العقيدة المسيحية ديانة سماوية نسبة إلى المسيح ، كانت من الألقاب المعظمة عند بني إسرائيل يطلقونها على أي نبي أو عالم أو نبي، وقد ألبس معاني عديدة إلى أن أفرغ من دلالاته الحقيقية.
الأصل في الديانة المسيحية عقيدة ربانية ورسالة جاءت عبر المسيح إبن مريم عليه السلام وقد تم تشويهها والعبث بها من طرف الأساقفة وباباوات روما القديمة وبين الأباطرة الذين ربطوا بين تطلعاتهم التوسعية في مملكتهم وبين الدين المسيحي الشيء الذي نتج عنه ديانة مشوهة المعالم والعقيدة.
وقد عرفت النهضة والأوروبية بثورتها التاريخية ضد الديانة في وقساوستها كون الشعوب ضاقت ذرعا بطقوس الكنيسة وقوانينها من بينها " صكوك الغفران "، وقد نتج عن هذا التدمر الشعار الذي عرف ب اقتلوا آخر إمبراطور بامعاء آخر قسيس.
لم يكن من السهل على على المؤرخ أو القارئ أن يستوعب السهولة التي تبنت بها الإمبراطورية الرومانية الديانة المسيحية، وجعلتها دينا رسميا للبلاد.
إن مثار التعجب يكمن أولا في شخصية الإمبراطور قسطنطين، وتقبله هذا الدين الذي الذي جاء بشريعة التوحيد، والذي يبقى من بين شروطه الأساسية الإيمان المطلق وعدم الإشراك به، لسيما أن التاريخ يشهد لقسطنطين أن عقيدته الملونة لن تسعفه لأن يتقبل دينا كهذا يرفض الشرك والوثنية.
بالرغم من احتضان الدولة الرومانية للديانة المسيحية وجعلتها الدين الرسمي للدولة، لم تسلم من التشوه العقدي بل على العكس من ذلك، فقد نص مرسوم ميلانو 313 م على مجموعة من المبادئ الأساسية، وحوار الثوابت التي نادى بها عيسى عليه السلام، ودعم مبدأ التثليت. وسرعان ما أصبحت الكنيسة مصدر غليان ديني ومذهبي، وأصبح الجدل قائما حول الفكر اللاهوتي أي العلاقة بين الإله الأب و الإله الإبن، ولفظة هوميروس التي تعني من نفس الجوهر، وذلك على امتداد خمسة عشر قرنا وإلى يومنا هذا.
بالإضافة إلي هذا الدين كان حدثا قويا قلب وجه التاريخ الروماني ونقله من فترة كلاسيكية غارقة في الوثنية، إلى عهد دين جديد مجرد عن العبادات المادية.
" النقيض المنفر في عقيدة " قسطنطين
لم يكن شك بعض المؤرخين على وثنية قسطنطين اعتباطا، ذلك أن طريقة قناعته الإيمانية بالمسيحية والكيفية التي كان يمارس بها عبادته الروحية من خلال ممارسته للطقوس الوثنية، وتغليبه على دين النصرانية؛ وفي هذا الباب يتساءل" وولديورانت " في مؤلفه المشهور " قصة الحضارة " (1) هل كان قسطنطين حين اعتنق المسيحية مخلصا، أم كان هذا العمل عن عقيدة دينية أم كان هذا العمل خطة بارعة أملتها الظروف السياسية، فقد كانت المسيحية عنده غاية ووسيلة، حيث كان يأمل أن يكون ملكا مطلق السلطان، وبدا له أن النظام الكهنوتي وسلطان الكنيسة هو الذي يؤسس له النظام الروحي، ليناسب نظام الحكم، وتسترسل المصادر التاريخية في تأكيد وثنية قسطنطين، على أن اعترافه بالمسيحية كان محاولة منه للإمساك بالعصا من وسطها لتحقيق نوع من التوازن، بدليل احتفاظه بالعبادة الوثنية القديمة برجالها ومعابدها وطقوسها. وكأسلافه فإنه احتفظ بلقب الكاهن الأعظم، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل انه لم يتخل عن عبادة الشمس. وظل محتفظا برموز هذا الإله على العملات النقدية جنبا إلى جنب مع شعار المسيحية، فجمع بين النقيظين، ويتحدث " فيشر عن مؤلف حياة قسطنطين مقارنة مع هذا الدين، انه ليس في استطاعة أي باحث أن يجرأ على التأكيد أن الإمبراطور القادر كان على الدين المسيحي، لأنه لم يكن من المستطاع اتهامه بإلقاء الأسرى للوحوش الضارية لتسلية النضارة. فمن المؤكد أنه قام بقتل زوجته وابنه، لكن جرائم القتل لا تلبث أن تصير نسيا منسيا في عصر يطفح بالحوادث المتعلقة بالحرب والعنف، حيث سرعان ما اختفت نقائص قسطنطين تحت ستار الأعمال المجيدة التي جعلته الحواري الثالث عشر في عدد الحواريين( 2).
