رغم كونها خليقة ثورة سبتمبر المجيدة، لم تول الأحزاب السياسية اليمنية الفكر الجمهوري أهمية قدر عنايتها بنظرياتها وبرامجها وأهدافها السياسية الخاصة.
ففي حين كان المؤتمر، وهو الحزب الأكثر انتهازية في البلد، وصاحب أطول تجربة حكم في النظام الجمهوري؛ منهمكا طيلة ثلاثة عقود بتنمية الفساد داخل السلطة، كان الإصلاح وهو أكبر حزب معارض حينذاك غارقا في طوباويات نظرية الخلافة وأوهام أستاذية العالم. أما اليسار، وهو مجموعة أحزاب متهالكة، فكان منهمكا بتداعيه الذاتي وانحسار سطوته في المجتمع والسياسة، في حين كانت الإمامة تعمل بالخفاء بصمت وإصرار كبيرين.
بهذا المشهد يمكن تلخيص التجربة الحزبية في اليمن على قدر ما يتضمنه من مرارة وطرافة، وإلا ما تفسير ذلك الاجتثاث العارم الذي منيت به السياسة والأحزاب، الوطن والإنسان والحياة، على يد مليشيا لم يكن الإجهاز على كل ذلك في ليلة وضحاها ليخطر لها على بال؟
إن أكثر من جنى على الجمهورية وساهم في سقوطها بيد الإمامييّن الجدد هي الأحزاب والقوى السياسية التي مارست كل أنواع الخيانة والخذلان. من لم يتّبع الخيانة الصريحة منها مارس الجُبن والخذلان ولم يكن عند مستوى التحدي التاريخي الذي تعرضت له الجمهورية خلال اجتياح الحوثيين لصنعاء. قبل ذلك لم تفلح تلك الأحزاب في بناء أي حصانة وطنية لا في السياسة ولا في المجتمع ضد المد الإمامي الذي عمد للتسلل باكرا إلى المنظومة الجمهورية ذاتها.
كانت الساحة إذا فارغة من القوى الوطنية المسؤولة ومُفرغة من مضامين الثورة والجمهورية، وفي ظل هكذا فراغ فإن عودة الإمامة كانت حدثا طبيعيا. فحين تنسحب الفكرة الجيدة من ساحة ما أو يتكاسل أنصارها أو يفقدون الانجذاب إليها، تسارع الأفكار الزائفة إلى احتلال مكانها، وهذا تحديدا ما حدث في اليمن وبلغ ذروته بسقوط صنعاء في العام 2014. لقد وهنَت الجمهورية وفقدت رمزيتها وضعف أتباعها وفرغت الساحة منها فعادت الإمامة الفجة مرة أخرى.
إن الصراعات السياسية والحزبية التي وسمت اليمن خلال المرحلة الجمهورية أنهكت البلد وأرهقت الحياة وزعزعت فكرة الجمهورية في فضاءات السياسة والثقافة والمجتمع، مضعفة الوعي الجمعي بها. ولم تكن الجمهورية كمشروع ضمن الاشتغالات الحزبية والسياسية خلال تلك الفترة، الأمر الذي خلق حالة من الفراغ في الساحة الوطنية، سارعت الإمامة إلى احتلاله مستغلة التداعي والغفلة داخل الصف الجمهوري، وكان نتيجة كل ذلك ما نراه اليوم من خراب في البلد.
هكذا تخلت الأحزاب اليمنية، وهي وليدة ثورة سبتمبر، عن الجمهورية في أول طلقة وذهب قادتها ليستريحون في فنادق الرياض والقاهرة واسطنبول. وأولت أحزابهم ظهرها للشعب الذي طالما وثق بها حين حدث يوما أن هتفت خداعا لهمومه وآلامه.
كان على الأحزاب أن تعي جيدا متى يجب أن تلتزم النهج المدني ومتى يجب أن تتسلح لمجابهة الأخطار المُحيقة بعد سقوط عمران وتفكك منظومة الجيش لم يكن هناك أي معنى للهوية المدنية للأحزاب. عوض التخاذل كان يجب أن تحمل السلاح وتقود المجتمع الذي كان مستعدا لحراسة جمهوريته وصد قوى الإمامة.
