عندما تعود لمرحلة ما بعد تحقق الثورتين السبتمبرية والأكتوبرية في اليمن، وكيف جرى بناء الدولتين شمالا وجنوبا، ستدرك حجم الكارثة اليوم.
تسلم ثوار صنعاء إرث دولة عزلت اليمن عن العالم حرفيا، وتأخرت عن مسيرة التنمية التي عهدتها دول عربية لعقود، ولم يكن هناك سوى مؤسسات بسيطة لا ترقى لأن تكون مؤسسات دولة، ناهيك عن الأعباء التي كان يشعر بها حكام الجمهورية في تقديم الخدمات للناس خلال العهد الجديد، ولعل أدق تلخيص لذلك الوضع هو ما أطلقه الثوار حينها عن العهد الإمامي بأنه "الفقر والجهل والمرض.
لم يكن الأمر يختلف كثيرا في جنوب اليمن، فقد وجد الثوار الذين أعلنوا الجمهورية وتسلموها أنفسهم أمام ذات الوضع، لا مؤسسات دولة، ولا موظفين، فبريطانيا التي انسحبت من الجنوب، أخذت كل ما يتعلق بتشغيل المؤسسات، ومقومات استمرار العمل الحكومي، كوسائل النقل وغيرها، ويتحدث هنا رئيس الجمهورية الأسبق علي ناصر محمد في مذكراته عن تلك الحقبة، قائلا إن بريطانيا أخذت كل شيء من مؤسسات الدولة التي كانت تديرها ورحلت، وسرد هنا مثالا عن الصعوبات التي واجهتهم في الانتقال إلى جزيرة ميون، فلم يعثروا على قارب، ولم يجدوا سائقا محليا يمكن أن يرشدهم، وعندما وصلوا الجزيرة على متن قارب لجندي بريطاني سابق اكتشفوا أن ميون التي كانت تضم مصانع خلال حكم بريطانيا صارت صفرا، لم يترك البريطانيون في الجزيرة سوى الفنار، بعد أن فككوا كل شيء.
أمام هذا الوضع بدأت الصعوبات شمالا وجنوبا لبناء الدولة ومؤسساتها، فانطلقت الأفكار والتجارب والمشاريع، واجتهدت الحكومات المتعاقبة في وضع اللبنات الأولى لمداميك الدولة، سواء على المستوى الخدمي التنموي، أو حتى على المستوى التشريعي.
يسرد الأستاذ مقبل نصر غالب في مذكراته البدايات الأولى لتشكيل الدولة في تعز عقب الثورة، تشعر عندما تقرأ ذلك بمدى المجهود الذي بذله السابقون من قيادات الدولة المتعاقبة، فكل مبنى حكومي، أو ملعب، أو منشأة تعليمية، أو صحية، توجد خلفها قصة تروي تطورات إنجازها، وتقديمها للمجتمع، ولم تصل لهذا الشكل الذي عليه إلا بثمن كبير، وجهود حثيثة، سواء على مستوى المال الذي أنفق على تجهيزها، أو العمل عليها من قبل الشخصيات الحكومية.
الأمر نفسه فيما يتعلق بعملية النضال السياسي لليمنيين، شمالا وجنوبا، منذ مواجهة الاحتلال البريطاني جنوبا، والنضال ضد الحكم السلال شمال، وما أعقب الثورتين من أحداث، وصولا لميلاد الجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990م.
ذلك النضال أخذ من اليمنيين عقودا طويلة من العمل، وسالت لأجله قوافل من الدماء، وأيا كان سلبياته، فقد كان الأرض التي استوت عليها سفينة اليمن، وتمكن اليمنيون خلال تلك العقود من بناء دولتين شمالا وجنوبا من العدم، ورسخوا فيها القيم الوطنية، وتشاركوا في وضع الشخصية والهوية اليمنية التي انخرطت كعنصر فاعل على مستوى المنطقة والعالم، وصار لليمن دولة، وحضورا، وتأثير وتأثر بمحيطها.
اليوم يتلاشى كل هذا أمام أعيننا كجيل عاش شطرا من حياته في إطار بلده بالشكل الذي كان عليه، ويعيش اليوم شطرا آخر وهو يشاهد بلدا مختلفا بشكل كلي، بل إنه بقايا بلد، وكأن ما عاشه اليمن من قبل قد جرى نسفه، وانتهى، ونحن أمام مرحلة جديدة ووضع مختلف.
هذا الوضع لم يعد له ارتباط بكل ماضيه، وبما تحقق من منجزات سابقة، وبالتضحيات الجمة للرعيل الأول من الحاكمين والشعب، صحيح أن هناك أخطاء في الماضي قادت لهذا الوضع اليوم على المستوى المحلي، ولكن كانت دوافع ومقدرات معالجتها أكثر نجاعة في الإطار المحلي، وليس مثلما يجري اليوم.
