تبدأ المعاناة اليومية للطفل "أيمن سمير" (11 عاماً)، في اللحظة التي يضع فيها كيسًا ممتلئًا بالخردوات على ظهره، مودعًا أقرانه من أطفال الحي، ليخرج في جولة جديدة من الطواف في شوارع وأزقة مدينة تعز وسط اليمن، ليبيع للمارة ما يحمله.
لم يختر الصغير أيمن، هذا الطريق الشائك والمجهد له كطفل، من تلقاء نفسه، بل كان مدفوعاً إليه حين فرضت عليه الظروف والأوضاع الصعبة التي تشهدها اليمن عامة، وتعز خاصة، جرّاء حرب تعصف بالبلاد منذ أكثر من عامٍ مضى، أن يصبح المعيل الوحيد لوالدته وأشقائه الأصغر منه، بعد وفاة والده، قبل خمسة أشهر بقذيفة سقطت أمام منزلهم، في منطقة المحصاب غربي المدينة.
وبعد أكثر من عام مضت على اندلاع حرب مستعرة في مختلف أنحاء البلاد، غدت تعز، تعج بأطفال يعملون في عمر مبكر، على شاكلة، أيمن، إذ وجدوا أنفسهم أمام مسؤوليات كبيرة، جعلت منهم رجالًا شيبًا، وهم لا زالوا ولدانًا.
تعز كغيرها من معظم المدن اليمنية، تعج بقصص مؤلمة منحتها الأعوام الماضية لـ"جيل الحرب"، ومن خلال تفاصيلها كبر هؤلاء الأطفال قبل أن يكبروا، حُرموا من براءة الطفولة وبهجة الحياة، وكان لزاماً عليهم أن يذوقوا العناء، في مرحلة مبكرة من حياتهم.
وفي تعز ذات الكثافة السكانية العالية، تستمر المعارك منذ مطلع العام الماضي، بين قوات موالية للحكومة الشرعية من جهة، ومسلحي جماعة "أنصار الله" (الحوثي) وقوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
وخلّفت الحرب منذ اندلاعها، في عموم البلاد وحتى الآن، آلاف القتلى والجرحى، فضلًا عن أوضاع إنسانية صعبة، فيما تشير التقديرات إلى أن 21 مليون شخص (80% من السكان) بحاجة إلى مساعدات.
ومع اقتراب حلول عيد الفطر، فإن العشرات من الأطفال شرعوا في بيع الملابس الخفيفة والإكسسوارات في أسواق تعز، آملين أن يحقق ذلك أرباحاً جيدة تضمن لهم فرحة العيد، التي ذهبت برحيل آبائهم عن دنياهم.
وفي حديثٍ للأناضول، يقول الطفل أيمن الذي بدى كرجل ستيني منحني الظهر، وهو يتوسل المارة في أكبر شوارع المدينة، ويستجديهم من أجل شراء بضاعته، بأنه وجد نفسه مضطراً لإعالة أسرته، بعد فقدان والدهم، باعتباره الإبن الأكبر سناً، مضيفًا "العمل أفضل وأكرم من سؤال الناس ليتصدقوا علينا".
التقت الأناضول، أيضًاً، طفلًا آخرًا يدعى "عماد محمد" (13 عاماً)، وهو يفترش الرصيف، ويعرض على المارة بعضًا من مستلزمات التنظيف والزينة التي تُحيكها والدته في المنزل، وقال بابتسامة خفيفة "نمشّي أمورنا ولا نجلس في البيت مراعيين (منتظرين) للناس يتصدقوا علينا".
وفيما لفت إلى أن والدته تُساعده في عمله الجديد الذي بدأه منذ 10 أيام، تابع قائلاً: "أمي تُصلح (تُحيك) الأكياس والقبعات في البيت، وأنا أجي (أحضر) هنا أبيعهن للناس، وأربح منها".
الابتسامة البشوشة وطلاقة اللسان، انكسرت وطفأ وميضها، حين سألنا عماد عن والده الذي كان يُقاتل في صفوف "المقاومة الشعبية" الموالية للرئيس، عبد ربه منصور هادي، ولقى حتفه بجانب آخرين في منتصف تموز/يوليو 2015، وقال بصوت متحشرج، وعيناه مغرورقتان بالدموع "مات أبي قبل عدة أشهر شهر، لوما (حين) هاجم الحوثة (الحوثيين)".
