فسدت الحياة الثقافية في هذه البلاد بعد أن أتجه الناس بعيدا عن طرق استصلاحها وإعمارها، تركت الزراعة والتجارة وأتجه الناس نحو الاغتراب منذ أربعينات وخمسينات القرن الماضي، من أين ستولد الثقافة والفلاح قد ترك المحراث والثور واتجه للعمل في الصحراء البعيدة عن الهواء والبرود والخضرة والوجه الحسن؟ لقد حدث تجريف ثقافي لهذا البلد بعد أن أضاع الناس معالم الزراعة، راحت البكور وغاب السابع وعلان ونسي الناس صوت الملالة، الطفرة الخليجية صنعت لليمنين كروشا، وحولتهم من رعاة غنم إلى "قروش"، ولم يعد ناجي يناجي الضمد "وأنا بتولك بالمناييس وبالعكر دوري لك"، تحولت المهاجل إلى شيلات، الأرض الوعرة تخلت عنا وغادرتنا اسراب النحل، وقطعان الغنم أكلتها الكلاب، والوعل ابن السهول والجبال الخضراء غادر إلى جبال عسير، تحولت الجبال في عصر التيه من محميات خضراء إلى جبال غبراء، تغيرت البيئة وصارت الوحوش محشورة في زاوية، فكانت الهجرات الجماعية، تلتها العودة الجزئية في التسعينات من القرن الماضي، لكنها عودة المنهكين الذين اضاعوا الطريق يوما وهم يعبرون الحدود، وكل ما صنعوه بعد عودتهم هو هجرهم للقرى الطيبة، وذهبوا نحو العشوائيات التي تسمى مجازا مدنا فقاموا "بترييفها"، كل هذا ساهم في طمس موارد الثقافة، النابعة من البيئة، الحضارات تأتي مكتملة إنسانا وتاريخا وبعد نابع من الهوية وروح مختلطة بتراب الأرض وماء السماء، وجهد غير منقطع في كل المجالات، خسرت البلد بقدر ما كان يجب أن تكسبه عشرون ضعفا، وبالمحصلة خرجنا بشعب من الفقراء وقلة غنية متخلفة ثقافيا، وقليل من المتعلمين عديمي الثقافة -العلم قد يمنحك الطريق للثقافة إن اردت أنت- ومجرد باحثين عن وظائف عامة وخاصة لا أكثر.
كان قد تبقى مثقفين من الزمن الماضي صنعتهم ظروف ثقافية صعبة مع وجود الاستعمار والسلالية، لكنهم تشبثوا بالأرض والشجر والحجر وبعضا من كتب فخلقوا نوعا من الثقافة الرزينة التي اقتات منها الجيل الضائع الذي تحدثنا عنه أعلاه، الفضول مثلا صنع ما لم تصنعه جامعات صنعاء وتعز وعدن مجتمعه، لقد برع في صياغة مشاعر الأجيال المتعاقبة، ومازال تأثيره ظاهرا، لكن يبدو أن جيل الديجتال قد تجاوزه إلا قليلا.
ظلت حنجرة أيوب طارش تسجع أبيات الفضول وهذا الأخير هو رأس الهرم الثقافي اليمني بلا منازع، حضرت الذاكرة مع ألحان العبسي، لكن الوعي بالمعاني لم يكن حاضرا، كان الناس ومازالوا يستمعون للنغم ويحفظون الأبيات دون الخوض في المعاني في أحسن الأحوال.