لقد غاص كل من( وول ديورانت " و" فيشر عميقا في نفسية قسطنطين حينما ذكر هذا الأخير أنه لم يغب عن بصيرة إمبراطور حصيف مثل قسطنطين أن إتخاذه الأولياء من فئة قليلة من الناس يحدوها النظام ويهديها الإيمان الراسخ ، وتسندها كتب مقدسة وعقيدة واضحة أجدى عليه من فئة كبيرة ذات عقائد شتى.
أما " ديورانت فقال:" حقا أن أتباع هذا الدين كانوا لايزالون قلة في الدولة، ولكنهم كانوا بالقياس إلى غيرهم فئة متحدة مستبسلة، في حين كانت الأغلبية الوثنية منقسمة إلى عدة شيع دينية. وكان من بينها اعداد كبيرة لا نفوذ لها في الدولة ولا عقيدة ".( 3 )
* بداية البابوية القيصرية في تاريخ الكنيسة
انطلقت مؤشرات البابوية القيصرية عندما تبنى قسطنطين روما الديانة النصرانية:" فرغم ان الدولة الإمبراطورية كانت مؤسسسة دنيوية، فقد كانت مقدسة يحكمها الإمبراطور، نائب المسيح في الدنيا، هذه السياسة التي اتبعها قسطنطين تجاه المسيحية، مهدت بشكل واسع لتدخل الأباطرة في في شؤون الكنيسة، أو ما يسمى ب ( البابوية القيصرية ).
ولتحديد الصيغة الرسمية الدينية للدولة، جعل الدين رمز الدولة السياسية، فقام مؤرخ الكنيسة ( يوسبيوس " بارساء القاعدة النظرية للدولة الجديدة، فاستنبط تعريفا جديدا لطبيعة الحاكم المسيحي وذلك بتقديم الإمبراطور المسيحي باعتباره نائبا لله في الأرض(4).
تجدر الإشارة هنا إلى أن إدخال عادة الهبات والعطايا تسربت إلى الكنيسة على يد الملك قسطنطين، حينما اصدر المراسيم لإعفاء الكنيسة من الضرائب، في نفس الوقت جعل من الجماعات المسيحية شخصيات معنوية، وأجاز لها قبول الهبات(5).
كان الهاجس الذي يشغل الملك قسطنطين هو توطيد أركان مملكته العريضة، والحرص على شروط الأمان داخلها لضمان حكمه، وبقاءه كأمبراطور قوي لا ينافسه أحد. ولكي تتوفر لقسطنطين جميع هذه الشروط ، كان لابد أن يتجنب فتيل النزاع، إن على المستوى السياسي أو الروحي. وقد حاول قسطنطين إخماد فتنة عشر سنوات من الحرب مع " الدوناتين" وهي حركة أنفصالية- أتباع دوناس( 6) وفي هذا يقول نورمان " إن التخوف الذي كان يؤرق بال قسطنطين، أقوى من آريوس ذلك أن " دونانس قسم إفريقيا وحدها، بينما قسم آريوس الإمبراطورية كلها.
لم يكن يهم قسطنطين الخلاف في شيء، قدر ما يعنيه هدوء الإمبراطورية تحت سلطانه ، وهو في هذا لم يقدر خطورة الخطاب الذي أرسله إلى الرجلين ، إذ يكشف عن مدى بعده عن مسائل اللاهوت ، وكان كله تقريعا للرجلين بسبب السماح لنفسيهما بفتح باب المناقشة في هذا الموضوع الذي لآ طائل من ورائه. (7)
لتفادي توسيع رقعة الجدل ، سارع قسطنطين لعقد أول مجمع كنسي عقد في تاريخ الإمبراطورية والكنيسة، وهو مجمع " نيقية" سنة 325.
