ليس هناك أي بلد تاريخه ملفوف بالغموض كاليمن، على الرغم من عظمة هذه البلاد، ومن تاريخها الزاخر، وحضاراتها المتتالية التي تعد من أولى الحضارات الإنسانية حسبما يرى بعض الباحثين. ذلك أن تاريخ اليمن لما يكتب بعد، بالصورة التي ينبغي أن تكتب، وما كتب عبارة متفرقات بجهود شخصية في غالبها.
واليهود في اليمن جزء من تاريخها العام؛ إذ يرجع تاريخ اليهود إلى ثلاثة ألاف سنة حسبما يرى بعض الباحثين، أي إلى عهد الملكة بلقيس التي تزوجت نبي الله سليمان عليهما السلام، وأنجبت منه أول ذريته التي يتحدث عنها كتاب الشيطان والعرش. بينما هناك من ينسب التاريخ اليهودي في اليمن إلى الملك التبعي أسعد الكامل، حين زار الكعبة والتقى أحبار اليهود في يثرب، ثم أتى بمجاميع منهم إلى صنعاء. كما يذهب آخرون أيضا: أن النبي أرميا أرسل سبعة آلاف وخمسمئة يهودي من أرض كنعان إلى اليمن، وكلهم من اللاويين.
وعلى أية حال .. اليهود اليمنيون ساميون، وفي العبرية يطلق عليهم: "تيمانيم" " תֵּימָנִים" ومفردها "تيماني" وتعني الجنوب البعيد؛ كون اليمن تقع على جنوب الجزيرة العربية، وجنوب غرب آسيا.
وهناك آثار يهودية تعود إلى القرن الميلادي الثاني. ويعتقد عدد من الباحثين أن ترك ملوك حمير لتعدد الآلهة واعتبار "رحمن" إلها أوحد حدث نتيجة تأثر الحميريين باليهود. في الوقت الذي قلل عدد من الباحثين من صحة هذه الفرضية فعبادة "الرحمن" عند الحميريين كانت دينا توحيدياً بالفعل، ولكنها لم تكن دينا إبراهيميا؛ إذ كان الحِميريون قد تخلوا عن الوثنية وتبنوا ديانة توحيدية، تتمحور حول الإله "رحمن" وهناك اختلاف بين الباحثين حول طبيعة هذه الديانة، فبعضهم يعتبرها يهودية، وبعضهم يرجح أنها ديانة حميرية. ومن المناصرين ليهودية "الرحمن اليماني" الباحث الإسرائيلي "شلومو ساند" في كتابه اختراع الشعب اليهودي الذي يجادل بأن مملكة حِمير كانت مملكة يهودية خالصة، وهو يستشهد ببضعة نصوص مكتوبة بالعبرية، تمجد البيت الحميري الحاكم وتشكره على مساعدة أبناء إسرائيل، وكاتبو هذه النصوص افترضوا بوضوح أن الأسرة الحميرية الحاكمة تشاركهم دينهم..
ومع ظهور الإسلام عاش اليهود في اليمن حياتهم الطبيعية، خاصة في فترة صدر الإسلام، باعتبارهم جزءا من المجتمع اليمني، مركزين نشاطهم على الجانب التجاري بدرجة رئيسية، وخاصة صياغة الذهب والفضة وصك العملات، وغيرها. وقد تركز وجودهم في شمال خلال هذه الفترة وفي صنعاء وما جاورها، بدرجة رئيسية.
وحين أحكمت الإمامة القاسمية حكمها على اليمن كله منذ مطلع القرن الحادي عشر الهجري 1006هـ. بدأ بعض الأئمة القاسميين ينكل بهم، طامعا في أموالهم وتجارتهم. وقد طردوا أكثر من مرة من صنعاء، خاصة في عهد الإمام المهدي عباس الذي أجلاهم إلى المخا، بعد أن صادر أملاكهم في صنعاء، وعادوا بعد ذلك بصور متقطعة وحذرة، ولكنهم يتعرضون بين الفترة والأخرى للجلاء والتهجير القسري؛ ولذا انتشر اليهود بصورة أكبر في اليمن الأسفل خلال فترة الإمامة القاسمية؛ حيث المجتمع المتسامح والمدني بالفطرة، بعيدين إلى حد ما عن أعين الأئمة مباشرة، وعاشوا كغيرهم من أبناء المجتمع في ود وسلام وإخاء، وإن كانت عنصرية الإمامة وطمعها تلاحقهم من خلال بعض الولاة والحكام في هذه المناطق إلا أنها أخف مما لو كانوا قريبين من عواصم الحكم الإمامية المتعددة، ومما قد يثير العجب أن للشاعر اليهودي سالم الشبزي رحمه الله قبرا مزورا في تعز إلى اليوم، يزوره المسلمون واليهود على حد سواء!!
