عقب أحداث 11 سبتمبر شنت أمريكا حربا بلا هوادة في كل العالم، تحت شعار من ليس معنا فهو ضدنا، وسنت لذلك القوانين، ومنحت جنودها الصلاحيات لضرب أي هدف يشتبه في تورطه بتلك الأحداث الشنيعة، وفتحت المعتقلات ومراكز الاستجواب في كل العالم.
بعد أعوام قليلة من التوجه الأمريكي، الذي جلب لها ردود فعل واسعة، بدأت واشنطن تراجع سياستها، وأدركت أن جميع المسلمين ليسوا تنظيم القاعدة، ولا يمثلهم هذا التنظيم، ولاحتواء مشاعر الكراهية التي تنامت ضدها حول العالم، خاصة من المسلمين، بعد ما كشف عن عمليات تعذيب وسجون ومعتقلات، مضت واشنطن في توجه تحتوي من خلاله المسلمين، ولذلك انفتحت على الحركات الإسلامية السياسية، وشجعتها واقتربت منها، ودعمت توجهاتها النضالية، وأوصلت رسالة للمسلمين أنها ليست ضدهم، خصوصا بعد تصريح الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش عشية شن الحرب على أفغانستان بأنها حربا صليبية، أي بين الغرب المسيحي، والشرق المسلم.
هذا التوجه الأمريكي وقتذاك أسهم في امتصاص الغضب بين المسلمين والعرب، عما فعلته واشنطن في العراق وأفغانستان، وبلدان مسلمة كثيرة، وخففت من حدة الاحتقان، وسعت لترميم صورتها، وقدمت من جديد وجهها للعالم كبلد ديمقراطي، يضع احتراما للشعوب، ولو في الحد الأدنى.
لذلك شهدنا منذ العام 2005 تقريبا صعود واضح لتيارات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وتشجيعا لها، خاصة أنها كانت مصنفة في خانة الأحزاب المعارضة، وحدث ذلك في اليمن، والأردن، ومصر، وغيرها.
بدورها أرسلت تلك الأحزاب إشارة إيجابية لأمريكا، بأنها ليست كتنظيم القاعدة، وأنه لا خوف يمكن أن يأتي منها، وبالفعل غيرت من خطابها السياسي والعام، وأظهرت سلوكا ليبراليا مرنا ومنفتحا، في محاولة للنجاة من أي عواقب، وتبديد أي مخاوف من الفوبيا الإسلامية.
تجلى هذا الدعم والرعاية الأمريكية، مع أحداث الربيع العربي، عندما انخرطت تلك الأحزاب مع الشارع لإسقاط الأنظمة الحاكمة، ودعمت واشنطن خيار تلك الأحزاب، ومواقفها المؤيدة للشارع المحتقن المتطلع للتغيير، ووجدت تلك الأحزاب نفسها أنها في الواجهة، وظهر أنها البديل المباشر لأي نظام سياسي يسقط، وهنا بدأ الفزع والمؤامرة، ولكن هذا ليس محور الحديث هنا.
المغزى هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية، كانت تُسارع وتحتوي أي مشاعر غاضبة تتنامى ضدها، وتعزز كراهيتها بين الشعوب، ولو كان ذلك صوريا، أو في حده الأدنى، وتمسك العصا من المنتصف، وتستطيع تمضية أهدافها، دون كلفة باهظة ترتد عليها، مستفيدة من تجارب عسكرية سابقة لها في الحضور العسكري المباشر.
لكن ما يحدث الآن بعد في غزة من حرب إسرائيلية على هذه المدينة منذ أشهر، أخرج أمريكا خارج الصورة التي ظلت تحافظ عليها، وتصدرها للعالم، وتحديدا للشعوب المسلمة، وجعلها في مواجهة مباشرة مع جميع المسلمين، الذين أدركوا اليوم أنهم لا يواجهون إسرائيل فقط، بل يواجهون واشنطن بكل مؤسساتها، وأسلحتها، ونفوذها، وأموالها.