"الأبعاد العقدية الدينية إثر مجمع " نيقية "على الديانة المسيحية "
في هذا المجمع نوقش القانون الذي من خلاله ستحدد مبادئ العقيدة المسيحية، والذي سيسري كقاعدة فيما بعد.
عقد هذا اللقاء التاريخي الذي عرف بإسم (قانون ) الإيمان النيقاوي) نسبة إلى " نيقية " الذي سيغير مجرى تاريخ هذه الديانة ويخلخل أصولها، وقد حضر هذا المجمع عدد كبير من الأساقفة ورجال الدين . وقد اختلف عن عددهم ما بين 250 و270.
يصف المؤرخ يوسبيوس هذا المجلس التاريخي فيقول: " كان اليوم 20 ماي من عام 325م في القاعة الكبرى للقصر، جلس الاساقفة عن اليمين واليسار ، ودخل الإمبراطور مصحوبا بمجموعة من الظباط ، كان يرتدي عباءة أرجوانية فاخرة مرصعة بالذهب والجواهر، متألقا براقا كأحد ملائكة الله في السماء.
عندما سمع الإمبراطور إلى مناقشة المخاصمين، وقرأ رسائلهم التي توضح جوانب العقيدة لديهم، حرق كل هذه الخطب أمام الحاضرين، فاحتدم النقاش وزاد في أنقسام الحاضرين إلى فرق ومجموعات بين آريوس وأتباعه، والأسكندر ومناصريه . أما جانب الوسط فقد تزعمه المؤرخ والأسقف(يوسبيوس القيصري ) الذي أفضى به الأمر إلى إيجاد صيغة توفيقية بين هذه الأطراف ، حددها في قانون جديد بإسم ( قانون إيمان يوسبيوس).
هذا القانون الذي حاول فيه يوسبيوس مجتهدا - صيغة توفيقية تحد من النزاعات. وبالرغم من المحاولة التوفيقية التي من أجلها وضع هذا القانون ، فإنه قد تم المساس بثوابت هذه العقيدة بزرع بذور الشك ، وتلك كانت البداية. فجاء نص القانون كالتالي:" نؤمن بأنه واحد ، الأب القادر على كل شيء ، ضابط الكل ، خالق الأشياء ما يرى وما لايرى ، وبرب واحد يسوع المسيح ، كلمة الله إله من إله ، نور من نور، حياة من حياة، الإبن الوحيد المولود بكر كل خليقة مولود من الله الأب...(8)
هذه الصيغة الجديدة التي عرفت(بايمان يوسبيوس) لم ترض الأطراف المعارضة للأريوسية ، مما دفع بالامبراطور إلى إضافة عبارة جديدة إليه ، التي كان اثرها كبيرا فيما بعد ، وهي لفظة: "هو مسيوس أي من نفس الجوهر أو الطبيعة" (9) .وهكذا بعد الإضافة ، جاء ( قانون الإيمان ) في حلة جديدة، ليؤكد ضرورة الإيمان بأن يسوع المسيح إبن الله المولود من الأب، إله من إله ، مولود غير مخلوق ومن ذات الجوهر مثل الأب(10). وهو على ذلك ليس مخلوقا على عكس ما قال آريوس بأن القديم هو الله والمسيح مخلوقه، وفي نفس المصدر يقول أنه قد جاء في نهاية هذا القانون أن أولئك الذين يقولون إن المسيح في وقت من الأوقات لم يكن موجودا، وإنه جاء إلى الوجود من العدم.
أما الذين يتمسكون بأنه إبن الله من جوهر آخر ، وأنه مخلوق أو أنه قابل للتغيير...أولئك تعلن الكنيسة المقدسة الجامعة الرسولية ملعونون مجرمون . وقد حاول يوسبيوس في آخر المطاف أن يوضح أن هذه الصيغة الجديدة لقانون الإيمان تبين أن المسيح من جوهر أعلى من كل الخلائق، ولكنه ليس بشيء مخلوق؛ إذ يقول في رسالته :" إن الكتاب المقدس يعلم بأن المسيح مولود من الأب بطريقة يصعب إدراكها ، ولا يمكن التعبيرعنها من قبل البشر ، وبذلك فإن قبول عبارة من( نفس الجوهر ) مع الأب كما يرى لا يعني اتصال الجسد أو مشابهته بالكائنات الفانية ، وهو لا يعني انقسامه في الجوهر ، أنبثاقا أو تحولا... ويقول المؤرخ الكنسي سقراط معلقا :" إن ما حدث يشبه معركة في الظلام، لا أحد يعرف هل أصاب عدوا أم صديقا، بل إنه حتى المجموعة التي شكلت العدد الأكبر في المجمع بزعامة يوسبيوس القيصري ، لم تشعر بالارتياح تجاه إقرار هذا القانون ، وإن يوسبيوس كان واضحا في رسالته أي أنه كان يعتذر لرعيته عن الأسباب التي دفعته إلى قبول ذلك إيثار للسلام ، وخشيته الانحراف عن الدين القويم.
