لم تكن عدن خيارا مناسبا لاتخاذها عاصمة مؤقتة لليمن، واليوم الشرعية تدفع ثمنا لارتكابها هذا الخطأ الجسيم، كل الأنظار كانت مركزة على عدن أيام التحرير وما قبلها أيضا، وانسحاب قوات الحرس الطائفي وترك مواقعهم في عدن شكل علامات استفهام كبيرة مازالت محل جدل إلى الآن، هل انسحبت تلك القوات بالتنسيق مع التحالف أم مع فصيل من فصائل التحالف وحده؟ العلاقات بين الإمارات وأحمد علي صالح كانت ومازالت أيضا مثارا للشك.
كانت الأخبار ترد أن السفير الذي أرسله هادي إلى الإمارات للتخلص منه عند هيكلة الجيش قد ذهب إلى حيث وجد الناصر والمعين، البلد التي شاركت في التخطيط للانقلاب قبل وقوعه ترحب بقائد الجيش الخائن على أراضيها بصفة رسمية، إنه سفير هادي والذي سيحرك جيشه للانقلاب عليه لاحقا.
بعد خوض المقاومة الشعبية في عدن للمعارك التي لم يتوقعها الحرس والحوثيين الذين رتبوا أمورهم جيدا قبل اقتحام عدن مع فصائل الحراك الإيراني اليساري، كانت المشكلة التي واجهتهم هي بروز قيادة جديدة تخوض المعركة باسم الشرعية التي خذلها الجميع، وحين غادر الرئيس هادي عدن لم يكن يدرك أن شباب المدينة الساحلية سيخوضون حربا نيابة عن الوطن بكل ما أوتوا من قوة، كان وكيل المحافظة نايف البكري هو القائد الفعلي للمقاومة بلا منافس.
خرجت مساجد عدن للدفاع عنها بعد أن فرت فصائل الحراك المختلفة يسارية وإيرانية وبقايا مرتزقة الإنجليز الذين يمثلون الحرس القديم "للجنوب العربي" بحسب خرائط الاستعمار الجغرافية والسياسية، لم يدركوا جميعا أن الوضع قد تغير في عدن، روح اليمن كانت قد استوطنت المدينة المظلومة من كل الفصائل والاتجاهات، المقاومة التي ما ضلت طريقها كانت تحقق انتصارات من التواهي إلى البريقة، ومن المنصورة إلى الشيخ، الإيمان بالله والوطن هما المحركان الأساسيان للمقاومين الجدد الذين هبوا لإنقاذ عدن بعد ان خذلها الجميع.
ترك الشباب حلقاتهم الإيمانية بعد الصلوات في مساجد المدينة التي ظلت ثلاثة عقود مشوهة الصورة لارتباط الحركة السياسية فيها بالشيوعية المعادية للدين عموما وللإسلام على وجه الخصوص، وخرجوا لمواجهة المد الإيراني في مدينة التاريخ العربي الإسلامي العريقة، كيف تحول الشباب الملتحي الطيب الذي تفوح منهم رائحة العود والعنبر إلى مقاتلين شرسين يواجهون المليشيات المدربة في جنوب لبنان، وقوات الحرس المدربة في الأردن على أيدي أمريكية، الإيمان بالله والضمير الحي والحق في الحياة هي أبرز الدوافع التي جمعت وكيل محافظة عدن البكري وثلة من خيار شباب عدن المحبين للوطن لمواجهة موجة الغزو البربري.
عندما اتسعت دائرة المقاومة وأوشكت الإمدادات على الانقطاع عن الانقلابيين وصلت مدرعات الإمارات وانسحب الحرس وتم التضحية بأطفال الصرخة، فلم يكن الوقت كافيا لسحبهم من الشوارع والحارات التي نزلوا من هضبة الجن لتأمينها من الدواعش بحسب التعبئة الحوثية لأذهانهم. وقعوا أسرى وقتلى وانقطعت الإمدادات.