كان الإصلاح وحده قادرا على قيادة التصدي، لتماسكه وحظوته الجماهيرية وامتلاكه للمقومات اللازمة ليغدو قوة ردع ضد الحوثيين. كان مؤهلا دونا عن باقي الأحزاب التي كانت إما فاقدة للتأثير أو مصطفة إلى جانب الحوثيين أنفسهم كحزب المؤتمر. لكن الذي تبيّن قُبيل اجتياح الحوثيين صنعاء هو أن الإصلاح كان أجبن من أن يواجه، فقد تخلى عن فكرة المقاومة ما إن وجد نفسه أمام الحوثيين مباشرة، وكان ذلك خطأ تاريخيا يرتقي لمستوى خيانة عظمى.
إن الإصلاح هو المسؤول الأول عن سقوط الجمهورية بيد الحوثيين، يمكن قول هذا بكل ثقة ودون أن يكون في الأمر أي مجازفة، ذلك أن الحزب ببساطة تخلى وكان قادرا على المواجهة. قبل ذلك، وعقب ثورة فبراير، كان الحزب قد وضع نفسه في موضع مسؤولية وطنية لم يكن مؤهلا لها. ونحن حينما نقول أنه المسؤول الأول عن سقوط البلد، فذلك لأنا كنا نعوّل عليه لتحمل المسؤولية الوطنية دونا عن الآخرين، أما القوى الأخرى فكانت إما خائنة كالمؤتمر الشعبي أو بلا حظوة وتأثير كأحزاب اليسار.
يزعم الحزب أن تخاذله أمام الحوثيين في صنعاء كان دهاء بتجنب مواجهة كانت لتكون كارثية وعالية الكلفة حينذاك، لكن الواقع أنه لم يكن عند مستوى التحدي التاريخي الذي واجهته الجمهورية. قال قادته "نحن مجرد حزب سياسي ولسنا الدولة" وكان خطأهم الكارثي قد حدث قبل ذلك بنحو عامين من الانقلاب، متمثلا بإيقاع الحزب في مأزق سياسي حينما قبلوا لحزبهم ضمن تسوية مجحفة آلت إليها ثورة 11 فبراير، بوضع ضعيف داخل حكومة متداعية نصف رجالها كانوا متآمرين وخونة.
مشكلة الحزب حاليا أنه لا يعترف بخطأة في التنازل للحوثيين والتخلي عن عاصمة الجمهورية، وهو يبرر تخاذله في كل مرة بكونه دهاء وبرجماتية حكيمة، والواقع أنها براجماتية رعناء مدفوعة بالغباء والحماقة وانعدام المسؤولية أكثر من الذكاء السياسي الذي يدّعيه.
في 2014 كان الشعب مستعدا للدفاع عن الجمهورية، لكنه كان بلا قادة يثق بهم، ولم يستغل الإصلاح تلك الفرصة لإنجاز بطولة تاريخية، وفضّل عوض ذلك الجُبن على كلفة الشجاعة، رغم أنه كان يمتلك مساحة معقولة للمناورة كان يمكن استخدامها في تجنيب البلد الكارثة التي محقت به. ثم إن التحدي التي واجهته الجمهورية حينذاك كان يحتم عليه اتخاذ خطوات شُجاعة بأكثر مما تقتضيه لعبة السياسة.
الحقيقة، أن كبح جماح الحوثيين في 2014 كان ممكنا بكلفة أقل من التي تدفعها البد حاليا. وأسوأ ما كان قد يحدث بمواجهة الحوثيين في صنعاء لن يكون بمستوى فداحة وسوء ما نعيشه اليوم.
يقول علي عزت بيجوفيتش: "لا يوجد في مزبلة التاريخ أبرياء. لأنك عندما تكون ضعيفا أو مترددا في اللحظات التاريخية الكبرى، فهذه خطيئة من وجهة نظر التاريخ". تنطبق هذه المقولة على حزب الإصلاح الذي يُعدّ أول الجناة على الجمهورية مهما ادعى البراءة، لأن تردده وتخاذله أمام الحوثيين في العام 2014 يرتقي لمستوى خيانة عظمى. وفي الوقت الذي كان الحوثيون والمؤتمر الشعبي والمجلس الانتقالي يخونون بشكل صريح ويقتلون الشعب ببطشهم وجبروتهم، كان الإصلاح يفعل كل ذلك بضعفه وجبنه وتردده.