"سوسن الأشول"، وهي ناشطة حقوقية وراصدة ميدانية، تحدثت للأناضول حول الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال قائلة إن "العشرات من الأطفال وجدوا أنفسهم في خضم الحرب، والمعاناة اليومية، دون اكتراث من المجتمع"، مشيرة في الوقت ذاته إلى عدم وجود إحصائية بعدد الأطفال العاملين، ليحلوا محل بات شاغرًا برحيل آبائهم.
وفي المقابل، يتحدث بشير سالم عن أحد أطفال حيّه الذي انضم لمسلحي الحوثي في منطقة "الحوبان" شمالي تعز، "بعد وفاة والده بالمعارك، والذي كان هو أيضاً أحد عناصر الجماعة المسلحة، وذكر أن "الطفل الذي يبلع من العمر 14 عامًا تقريباً، انضم للحوثيين من أجل ضمان الراتب الشهري الذي كان يتقاضاه والده، بالإضافة إلى التموينات والسلال الغذائية، التي توزعها الجماعة على منتسبيها".
ويحذر مراقبون في الشأن المجتمعي اليمني، من ارتفاع معدلات الأطفال الذين يُدفعون إلى مكابد الحياة ومشقاتها، لما لذلك من انعكاسات كبيرة عليهم، من حيث الحالة النفسية وترك الدراسة.
وقال رئيس مؤسسة "سياج" (مدنية معنية بحماية الطفولة)، أحمد القرشي للأناضول، إن هناك تناسب طردي بين ارتفاع معدل القتل والوفيات بين الكبار بسبب الحرب، وارتفاع ولوج الأطفال لسوق العمل، على حساب حياتهم وفرحتهم.
ولفت إلى أن "استمرار الحرب، وتزايد معدلات النزوح وتوقف المنشآت الصغيرة، وتردي الاقتصاد والقوة الشرائية لليمنيين، أثرت بشكل سلبي على اقتصاد الناس، والأخير انعكس على الأطفال، الذين أوعزت إليهم أسرهم بالالتحاق بسوق العمل".
وبحسب القرشي، فإن الأثر يتعدى الأطفال حالياً إلى الكبار، "لأنه في هذه الظروف يتم استقطابهم من الجماعات المسلحة لمنظمات الجريمة والحرب، وهذا ما ظهر بشكل كبير على المجتمع والدولة والاستقرار"، وقال "إذا ما كبروا سيكونوا غير متعلمين وغير منتجين، وعالة على المجتمع، ناهيك عن أنهم كانوا في الأصل آلة حرب ودمار".
وحذّر الناشط الحقوقي في مجال الطفل، من تجاهل المجتمع والسلطات لأزمات الأطفال، مطالباً في الوقت نفسه بوضع برامج مستدامة ورؤيات وطنية ذات بعد استراتيجي.
تجدر الإشارة أن تقريرًا أمميًا، صدر يونيو/حزيران الماضي، أشار إلى ارتفاع عدد الأطفال الذين قتلوا أو تعرضوا للإصابة جرّاء الحرب في اليمن خلال العام 2015 إلى 1953 طفلًا، وهو ما يمثل نحو ستة أضعاف عددهم عام 2014.
وفي آذار/مارس الماضي، صدر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" تقرير السنوي عنون بـ "أطفال على حافة الهاوية"، ذكر أن قرابة 10 آلاف طفل دون سن الخامسة ربما لقوا حتفهم العام الماضي، في اليمن، بسبب أمراض كان يمكن الوقاية منها، ولكن نتيجة لتدهور الخدمات الصحية الأساسية، بالإضافة إلى ما يقرب من 40 ألف طفل يموتون سنويًا في البلاد قبل بلوغهم سن الخامسة".
و قالت إن هناك ما يقرب من 10 مليون طفل أو 80% من أطفال البلاد بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، كما يواجه أكثر من 2 مليون طفل خطر الإصابة بأمراض الإسهال و320 ألف طفل عرضة لخطر سوء التغذية الحاد.
ويشهد اليمن حربًا منذ أكثر من عام بين القوات الموالية للحكومة اليمنية من جهة، ومسلحي الحوثي وقوات صالح، من جهة أخرى، مخلفة آلاف القتلى والجرحى، فضلًا عن أوضاع إنسانية صعبة، فيما تشير التقديرات إلى أن 21 مليون يمني (80% من السكان) بحاجة إلى مساعدات.