الأئمة يساهمون في تأسيس دولة الكيان الصهيوني
يذكر الكاتب صالح البيضاني أن أولى الهجرات اليهودية اليمنية من اليمن "إلى إسرائيل في وقت مبكر. وتقول بعض المصادر التاريخية إن العام 1882 شهد قيام مجموعة من اليهود قوامها 150 شخصا بمغادرة اليمن، عبر رحلة شاقة دامت 9 أشهر، وصولا إلى القدس"
مضيفا: "بينما تؤكد دراسات أخرى أن العام 1910 شهد أول محاولة لاستقطاب يهود اليمن في سبيل الإسهام في بناء المستوطنات والتخلي عن العمال العرب وقد قام “شموئيل يفنيأل” حينها بالسفر إلى اليمن بجواز سفر عثماني لإقناع اليهود بالهجرة إلى “أرض الميعاد”.
واستطاع أن يعود في العام 1911 بحوالي (1000) يهودي ليتوجه بهم إلى القدس، غير أن بعض المصادر التاريخية تؤكد عودتهم إلى اليمن لاحقا بعد أن شعروا بخيبة الأمل وأنه يحاول استغلالهم فقط.
ويقول “يفنيأل” نفسه عن ذلك: “لقد جاؤوا إلى فلسطين ولكنهم لم يستطيعوا العيش فيها بكرامة، فهم لم يجدوا عملا وكل آمالهم وأحلامهم تبعثرت”.
وبمساندة من بريطانيا، التي كانت تحتل عدن، تواصلت عمليات تهجير اليهود من اليمن إلى فلسطين المحتلة وقد تم تهجير 4.267 يهوديا يمنيا خلال الحرب العالمية الثانية في عامي 1943-1944. وقد كشف تفاصيل هذه العملية التي أحيطت بسرية شديدة “شلومو يفيت” اليهودي اليمني الذي ولد في مدينة عدن في العام 1921 وعمل مدرسا فيها، وكان من بين أول فوج مهاجرين عام 1943 في رحلة شاقة عبر “السودان، السويس، عين موسى، سيناء، ثم الوجهة النهائية في مخيم بالقرب من حيفا”، ويقول إن بريطانيا كانت تقوم بتجميع اليهود اليمنيين في معسكر بعدن كانت تستخدمه كمعتقل للسجناء.
لكن “شلومو” الذي التحق بالجيش الإسرائيلي عاد مجددا إلى عدن عام 1947 بصفة مشرف على مخيم تجميع اليهود اليمنيين في عدن. وقد نشر ألبومات مصورة للمهاجرين خلال وجودهم في المخيم"
وذكر الباحث اليمني الدكتور عبدالله الشماحي أن من أولى هجرات اليهود إلى أرض فلسطين كانت في عشرينيات القرن الماضي، قبل تأسيس الكيان الإسرائيلي، أي أيام الإمام يحي حميد الدين.