لم تكتمل بنود اللعبة بعد: والقوات التي نزلت إلى سواحل عدن باسم أبو ظبي لديها عقدة من الإصلاح فمشروعها واضح، كما أن قائد المعركة الحقيقي لابد من ترقيته ولابد من مكافأته ليتم تعيينه محافظا للمحافظة، المشكلة تكمن أن هذا المحافظ ينتمي للتجمع اليمني للإصلاح، ليس هو فقط بل معظم أفراد المقاومة والبقية ينتمون للحركة السلفية التي لا تعادي حزب الإصلاح، لابد من حل لهذه إشكالية والتوفيق بين قوات الإمارات وبين المقاومة الباسلة صاحبة النصر الحقيقي في عدن، والحل يكمن في استقالة نايف البكري من الحزب الذي ينتمي إليه، فكانت الاستقالة، وتم تعيينه محافظا للمدينة التي سجلت أروع انتصار لولا تدخل قوات الإمارات التي جاءت ولديها مشروعا أخر لا علاقة له بعدن وأهلها.
لم يستمر البكري طويلا فقد اقيل في ظروف غامضة، وتحملها الناس لأجل مواصلة تحرير الوطن من أيدي الانقلابيين، لكن الأمور زادت في التعقيد، عندما تم قتل المحافظ اللواء جعفر صالح الذي تولى بعد نايف، اغتالوه كما فعلوا مع قيادات المقاومة الميدانية التي بدت متمسكة بالوطن وبالدولة الاتحادية، قتل الشيخ العدني والشيخ راوي العريقي وعشرات الشباب من المقاومة واغتيل بن حليس اليافعي وامتلأت السجون بالمعتقلين في عهد تولي حراك إيران لإدارة المحافظة، لص أبقار جيء به من الضالع لتولي إدارة الأمن في عدن وحراكي يساري دربته إيران على استخدام السلاح في بيروت في 2012 عين بمساندة الإمارات محافظا لعدن.
الصورة القاتمة في عدن، فكل الاحداث التي فيها لا تؤهلها لأن تكون عاصمة، تخويف الحكومة التي عادت إلى عدن مع رئيس الوزراء المقال بحاح، وحوادث أخرى في مضايقة رئيس الوزراء بن دغر ومضايقة الرئيس هادي نفسه في عدن ووصول الأمر بالقوات الإمارتية منع طائرته من الهبوط في مطار عدن.
عدن صارت ضحية موقعها وضحية بسبب تشتت أفكار الناس فيها هناك من يريد التخلص من وحدة 90 وهناك من لديه وجع من أحداث 86 وهناك من يريد الوصول إلى الحكم، وهناك تم تدريب مجموعات إرهابية سرعان ما تحولت إلى حزام أمني كانت أولى مهماه القذرة طرد عمال تعز من عدن.
أصيب الجميع بالذهول من هول ما يحدث، لكن السر كان يكمن في إمارات الخير، الراعي الأول للإرهابي الجديد هاني بن بريك، الذي أقسم اليمين كوزير دولة وهو يرتدي ثوبا إمارتيا باهتا كل من يتذكر صورته يمتعض، ما لذي يدعو هذا منتفخ الشفاه فاهي الفم الملتحي لارتداء هذا القميص؟
في عام 1996 كانت الإمارات تعترف بنظام طالبان وساعدت في بروز ظاهرة إسلامية غريبة المنشأ غامضة الأهداف تم استخدامها حتى أحداث 11 سبتمبر 2001 كفزاعة جديدة باسم الإسلام السني، وبعد 11 سبتمبر انتهت اللعبة الاستخباراتية وكشف المستور وانتهى الاعتراف الثلاثي بطالبان، وبنفس هذه العقلية دعمت الإمارات طالبان الجديدة في عدن قوات الحزام الأمني وبجواره عيدروس، ولأن اللعبة استخباراتية باهتة فقد جمعت بين السلفي والإيراني، واللذان أصبحا مؤخرا رئيسا ونائبا للرئيس في المجلس الجنوبي الجديد.