برزت ما تسمى بالنخبة من هذا الفراغ الكبير، ظهرت بعض الأسماء الكبيرة التي صنعت الوهم ودفعت للناس بوجوه مستأنسة عديمة الفهم ومجازا سميت نخبة، ومن هذه النخبة خرجت قيادات مجتمعية صنعت ما تقدر عليه من تجريف لكل قدرات المجتمع وتلاعبت القوى السياسية بالنسيج الاجتماعي ظنا منها أنها تتقدم سياسيا، كانت السياسة عبارة عن محانكة ومهاترات، لم تصل إلى درجة الجدل والمناظرات الموضوعية، لأنها قادمة من هراء كبير ومن فراغ أكبر، اقتربت تلك النخبة من الحاكم الأعمى وزادته ايمانا بأنه الأقدر على الإبصار، العبث هذا كله قاد إلى انهيار المنظومة المجتمعية بعد انهيار المنظومة الثقافية، وتلتهم في الانهيار المنظومة السياسية، والنتيجة التي بين أيدينا طبيعية من الناحية الموضوعية، بلد ينهار والنخبة تبحث عن لقمة، والشعب غارق في همومه اليومية، لا أحد التفت للناس الا باعتبارهم قطعان وجماهير وجموع غفيرة من المغفلين الذين يناصرون أحزابا وجماعات خاوية على عروشها من الداخل.
غضب الجماهير في 2011 تم تنميطه وانقسم الغضب إلى (س) في الستين و(ص) في السبعين، مع أن مطالب س و ص واحدة، شعب انهارت دولته فخرج يبحث عن دولة، سواء أكان يقف في الستين أو في السبعين، هذا من حيث جوهر الفكرة، وبعيدا عن التفاصيل المملة، في النهاية (الإنسان اليمني يريد دولة) وهذا ما يمثل أعلى مؤشر في مقاييسي المحدودة والمتواضعة.
لكن الدولة بلا تربية الجيل على حب الدولة وضرورة وجودها وبقائها واستمرارها إلى الأبد لا يمكن أن تبنى، كما أنها لا يمكن أن تولد من العدم. كان لدينا مجموعة أحزاب تعتبر دخولها مجلس القائد أو الرئيس ممارسة للسياسة وفقا للمتاح، ولولا ضغط الجماهير الجائعة الغاضبة لما تم منافسة علي صالح في 2006، لكن لا أحد من قيادة تلك الأحزاب المعارضة كان لديه طموح للوصول إلى السلطة، وهنا يقع التساؤل لماذا؟ ببساطة لأن السلطة تعني الوصول إلى ركن أساسي من أركان الدولة الأربعة، والوصول إلى هذا الركن بدون مشروع مكتمل لبناء الدولة تقع الكارثة، إذا فما الحل يا جماعة؟ نستلف مرشح يكون أساسه إصلاحي وقالبه اشتراكي وروحه قومية لا هو شمالي ولا جنوبي ولا شرقي ولا غربي، هذا السلف الشريف وإن كان يجوز في مثل هذه الحالة، لكنه مؤشر على ضحالة الأحزاب وقادتها بدون استثناء، وعلى طريقة ذلك الرجل النخبوي أيضا الذي سمع حركة مريبة في داره فبدلا من الذهاب لمواجهة اللص ذهب فورا إلى غرفة خالته وأيقظها من سباتها، قومي يا خالة هناك لص يجوب في أنحاء الدار، سألته خالته لماذا أواجهه أنا ولست أنت؟ قال: "تقدمي يا خالة أنت بلا بيوض". وبنفس هذه الفلسفة لا سواها تكررت الحالة عند اختيار رئيس جمهورية باتفاق جميع الأطراف ورئيس حكومة أيضا، وواصلي التقدم يا خالة!
من أين نصنع الدولة؟ من صناعة رجالها القادرين على إدارة مؤسساتها أولا، بمعنى صناعة رجال دولة، وهنا مربط الفرس، فهل هناك مصانع لهذه النوعية من الرجال؟ عالميا يوجد، ومحليا لا يوجد. إذا فمن أين أتي هؤلاء الذين يديرون الدولة أو السلطة؟ هذه لا تحتاج إلى معرفة، لقد قفز كل من لديه رغبة في انتهاز فرصة وحصل عليها، وكنتيجة حتمية لاتساع الفراغ وخاصة بعد أن اثبتت قوى النخبة أنها قادرة على التحول من ديوان صالح إلى ديوان هادي، قفزت قوى الانقلاب إلى وسط العاصمة، مادام أن هناك فراغا فهناك من سيملؤه وهذا من قوانين الطبيعة.
