية مصالحها الاستراتيجية والحيوية هناك.
وحتى إن لم يكن هناك اتفاق حقيقي مبرم على تفعيل هذه الاستراتيجية، إلا أن ما تخطه المصالح المشتركة قد يكون أبلغ اتفاق ضمني للسير على هذا النحو، استغلالا من أبو ظبي للفراغ الذي خلقته السعودية في الجنوب بعد التحرير، وانشغالها بالحرب الكلية في بقية أجزاء اليمن المتاخمة لحدودها. وهو كذلك بالنسبة لطهران التي تستغل الحالة الدولية الجديدة المنفتحة، ليس عليها فحسب، بل وحتى على حلفائها الانقلابين في شمال اليمن.
إن ذلك، ربما، قد يمثل أحد العوامل التي ألجأت الرياض إلى الحرص على الحل السياسي أكثر من مواصلتها الحلول العسكرية، تجنبا للمزيد من الصدمات المفاجئة. غير أن المرجح أن عيون المملكة لن تظل مغمضة طويلا على ما أصبح منظورا ومسموعا للجميع.
في الواقع، ذلك ما سيجعل حرب الوكالة القادمة، خيارا مرجحا، في حال لم تتورع شقيقتها من مواصلة التغريد بعيدا عن الأمن الكلي للمنطقة. في النهاية ستصرف القوة الموحدة الكبرى عن أهدافها الرئيسية، لتستنزف في حرب داخلية أخرى، ستكون إيران وحلفائها في اليمن المستفيد الأكبر منها.
*نقلا عن عربي21