بالرغم من إنعقاد هذه المجامع ، وصدور قرارات فإن الخلاف ظل قائما ، وإن من الواضح أن النجاح المزعوم الذي تحقق في هذا المجمع ، صاحبَه المزيد من الانقسام والتوتر داخل الكنيسة وفي الامبراطورية عامة، وتقول د سالمة عبد الجبار في ملخص كتابها الدين والسياسة: إن السؤال الذي الذي يبرز الآن هو : هل كان من الضروري أن تناضل الكنيسة بهذه الضراوة حول حرفين في كلمة " ومع ذلك يجب ألا نغفل أن الموضوع محل نقاش لم يكن هامشيا ، بل كان قضية لاهوتية بامتياز ، كان لها تاثيرها الخطير على مستقبل الكنيسة فيما بعد ، فلو أن الأريوسية كسبت المعركة يومذاك ، لصارت المسيحية شيئا مختلفا عما هي عليه اليوم. وبذلك فرضت عقيدة نيقية في هذا المجمع فرضا بقوة السلطان . رغم مخالفتها لما كان يؤمن به الكثيرون من الأساقفة وعامة الشعب في كنائس مصر وليبيا والمدن الخمس ، كما جاء في خطاب يوسبيوس وكذلك أتباع آريوس من المثقفين في الأسكندرية وأسيوط و الشرق عموما.
وللقضاء على دابر الأريوسية وأتباعها ، فإن الإمبراطور توعدهم في حالة ما تم العثور على اية رسالة كاتبها آريوس ، فليكن مصيرها النار وإذا قبض على أي شخص يخفي كتابه ولا يظهره ويحرقه على الفور فعقابه الموت . (11)
وفي الأخير لا بد من إضافة تعليق بالغ الأهمية ليوسبيوس بان الإمبراطور حاول مرارا شرح هذه الإضافة ( الجوهر هو مسيوس ) وراح يحث الجموع من الأساقفة على الإيمان بها بوسائل عديدة ، وهو لم يجد صعوبة في ذلك لأن معظم الحاضرين كانوا أعداء لأريوس ، وعلى قدر من البساطة لا يؤهلهم لمعرفة الأمور اللاهوتية العميقة.
من خلال هذه الأحداث تبين كيف أن حركة آريوس إستطاعت خلخلة النظام الكنائسي ، وزعزعت أمن الإمبراطور قسطنطين الذي كان همه الأول والأخير الحفاظ على عرش مملكته ، حتى وإن كان على حساب العقيدة . وقد برز سلطان قسطنطين من خلال مجمع نيقية، بتحويل مسار المسيحية وتنظيمها الديني بين قبضتيه ، مرتبطين أساسا بالنظام السياسي وسلطته ، وبالرغم من محاولته طمس عقيدة آريوس فقد ظلت حركته يقظة في مجموع الأمصار ولسيما الشرقية منها. وانضمت إليها حركات انفصالية أخرى " كالدوناتية" والميلتية ، وبالبرغم أن هذه الاخيرة لم تكن على وئام فقد جمعهما شيء واحد ، ألا وهو معارضة السلطان.
.
الهوامش:
1_قصة الحضارة وول ديورانت. م. 3 _ص 388
2_ فيشر في تعليقه على مؤلف: حياة قسطنطين لهوسبيوس
تاريخ أوروبا الوسطى. ج 1 ص7
3- عبد الحميد رأفت الدولة والكنيسة. القاهرة د ار المعارف. 1982ص 95.
4- حياة قسطنطين يوسبيوس. ص 58
5- نورمان. " رسالة حول الدوناتية".ص185
6- "حياة قسطنطين ليوسبيوس .ص322
7- نفس المصدر.
8- نص القانون يوسبيوس عن مؤرخي الكنيسة " Sozomen,Thedorat.
9-ص- Norton. Coleman . 183.
10- نفس المصدر.