الانقلاب المخطط له كان نتيجة لحنق صالح الذي توعد "سأفعل لهم شغله أكبر من حقهم" قالها في 2011 فعلوا ضدي ثورة سأفعل ضدهم انقلابا، شجعه على ذلك ضعف خصومه وكما أن خبرته الانقلابية قد تطورت كثيرا فهو أحد الضالعين في انقلاب 1974 كما هو معروف، لقد انتظر إلى أن تهيأت له الظروف وفعلها بقطعان الهمج الحوثيين الذين تنمروا عليه فيما بعد، هذا الانقلاب لم يكن ضد فئة أو سلطة بل ضد الدولة والشعب، وتم تصفير عداد البلد. ولأن صالح كان أضعف مما يجب فقد قام بهدم كل ما بناه أو نوى بناؤه أو بني في عهده بقصد أو بدون قصد.
فهل يصلح الضعيف لتولي أمرا من أمور الدولة؟ قطعا لا يصلح لحمل هم الأمة من فيه بوادر ضعف، أما الضعيف فلا يصلح مطلقا، ما علامة ضعف صالح؟ حنقه من الشعب ومعاقبة البلد كلها لغضبه من فئة أو جماعة أو حزب، ما أشبه صالح بسعيد الذي خلص حماره من القمل؛ رش عليه جالونا من القاز واحرق القمل، لكن الحمار لم يسلم من النار، سعيد كان صادقا في حب الحمار وصالح أيضا يحب الحمار!
كنت قد حفظت عن جدي رحمه الله عبارة أظن أني قد استخدمتها في إحدى مقالاتي، "لا تدع الضعيف شاهدا في بصيرتك" لماذا؟ لأن الضعيف من السهولة جعله القيام بتغيير شهادته بحسب نوع العرض والتهديد الموجه له، ولذا "استوزار" الضعاف وتوليتهم مناصب في الدولة ينتج عنه العبث، ليس لدينا سوى هذه النخبة الضعيفة، والتي يحق لنا أن نسميها "النكبة".
هذه النكبة مازالت لم تفهم ما المطلوب منها في مختلف المراحل، نفس التفكير الذي كان قبل الانقلابين -انقلاب حوثي وانقلاب عيدروس- هو نفس التفكير الذي بعدهما. كنت مع عدد من الأصدقاء نتحدث عن توظيف الأقارب وهي المعضلة التي هلت علينا من قبل الحكومة، أو بعضا من أفرادها حتى لا نظلم الكل، لم أكن مهتما أبدا، لا مانع عندي من أن يوظفوا أبنائهم وبناتهم ونسائهم وأمهاتهم وجداتهم في وظائف الدولة العامة، هذه الدولة ليست للبعض والبقية لا، وهم أصلا من أبناء هذا الشعب وسكان أصليين كمان، فقط ذهب تفكيري إلى معايير الوظيفة العامة، وقلت لهم لابد من ضبط الوظيفة بمعايير واضحة ومن انطبقت عليه المعايير بعد اختبارات الكفاءة والمنافسة العامة فليحصل على الوظيفة والمنصب، لكن هذا مستحيل تطبيقه في حال غياب الدولة ونحن في توقيت استعادتها إن لم أكن مخطئا، ولذا أحب أن أضيف إلى ما سبق إذا كان حضرة الوزير الوكيل السفير المحافظ الأمين العام الخ الخ الذي وصل إلى منصبة بدون معايير أيضا، ويريد أن يوظف أقاربه فليفعل لا مشكلة فقط فليرسل أحدهما إلى الوزارة بدرجة وكيل والثاني إلى الجبهة بدرجة جندي، وهذا من باب استعادة الدولة لا أكثر، ومن باب العدالة وعدم التمييز على الشعب المقاوم للانقلابات المتتالية.
