[ تركيا تعيد علاقتها مع روسيا ]
أقدمت تركيا، أمس الاثنين، على الإعلان عن قرارات اعتبرت بالمصيرية فيما يخص علاقات تركيا الخارجية والصراع بالمنطقة.
فقد اتخذت الحكومة التركية قرارات بإعادة التطبيع مع "إسرائيل، وأخرى هدفت لتخفيف حدة التوتر مع الدب الروسي.
وكانت تركيا قد قطعت العلاقات مع إسرائيل عقب اعتداء الأخيرة على "أسطول الحرية" الإغاثي نهاية مايو 2010، والذي نظمه ناشطون من عدة دول، لكسر الحصار عن مدينة "غزة". حيث اقتحمت قوات البحرية الإسرائيلية سفينة "مرمرة" التركية في المياه الدولية، قبالة سواحل غزة، واعتدت على نشطاء ومتضامنين معظمهم أتراك، راح ضحيته عشرة أشخاص.
وفي مارس 2013 قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي "نتنياهو" اعتذارا رسميا لنظيره التركي، خلال مكالمة هاتفية على الهجوم، كما تعهد بدفع التعويضات لأسر ضحايا "مرمرة".
لكن تفاهمات التطبيع بين الجانبين ظلت عالقة، ولم تتحقق سوى أمس في العاصمة الإيطالية روما، والتي تضمنت تعهدات إسرائيلية بتعويض أهالي الضحايا، والسماح للجانب التركي بإدخال معونات إلى مدينة غزة.
من جهة أخرى، شهدت العلاقات التركية الروسية توترا كبيرا، على إثر إسقاط الأولى لمقاتلة روسية انتهكت مجالها الجوي على الحدود مع سوريا، في نوفمبر من العام الماضي.
وقد تضرر الجانبان اقتصاديا وعسكريا من تبعات الأحداث الأخيرة، لكن أيٍ منهما لم يبادر بالاعتراف بخطئه، حفاظا على ماء الوجه.
لكن الرئيس التركي بادر بمغازلة الدب الروسي، عبر إرسال رسالة مواسيا فيها ضحايا الطائرة المقاتلة، الأمر الذي سارع الروس باعتباره كرسالة اعتذار، تحفظ ماء الوجه، طال انتظارها.
ومن المفترض أن يجري الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" غدا الأربعاء اتصالا هاتفيا مع نظيره التركي، لشكره على رسالته، حسب مصادر في الرئاسة التركية للأناضول.
وفي أول تعليق بهذا الخصوص، قال الرئيس التركي في كلمة ألقاها اليوم: "رفضنا لغاية اليوم أي شروط أو ضغوط من شأنها الإخلال بحقوق الفلسطينيين، أو إيذاء أرواح شهداء سفينة مافي مرمرة، ولن نقبل بذلك".
ويرى مراقبون إن القرارات التي اتخذتها تركيا جاءت بناء على التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، وانحناء للعاصفة الهوجاء التي تزداد ضراوة يوما بعد آخر، ونزولا عند مصلحة البلاد العليا.
وتخوض قوات روسية مدعومة بأسطول طائرات حربية، معارك طاحنة في سوريا منذ قرابة العام، دفاعا عن نظام "الأسد" وتمدد تنظيم "داعش"، ضمن تفاهم روسي أمريكي، يرى مراقبون أنه استنزاف واضح لروسيا، المنهكة اقتصاديا.
ويأمل الأتراك، عبر هذه الإجراءات، في تخفيف حدة الضغط الذي يشكله الأكراد والتفجيرات الإرهابية التي أصابت القطاع السياحي في مقتل، وربما التوصل لحل سياسي للنزاع السوري.
انحناء للعاصفة
القيادة التركية قرأت المتغيرات الإقليمية والدولية، وحجم المؤامرات والتهديدات التي تحيط بها. وقال الصحفي "مأرب الورد" : لعل أبرز مثال للمؤامرات المحيطة بتركيا هو تنامي عنف التفجيرات، بما يؤثر على قطاع السياحة، وكذلك عودة المواجهات مع الأكراد، الأمر الذي جعلها تعمل باتجاه حلحلة خلافاتها مع إسرائيل وروسيا.
وأضاف "الورد" للموقع بوست: كان لتركيا ثلاثة شروط لعودة تطبيع العلاقات مع اسرائيل وحصلت عليها، بما في ذلك الرفع الجزئي للحصار عن غزة.
وتابع: في أزمتها مع روسيا تعاملت أنقرة سياسيا ودبلوماسيا منذ البداية، بمسؤولية وتأن، وحرصت على عدم التصعيد باتخاذ خطوات مماثلة، وانتظرت الفرصة المناسبة لإنهاء الخلاف، وأعتقد أن ثمة دور لقطر، وربما لإسرائيل في تسهيل عودة العلاقات، وقد جاءت رسالة أردوغان لبوتين تعبيرا عن انفراج كانت نتاجا لعمل غير معلن.