فمنذ تدخل السعودية والإمارات في اليمن عسكريا جرى الإجهاز على كلما تحقق من منجزات سياسية وخدمية، وحتى اقتصادية وقيمية وقبلية.
لا يختلف في ذلك الشمال عن الجنوب، فعملية بناء الدولة في اليمن التي استغرقت عقود من النضال الوطني شمالا وجنوبا، طوبة طوبة، ومرحلة بعد أخرى، جرى نسفها من الجذور من قبل الدولتين، ولم يبق لنا اليوم سوى أطلال بلد ودولة، يحتاجان لعقود لإصلاحهما، والعودة لما كانا عليه.
كل المنجزات والمكتسبات الوطنية ذهبت أدراج الرياح، وبتنا أمام دولة صفرية، وعدنا بالفعل إلى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، حيث يعبث استعمار واحتلال خارجي جنوبا، وحكم سلالي طائفي رجعي شمالا، وحضور دولي يتدخل بكل شيء، وتمزق وانهيار النسيج الاجتماعي، وكيانات جغرافية منفصلة عن بعضها، ووضع اقتصادي متدهور وبدائي، وعزلة عن العالم.
لقد حدث هذا في زمن لا زال الكثير منا شاهدا على تفاصيل الأحداث، ويعرف بالضبط من الخصوم والأعداء، ومن الوطنيين والشرفاء الذين اليوم باتوا منبوذين، وليس أولئك الذين كانوا معاول هدم، وأدوات مع العابثين بهذا البلد.
حققت الدولتين ما كانت تحلمان فيه منذ زمن بعيد، فقد كان وجود جمهورية بالقرب من عروشهم أمرا يبعث على القلق، ولذلك ظلت الجمهوريتين ثم الجمهورية الواحدة هدفا لهما، ووضعتا أمام اليمن كل العراقيل والصعوبات التي كانت جزء مما وصل له وضع البلد اليوم.
إن جزء مما يحدث نتحمله نحن كيمنيين، وتحديدا أولئك الذين حكموا اليمن خلال السنوات الأخيرة، بداء من هادي، وصولا لمجلس القيادة الرئاسي، فالنظامان المتعاقبان وضعا كل ثقتهما في التحالف الذي تقوده السعودية، وتعاملوا معها بعقلية التابع، واستفادت الرياض وأبوظبي من هذا الوضع، ومن وجود كتلة سياسية وبشرية في أراضيها لممارسة العبث، وتنفيذ أجندتهم.
اليوم ما الذي تبقى لنا كيمنيين؟ دولة ممزقة، ومليشيا تحكم، وفرضت الحرب أخلاقها الخاصة، وهي أخلاق لا تلتقي مع المنطق، ولا القوانين، ولا الأعراف والتقاليد الشعبية السائدة، فاليمني الذي ظل في الداخل يعاني بؤس الأوضاع بنفس القدر الذي يعانيه اليمني في الخارج من مرارة الغربة والنزوح والتشرد.
بل وشهد المجتمع اليمني العديد من الضربات التي عمقت الشرخ الاجتماعي، وجذرت الأحقاد، وقسمت الناس إلى طوائف ومناطق، وأجزاء مفككة، وصنعت حالة من القطيعة والعداوة والثأر بين أبناء البلد الواحد، وتحتاج لعقود للتخلص منها، وإزالة مسبباتها.
لقد عدنا بالفعل للصفر والمربع الأول، وسحقت التضحيات، ونسفت اللبنات الأولى، وكل يوم يمضي يرتفع الثمن والكلفة، وتزداد الخسارة، وتتعاظم الحسرة على هذا الوضع الذي آل إليه اليمن.
وعند الالتفات نحو بصيص أمل للنجاة من كل هذا، يرتد البصر خائبا وهو حسير، فكل الأحداث التي اعتقدنا أنها تمثل ميلادا جديدا للبلد، تتحول لكوابيس، وتدفع باتجاه الهاوية، وانتهى ذلك الراعي الذي كان يسير من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه.
إن اليقظة اليوم باتت ملحة، لوقف كل المشاريع المشبوهة داخليا وخارجيا، والمتطلعة إلى إعادة اليمن واليمنيين إلى الماضي، أو رسم مستقبل لليمن يتناسب معها، وليس مع مصلحة اليمنيين.
إن ما يجري اليوم عارا، سيلاحق كل صاحب موقف لم يصدع بكلمته، وخزيا سيظل يطارد كل من أوصلنا لهذه المرحلة، ولن يكون الأجنبي أحرص منا على بلدنا ومستقبلنا.