الجميع يدرك اليوم أنه لولا الدعم العسكري واللوجيستي الواسع والمنهمر لإسرائيل من الولايات المتحدة لما استطاعت أن ترتكب كل تلك المجازر، وبتلك الصورة الوحشية، وأن واشنطن وحدها هي القادرة على وقف مذابح إسرائيل، ووقف هذه الحرب، بل وردع إسرائيل إن أرادت، لكنها لا تفعل، بل وساندت تل أبيب أمميا ودوليا وعسكريا، وأمام محكمة العدل الدولية، وفي الجنائية الدولية، والأكثر من ذلك أنها تحيد الدول العربية، وتعمل على احتواء أو تهديد أي دولة في العالم تندد بما تفعله إسرائيل.
ندرك أيضا جيدا ماذا يعني بالنسبة لأمريكا وجود إسرائيل في الشرق الأوسط، وماذا يحقق هذا الكيان من مكاسب لواشنطن، ولماذا تحافظ عليه بكل هذه الرعاية والتمويل والدعم والدفاع، ولماذا تجعل مصالحه ومكاسبه فوق كل اعتبار، بل وفوق الجميع.
لكن ما لا تدركه واشنطن أن وقوفها بهذا الشكل الكلي مع إسرائيل هو وصمة عار في جبينها، وحافز كبير لتنامي مشاعر الكراهية لها في أوساط الشعوب العربية والمسلمة، والصورة التي ظلت تحافظ عليها كمصدر للديمقراطية، وحقوق الإنسان طوال العقود الماضية تهشمت اليوم، بل وسقطت، وتكاد تصبح من الماضي.
وكل يوم يمر على ما يجري في فلسطين يرفع من كراهية الشعوب لها، وإضمار العداوة لها، وهذا الوضع يوفر أرضية خصبة، ومادة نظرية مكتملة للتيارات الإرهابية، التي تستغل مشاعر العداء لواشنطن والغرب، لتنشيط بيئة الاستقطاب في أوساط الكثير، وهذا يخلق بؤر إرهابية جديدة، ويضاعف ويوسع الحرب على الإرهاب، ويمثل منحى جديد للصراع.
اليوم نتساءل، لماذا هذا الإصرار الأمريكي على صناعة الكراهية لنفسها؟ ولماذا تدفع باتجاه توسيع دائرة الاحتقان لها؟ وتكثير أعداد الناقمين عليها؟ وهي البلد الذي طالما كان ملهما للشعوب والأفراد على حد سواء.
ففي السابق كانت المقارنة بين أمريكا كدولة مهيمنة في العالم، وقوى دولية أخرى، تميل لمصلحة واشنطن، إذ أنها أقل دموية مقارنة بدول أخرى، وأكثر انفتاحا، لكن ما يجري اليوم ينقض تلك الصورة كليا، ويظهر وجها آخر لواشنطن، يسيء لها أكثر مما يخدمها.
لذلك يبدو من المهم أن تسعى واشنطن لتدارك ما يجري، والتوقف عن المغامرة التي تجرها إليها إسرائيل، فالمفاهيم والترويج الإعلامي الذي ظلت واشنطن نفسها تروج لها تتعرض اليوم للنسف، والسردية التي عملت إسرائيل على تعزيزها لعقود في الذهنية الغربية عن فلسطين والعرب والمسلمين تتلاشى اليوم أيضا، وفي انتفاضات الطلاب والشارع في أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا دليل كافي على كل هذا.
إن العرب والمسلمون معتادون على مثل هذه الحرب، والمؤامرات، منذ عقود، وهم يدركون حقا أنهم الأضعف في الوقت الراهن، وأن أسباب نكستهم بدأت منذ أكثر من قرن، وأن جزء كبير من وضعهم الواهن اليوم يعود للتدخل الخارجي المستمر في شؤونهم ومنطقتهم، لكنهم في المقابل يؤمنون يقينا أن هذا الوضع سيتغير حتما.