كسر العزلة الدولية
عموما، السياسة التركية تنطلق من مبدأ (ما هو جيد لتركيا)، ولا تتحكم بها التصورات القائمة على مبادئ أيديولوجية أو تاريخية، إلا بشكل ثانوي وغير مباشر. وقال "كمال حيدرة" إعلامي مقيم في تركيا: خلال الأعوام الماضية كانت الطموحات التركية قد تصاعدت في منطقة تشهد فراغا واضحا في القوة، وكان سقف المطالب التي رفعها "أردوغان" في مواجهة إسرائيل بعد حادثة الاعتداء على سفينة "مافي مرمرة" عاليا، وبشكل مبالغ فيه.
وأضاف في مداخلة مع "الموقع بوست" : الآن وبعد 6 أعوام، لقد تبدلت الظروف الإقليمية بشكل شامل، وصارت تركيا في عين العاصفة، بفعل تداعيات الأزمة السورية التي كانت أغلب تداعياتها على الداخل التركي، زادت حدتها حادثة إسقاط الطائرة الروسية، والتي جعلت تركيا في موقف لا تحسد عليه، خصوصا مع تخاذل الحلفاء الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
وتابع: فجأة وجدت تركيا نفسها بلا حلفاء، في منطقة تشهد إعادة تشكيل جذري، وأكثر من ذلك وجدت نفسها هدفا مشتركا لكل الخصوم، وهو ما وضح من خلال إعادة تحريك ملف الأكراد، وهو الملف الذي استغله الخصمين الإسرائيلي والروسي للضغط على الحكومة التركية.
وأردف: هذا الملف تحديدا هو ما دفع تركيا لإعادة التفكير في سياستها السابقة، ومحاولة العودة إلى مربع التهدئة، وعدم الخروج عن سياسات القوى الأكثر تغلغلا وتأثيرا في الشرق الأوسط.
واستطرد: أعتقد أن تركيا هي الرابح الأكبر من هذه التصالحات، وأن التهدئة مع إسرائيل وروسيا ستعود عليها بالنفع السياسي والاقتصادي، وهو ما فشل في تحقيقه التصعيد، كما أن هذه الإجراءات لن تغير كثيرا من مواقف تركيا المعلنة تجاه قضايا المنطقة، وعلى رأسها الملفين السوري والفلسطيني.
مكاسب تركية فلسطينية
اقتصاديا سيستفيد كلا الطرفين من نجاح التطبيع؛ لكن بالمعنى السياسي، فإن تركيا خرجت منتصرة. وقال "محمد اللطيفي" صحفي يقيم في تركيا: لقد ظل التطبيع معلقا منذ 2013 رغم قبول الجانب التركي الاعتذار، بسبب عدم تطبيق بقية الاشتراطات.
وأضاف "اللطيفي" في مداخلة مع "الموقع بوست" : إن نص التفاهم بين البلدين، حول عودة التطبيع الاقتصادي؛ الذي سيوقع اليوم الثلاثاء، يتضمن موافقة إسرائيل على الاشتراطات التركية السابقة، حيث ستدفع تل أبيب (20 مليون دولار) كتعويض لضحايا سفينة "مافي مرمرة"، كما سيسمح لتركيا تلبية احتياجات سكان "قطاع غزة" من الكهرباء والماء، مع العمل على تأمين المواد الانسانية، وبناء مساكن لأهالي غزة.
وتابع: كان الجانب الفلسطيني على علم مسبق بهذه التطورات، حيث التقى الرئيس التركي الجمعة الماضية برئيس المكتب السياسي لحماس، كما تم التواصل مع رئيس السلطة الفلسطينية أيضا.
وأردف: لقد اتسمت العلاقات التركية الإسرائيلية، منذ بدايتها، بالتقارب والقطيعة، وذلك بسبب اعتداءات الأخيرة المتكررة على بلدان عربية، وعدم احترامها لحقوق الإنسان وحريات الشعوب.
واستطرد: لذا فإن الحكم على هذا التفاهم دون قراءة لخلفية العلاقات التاريخية بين البلدين، قد يؤدي إلى نتيجة سطحية، يفهم منها أن تركيا رضخت لإسرائيل، وفي تقديري فإن تركيا إن لم تربح من هذا التفاهم فإنها لم تخسر بالتأكيد؛ لكنها بحساب السياسة ربحت، والذي قدم التنازلات هي إسرائيل، والمستفيدون هم فلسطينيو غزة.