عملية بساط الريح
تلت هذه الرحلات عملية أخرى، هي أكبر رحلة تمت على مستوى المنطقة العربية كاملة، وهي التي عرفت بعملية "بساط الريح" في العام 1948م، آخر إمامة الإمام يحي حميد الدين، وفيها تم الاتفاق على ترحيل اثنين وخمسين ألف يهودي يمني عبر صفقة سرية تمت بين بريطانيا والإمام يحي حميد الدين عن طريق عدن، جوا إلى تل أبيب..! وذلك دعما لتأسيس دولة للكيان الصهيوني على أرض فلسطين. أرض الميعاد اليهودية، وحلمهم الأبدي، خاصة وأن من ضمن بنود الصفقة أن تؤول أملاكهم من أراض وبيوت ومتاع، إلى حوزة الإمام، البخيل حد الشح، والمتهافت على جمع المال من أي مصدر كان.! ولم يصطحبوا معهم إلا ما خف وزنه وغلا ثمنه فقط، كالذهب والفضة. بل إن من شدة حرصه وبخله أن فاوض الوكالة اليهودية العالمية على شخص كل يهودي، واستلم منها أيضا جعلا ماليا عن كل واحد منهم!!
وقد بقي في اليمن آلاف اليهود في مناطق مختلفة لم يهاجروا، وكانت لهم آراء دينية تخالف آراء السياسيين منهم، إذ كانوا يرون أن أرض فلسطين هي أرض لشعب آخر، لا يجوز السيطرة عليها، مفضلين البقاء في اليمن، وهو ما سمعته يوما ما من الحاخام اليهودي بصنعاء يحي يوسف. والذي ينكر ما يقوم به الكيان الصهيوني الغاصب، متعاطفا مع الفلسطينيين الذين تبرع لهم أكثر من مرة من ماله الشخصي.
وتبعت هذه الرحلة أيضا رحلات أخرى صغيرة خلال فترة حكم الإمام أحمد فيما بين عامي: 48 و62م. وكلها كانت تصب في اتجاه دعم وتأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين. وللعلم فلم يندمج اليمنيون هناك في إسرائيل مع الكيانات الأخرى التي تم تجميعها من أنحاء العالم بسهولة، فقد ظلوا محافظين على عاداتهم وتقاليدهم اليمنية وإلى اليوم، لاسيما وأن التعامل الرسمي تجاههم ليس بنفس الطريقة التي هي مع اليهود القادمين من أوروبا. ولا تزال وجبة "السلتة" وكذا "الفحسة" من الوجبات المفضلة لدى اليهود اليمنيين في إسرائيل، وأيضا شجرة "القات" التي جلبوها معهم إلى هناك.! إضافة إلى الأزياء والملابس الشعبية واللهجة اليمنية، والفنون الأخرى. وثمة سبب آخر أيضا لم يسهل لهم عملية الاندماج بصورة مباشرة في المجتمع الإسرائيلي أو في العمل الرسمي وهو ضعف تأهيلهم العلمي سابقا، قياسا إلى إخوانهم القادمين من أوروبا.
وللعلم فاليهود في اليمن هم من اليهود القلائل على مستوى العالم الذين يحتفظون بلغتهم الأم العبرية، لغة الكتاب التوراة ذاتها، ويجيدون نطقها وكتابتها، رغم انتساب أغلب المتبقين اليوم في اليمن إلى المدارس الحكومية في التعليم العام. وتعلم المناهج العامة، بما في ذلك مادتا القرآن الكريم والتربية الإسلامية، حسبما أخبرني الحاخام اليهودي بنفسه.
المعبر المعقد
تأتي آخر رحلة لعدد من اليهود مع تزامن زيارة المبعوث الأممي ولد الشيخ إلى اليمن، وضمن واحدة من الصفقات التي لا تزال سرية، إلا أن التكهنات الأولية تقرر أن السماح لرحلة هؤلاء يأتي مقابل دعم معنوي للحوثيين في المنظمات الدولية، خاصة وأن الجماعة خرجت بمخطوطة تاريخية نادرة من التوراة، هي من أقدم المخطوطات اليمنية التاريخية، وخروجها يمثل خسارة فادحة للتراث اليمني، وقد كان على رأس مستقبليهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنفسه.
ويبقى الأسئلة التي تطرح نفسها في الأخير: لماذا تلعن الإمامة اليهود في العلن وتدعمهم في السر؟! ولماذا ارتبطت عمليات ترحيل اليهود اليمنيين بالأئمة، منذ بواكير نشوء فكرة الكيان الصهيوني؟! ما المقابل لهذا كله؟! لماذا تصر على القضاء على التراث اليمني وتهريبه للخارج؟!