تحولت مناسبة إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، في السنوات الأخيرة، إلى مناسبة لتعميق الشرخ الاجتماعي بين شمال الوطن وجنوبه، وتزايد المطالب في الجنوب بالانفصال نتيجة غياب أي حلول عملية للقضية الجنوبية. كما أصبحت هذه المناسبة تثير مخاوف أنصار الوحدة من إقدام فصائل الحراك الجنوبي على إعلان إنفصال الجنوب بالتزامن مع ذكرى تحقيق الوحدة، وما قد يترتب على ذلك من أزمات جديدة تضاف إلى الأزمات التي تعاني منها البلاد حالياً.
أزمة الوحدة
شكلت قضية الوحدة اليمنية المحور الرئيسي للصراع بين شمال الوطن وجنوبه، سواء قبل الإعلان عن دولة الوحدة أم بعده، فمنذ قيام ثورتي 26 سبتمبر 1962 في الشمال ضد الإمامة، وثورة 14 أكتوبر 1963 في الجنوب ضد الاحتلال البريطاني، وحتى قبيل الإعلان عن إعادة تحقيق الوحدة عام 1990، كانت الخلافات السياسية بين قيادتي شطري اليمن متمحورة حول قضية الوحدة وشكل الدولة الجديدة، فطرف يريدها دولة شيوعية اشتراكية، وطرف يريدها دولة رأسمالية ومحافظة ودستورها الإسلام، وتسببت تلك الخلافات في نشوب حربين شطريتين، الأولى في سبتمبر 1972، والثانية في مارس 1979، وكان من أبرز نتائج الحرب الشطرية الأولى أنه تم التوقيع على أول اتفاقية وحدوية بين الشطرين، وهي اتفاقية القاهرة، التي تم التوقيع عليها في 28 أكتوبر 1972، تبعها بيان طرابلس في 28 نوفمبر 1972، الذي بموجبه تم تشكيل لجان فنية مشتركة للإعداد للوحدة، وتتابعت بعد ذلك الاتفاقيات الوحدوية بين قيادات الشطرين، حتى تم الإعلان عن قيام دولة الوحدة في 22 مايو 1990.
وبعد مرور ربع قرن تقريباً على قيام الوحدة اليمنية، يبدو أن الوحدة مهددة أكثر من أي وقت مضى، وأسهمت الحرب الأخيرة، التي خاضتها قوات صالح والحوثيين ضد السلطة الشرعية وضد المواطنين المناهضين للإنقلاب، في الشمال والجنوب على حد سواء، أسهمت في تعميق الجرح لدى الجنوبيين، وتزايدت على إثر ذلك الحاجة للانفصال لدى قطاع واسع من الجنوبيين أكثر من أي وقت مضى.
من الناحية العملية، يبدو الجنوب اليوم شبه منفصل، في ظل غياب سلطة مركزية وفعالة في العاصمة صنعاء، نتيجة الحرب الأهلية التي تشهدها البلاد حالياً، وتدخل قوات التحالف العربي لمساندة السلطة الشرعية، لكن اللافت أن فصائل الحراك الجنوبي لم تستغل هذه الفرصة وتعلن الانفصال كأمر واقع، خاصة وأنه لا يوجد ما يمنعها من ذلك، فقوات صالح والحوثيين تم دحرها من الجنوب، وهي تمر الآن بأسوأ حالات ضعفها، وغير قادرة على المحافظة على الوحدة الوطنية بالقوة، ودول التحالف العربي، المساندة للوحدة، لن تتدخل وتحارب إلى جانب قوات صالح والحوثيين ضد الجنوبيين من أجل الحفاظ على الوحدة اليمنية، وستقبل بالانفصال كأمر واقع إن حدث، حتى وإن كانت ترفضه.
عوائق الإنفصال
إن عدم إقدام الجنوبيين على إعلان الانفصال يعود إلى أزمة يعاني منها المجتمع اليمني بشكل عام، وهي أزمة تفتت المجتمع إلى كيانات صغيرة وغير متجانسة في الغالب، خاصة في المحافظات الجنوبية، وهو ما يفسر بروز حالة عدم الاستقرار الأمني في عدن وغيرها من محافظات الجنوب، بالإضافة إلى رهان اليمنيين على الخارج، خاصة في محطات التحول التاريخية المهمة، والتسليم شبه الكامل للعامل الخارجي ليكون صاحب الحسم في ما يشهده الداخل من صراعات وأزمات، وهذا يعني أن مسألة انفصال الجنوب من عدمها مرهونة بيد القوى الأجنبية، خاصة دول الخليج والولايات المتحدة الأمريكية.
وتعود أزمة تفتت المجتمع في الجنوب إلى تعرضه لهزات اجتماعية وثقافية ضخمة وعنيفة أكثر من المجتمع الشمالي، وذلك منذ عهد الاحتلال البريطاني، الذي قسم مناطق الجنوب إلى محميات وسلطنات على أسس قبلية ومناطقية، وتحالف معها، وعمل على الدس بينها، مكرساً سياسة "فرق تسد"، ثم تعرض المجتمع الجنوبي لأعنف هزة ثقافية واجتماعية بعدما تولى السلطة الحزب الاشتراكي، وقام بهدم البنى القبلية والروابط الاجتماعية، وفرض نمط عيش جديداً على المواطن الجنوبي جعله يشعر بالإغتراب عن هويته ومجتمعه، ثم جاءت أحداث 13 يناير 1986 لتهدم البنية التنظيمية للحزب، وتعود الروابط القبيلة والمناطقية من جديد، ولكن بشكل مشوه وأكثر تعقيداً.
وبعد قيام الوحدة، ظن اليمنيون شمالاً وجنوباً أن عهداً جديداً قد بدأ في تاريخ بلادهم، وأن الصراعات التي كانت سائدة بين الشطرين قبل الوحدة، وأثرت على استقرارهما السياسي والاقتصادي، قد ولت وإلى غير رجعة، إلا أن صدمة حرب 1994 الأهلية وما خلفته من خسائر، جعلت المواطن الجنوبي تحديداً في حالة من الحيرة، فلا دولة الوحدة التي حلم بها حققت حلمه، وفي نفس الوقت، لا يوجد ما يغريه ليطالب بعودة الدولة الشطرية السابقة التي عانى من إستبدادها فترة من الزمن، ولكنه غالباً ما يلجأ إلى التلويح بورقة الانفصال من أجل أن تحقق دولة الوحدة حلمه، وترفع عنه ما تعرض له من ظلم.
ولا شك أن ما يعانيه المجتمع الجنوبي من تفتت وانقسام سياسي واجتماعي، وضعف الروابط القبلية، وانتشار الجماعات المسلحة والإرهابية وانتهازية فصائل الحراك الجنوبي وصراعها فيما بينها، خاصة حول الزعامة، كل ذلك جعل من الصعب على أي طرف سياسي أو اجتماعي أن يقود غالبية المجتمع الجنوبي ويحظى بثقته، ويكون قادراً في الوقت نفسه على إنشاء دولة حديثة وقوية، بما في ذلك فصائل الحراك الجنوبي، الأحدث تشكيلاً، لكن تشكيلها جاء في بعض الأحيان امتداداً لحالات انقسام سابقة، الأمر الذي زاد من تعقيد المشهد السياسي وتكريس حالة التفتت التي يمر بها المجتمع الجنوبي، حيث أفقده ذلك القدرة على الوحدة في صفوفه، وبالتالي القدرة على إعلان الانفصال، وينتظر من قوى أجنبية أن تتدخل وتساعده في تحقيق حلمه.