الضعيف لا يولى فكيف بالضعيف ابن الضعيف؟ صارت لدينا سلالات من الضعفاء في هذه السلطة، وبمجرد أن يتم عزل ضعيف الا وفعل كما فعل الضعيف علي عبد الله صالح قام بحرق الحمار، ونفس الشيء فعله بن بريك السلفي أول ما أقيل أحرق الحمار، وكذا فعل شريكه عيدروس، المشكلة في كيفية انتقاء الرئيس لهؤلاء الضعاف، الذين يحرقون الأخضر واليابس بمجرد العزل، ونحمد الله أن المصيبة كانت انقلابا في التواهي، ولم تكن انقلابا في عموم البلاد، والانقلابات الجزئية دائما فاشلة، لكن الخوف من الضعاف الذين بجواره أيضا، ماذا لو أقيل الوزير الفلاني وتحول إلى انقلابي؟
أفراد وجماعات "النكبة" يلوذون بالشرعية وبالرئيس هادي بشخصه كرئيس، لا بصفته رئيسا للجمهورية اليمنية، اليمن كمفردة وكهوية منزوعة من كل خطاباتهم، لدينا جوقة من الانتهازيين الضعاف، في الشمال يبحثون عن مكاسب آنية وتموين وأسلحة ومكانة، وفي الجنوب لدينا انتهازية من نوع أخر تعتبر الرئيس منصة للانطلاق نحو المشاريع الصغيرة، يبحثون عن الوظيفة ليتحولوا من موظفي الدولة اليمنية إلى قادة وزعماء قراهم المتناثرة من مثلث الدوم حتى شعاب ثمود، يحلمون بالقيادة وينسون أقل شروطها الموضوعية، وهو وجود القضية الأصلية لا المختلقة، والقضايا غير المنتمية للهوية والدولة اليمنية ليست قضايا عادلة، وإنما قضايا انتهازية لصناعة التشققات والانقلابات، فمثلا القضية الجنوبية كانت قضية عادلة حولها عيدروس المعزول إلى انقلاب فاشل، وقضية صعدة المختلقة ولدت انقلاب الحوثي الفاشل الذي أطاح بالهاشمية السياسية برمتها شمالا وجنوبا وأيقظ ثارات يزيد عمرها عن الألف عام.
ضعف النخبة أو النكبة كما قلنا يرهق الشعب ويصيب المتحمسين بالوجع والحالات النفسية، ستشهد اليمن موجات جنون بقر لا ساعها ولا قبلها، والسبب ظهور نخبة وقادة تافهون لا يحملون غير الشعارات الوهمية.
لتتوقف القرارات الهزلية لتتوقف التعيينات لتتوقف الانتهازية بكل أشكالها، نحتاج رجالا أقوياء يقفون مع الدولة مع اليمن مع القيادة لا موظفي شرعية يجمع بينهم اللؤم والضعف وجمع المغانم، ليتم البدء بالعمل الجاد لأجل استعادة الدولة، ليتم تعيين وزيرا للدفاع؛ شاب طائش لديه طموح ليغير خارطة القوى على الأرض، ليتم تعيين وزير إعلام له علاقة بالإعلام، ليُعرف العالم بماهية القضية اليمنية، لتتحول الحكومة كلها إلى وزارة خارجية ترمم علاقة اليمن بالعالم، وهذا ما نحتاجه للمواجهة القائمة، ويعقبه بناء مؤسسات إنتاج ثقافي تصنع جيلا مثقفا سلوكا وفكرا ووظيفة، ويتبعها بناء مؤسسات وأكاديميات صناعة القادة ورجال الدولة.
*فيصل علي – اعلامي ومحلل سياسي مقيم في ماليزيا.
*المقال خاص بالموقع بوست.