تخوض الإمارات حربا جديدة في الجنوب ضد الشرعية، وضد المملكة العربية السعودية، وتستعين بالمنتفعين وبالمنفعلين هنا وهناك، من المطالبين بالانفصال ومن الموتورين تلقائيا ويبحثون عن أعداء، لدرجة أن أجهزتها صنعت طريقا للملحدين الجدد، وصنعت بالمقابل قتلة مؤمنين لقتل الملحدين في عدن، وتحملي يا عدن كل هذا الجنون، المدينة التي أئتمت بشيخ الإسلام البيحاني صارت مجنونة بلا هوادة، والقرويين حاملي الشعارات يؤججون المعركة عدوهم الرئيس هادي والشرعية و"حزب الأوساخ" كما يفضلون تسميته، وحزب الإصلاح الذي يراه العلمانيين الجدد في عدن أنه حزب شمالي هو فعليا نتاج الحركة الإسلامية التي نشأت في الأربعينات في عدن منذ عهد البيحاني وعمر طرموم وعشال وامتدت نحو تعز والشمال، فعليا عدن أم الإصلاح قبل أن يولد فيها الخدج اليساري الذي تحول من حضن الروس إلى حضن إيران الشيعية والسعودية السنية والإمارات الرأسمالية وبريطانيا المحتلة، في خلطة لا علاقة لها بالسياسية من قريب او بعيد.
اليوم عدن مدينة مفخخة وقابلة للاشتعال مالم يتداركها العقلاء، وهي قطعا لا تصلح عاصمة مؤقتة للشرعية في ظل ظروف الحرب التي تمر بها البلاد، فقربها من القرويين الموتورين وكثرة التقاطعات الدولية فيها، وكثرة التيارات الوهمية ومؤخرا تغلغل أجهزة استخبارات الإمارات فيها، وانقاذها يكمن في إبعاد العوامل السياسية عنها، وسحب تسميتها عاصمة مؤقتة، وتكريس العمل الخدمي لأجل المحافظة على سكانها، وبث روح السلام فيها بعيدا عن توترات السياسة.
قبل نهاية 2014 كتبت تغريده لا تسمن ولا تغني من جوع دعوت الرئيس هادي إلى الانتقال إلى تعز لتكون حاضنة للشرعية، وكررت النداء في 2015 وها أنا اكرره اليوم وادعوه بصفته قائدا للشرعية ورئيسا للبلاد أن يسمي تعز عاصمة مؤقتة وأن يدعم عملية تحريرها وأن يتم انتقال الحكومة إليها، وكذلك عودته ونائبه للاستقرار بين جماهير الوطن في تعز، بعيدا عن العواطف فتعز هي اليمن لا ينكر ذلك إلا منفعل لم يقرأ تاريخ الحركة الوطنية، ومنها تحركت القوى الوطنية واطاحت بالاستعمار وفيها اطيح "بالرجعية الشريفة" واليوم تعز تخوض حربا لأجل الوطن وتحتاج وجودكم فيها أكثر من أي وقت مضى، أعلم مسبقا أن هذا الطرح لن يلامس أذن هادي ولا نائبه ولا الحكومة، ولكني اسجله هنا في دفتر التاريخ الذي يسجل كل صغيرة وكبيرة.
إن حركة مميزة كهذه ستغير المعادلات المحلية والإقليمية والدولية، عندما تدرك القيادة معنى وجود جماهير حقيقية تؤمن بثلاث؛ واحدية القضية اليمنية، ومشروع الدولة الاتحادية اليمنية، وحق الشعب اليمني في بناء دولته على كافة أراضيه.
وجود الخلافات الخليجية والدولية أمر وارد ولا يستبعده سوى طيب القلب، من بين هذه الخلافات سيجد الباحث عن حل للقضية اليمنية، فكثرة المتناقضات دوما فيها مخارج حقيقية وفرص لمن يريد الحل، الاستفادة من الخلاف بدلا من الحيرة فيه سيساعد القيادة في تجنيب اليمن خطر التمزيق الذي يراد لها.
في هذه الحرب السياسية في الأساس نحتاج إلى تركيز الشرعية على إيجاد الحل، وانتزاع البلد من وسط زحام الخلافات وركام الحرب، نحتاج اليساري العاقل والإسلامي الناضج والقومي الحريص على روح الأمة اليمنية الواحدة والسلفي الذي يريد وجه الله الواحد واليمن الواحد، نحتاج الجميع بلا استثناء، واجتماع الكل سينهي ارتفاع تلك الأصوات التي استجابت للحقد والكراهية الأيدلوجية واستجابت لأجهزة الأمن والاستخبارات الدولية، هذا البلد مسؤولية الجميع وحفظه واستقراره على عاتق الجميع، والهروب من المشكلة سيكون لعنة على الجميع.