كثُر اللغط حول الهدنة على الحدود السعودية مع الحوثيين، والتي جاءت استجابة لوساطة قبلية، سلم الحوثيون على إثرها ضابط سعودي، وباشروا بإزالة آلاف الألغام التي زرعوها على الحدود،
في حين أدخلت السعودية شحنات من الأغذية لمناطق صعدة. فيما فسره البعض رضوخ حوثي غير معلن، قال آخرون إنها إجراءات بناء ثقة من قبل الحوثيين، تمهيدا للتخلي عن صالح، والبدء بتطبيق الانسحاب حسب القرارات الدولية، مع إشراك سياسي للجماعة. وذهب آخرون للقول إنه امتصاص سعودي لضغوطات دولية، كمقدمة لمباحثات جديدة مع الجماعة، والدخول في تسوية سياسية. هناك، كذلك، من قال إنه اتفاق سعودي حوثي لحماية الحدود، مع تقديم ضمانات، مقابل الاعتراف بسلطة صنعاء، ورفع اليد عن دعم القوات الحكومية في المدن اليمنية.
في النهاية، كل هذه تأويلات، ولا شيء مؤكد، خصوصا أن المسألة محاطة بهالة من الغموض، مع وجود تعتيم إعلامي. لكن بالنظر إلى الواقع، بإمكان أي متابع نسج مُقاربة لما يحدث، بعيدا عن التأويل.
بالفعل هناك هدنة على الحدود، والمؤكد أن من طلبها هم الحوثيون، عبر قبليين لديهم ارتباطات قديمة مع السعودية. ربما شعر الحوثيون بخذلان الخارج، إيران على وجه الدقة، أو عجزها عن ذلك إن جاز التعبير. أطلق الحوثيون الأسير السعودي (الوحيد)، سلموا خارطة الألغام التي زرعوها على الحدود، بل وبدأوا بنزعها بأنفسهم. هذا ما يسمى إجراءات حسن نية، وبضمانة القبائل.
إجراءات أخرى، ربما وضعت كشروط، تمثلت بتخفيف اللهجة العدائية لدى الإعلام الحوثي، ولاحظ الجميع تغير الخطاب، حيث باتت المملكة تُعرف بمصطلح "الجارة الكبرى". يُعد هذا الشرط تعجيزي لدى الحوثيين، حيث يمثل استعداء المملكة أحد أهم مصادر التجييش العسكري. لكم أن تتخيلوا الاستياء الذي سيسببه هذا الإجراء لدى قواعد الحوثي. بالفعل، قبل الحوثيون بتنفيذ هذا الإجراء الصعب، وإن دل على شيء، فإنما يدل على مدى الانكسار وقلة الحيلة، ومدى الرغبة في إبرام هذه الهدنة، خصوصا إذا علمنا أن قتلى الحوثيين على الحدود السعودية فقط، يزيد عن 7000 قتيل.
ماذا سيستفيد الحوثيون عبر هذه الهدنة، التي قدموا في سبيلها تنازلات عن أشياء تعتبر من الأساسيات؟!
هناك فوائد جمة، منها ما نعرفه، ومنها ما يعلمها هم، وقدموا التنازلات للظفر بها. جبهات الحوثي الداخلية تعاني الانهيار، بسبب شحة المقاتلين، وهذه الجبهات تحديدا من يعولون عليها للضغط باتجاه إشراكهم في تسوية سياسية.
هذا الانهيار تمثل عمليا في سقوط الجبهة الجنوبية والغربية في تعز، على نحو دراماتيكي، أظهر هشاشة القدرة العسكرية للجماعة.
إذن، بواسطة هذه الهدنة، بإمكان الحوثيين سحب مقاتليهم العبثيين من الحدود، ورفد جبهاتهم المختلفة، والحؤول دون انهيارها. ستحصل قرى صعدة على أطنان من الإغاثات، والتي سيستحوذ الحوثيون على الجزء الأكبر منها، مقابل الهدنة. سيحتفظون بما تبقى من قدرتهم الصاروخية، إن ظل هناك، للداخل، حيث لا جدوى منها مع السعودية في وجود منظومات الباتريوت..
لا تلتفتوا إلى قاعدة الملك خالد وخميس مشيط، والدمار الذي حل بهما؛ لأن هذه القصص تشبه قصص الأسرى السعوديين والصهاينة، التي طلعت في النهاية أسير واحد. وتشبه قصص احتلال الربوعة، نجران، عسير، وجيزان، والتي طلعت في نهاية الأمر محصنة بآلاف الألغام من الحدود اليمنية ذاتها.
كان بوسع الحوثيين، بقليل من الفطنة، عدم الذهاب أصلا إلى الحدود، وتعزيز الجبهة الداخلية. تلك الذريعة التي راقت للسعودية، وأضافت شرعية الدفاع عن النفس، إلى شرعية تخويل الرئيس الشرعي، الذي أفضى إلى عاصفة الحزم. تلك الذريعة التي منحت السعودية إصرارا للتملص من الضغوطات الدولية، بصفتها طرف في الحرب. لكن الحوثيون كانوا يفعلون ذلك بسذاجة، فقط لإبداء الولاء لإيران، عبر استهداف عدوها اللدود، والذي هو دولة عربية شقيقة، وجارة- بغض النظر عن سياستها الخاطئة- منحت اليمنيين ما لم يمنحهم وطنهم.
بالعودة إلى الفوائد التي سيجنيها الحوثيون عبر الهدنة، فإنهم يأملون كذلك في الوقيعة بين المقاومة والتحالف، عبر الترويج أن الهدنة هي اتفاق مع السعودية لحماية الحدود، مقابل رفعها اليد عن المقاومة، خصوصا أن مشهد إعادة تدوير علي صالح، عقب ثورة فبراير، ومشهد دعم الملكيين على الجمهورية، كلها مشاهد لا تغيب عن الذاكرة. يأمل الحوثيون، كذلك، أن تكون هذه الهدنة مقدمة لإقناع السعودية بصفقات أخرى، أهمها التخلص من صالح، مقابل ضمان إشراكهم في عملية سياسية، عبر تنفيذ قرارات مجلس الأمن.
يقول أحدهم، ما يهم السعودية هو حماية حدودها، وما حدث من هدنة، يأتي ضمن هذا السياق، وربما تتخلى عن الشرعية، أو ستجبرهم للدخول في تسوية مع الانقلابيين. ثم إن السعودية فعلت ذلك مع الملكيين، ومع الحوثيين في الحروب السابقة، ومؤخرا أعادت صالح عقب ثورة الشباب، في السياق ذاته.
هل يعني هذا أن الحوثيين هم المستفيد الوحيد من الهدنة؟!
بالفعل لا. فلدى السعودية مآرب أخرى من الهدنة، أولها إبداء مرونة، ومن جهة أخرى، إحداث خلخلة في حلف الحوثي- صالح. إظهار الحوثيين صغارا أمام أتباعهم عبر امتداحها، وتخليهم عن أحد أهم القواعد الأساسية. يمر أفراد التوجيه المعنوي للجماعة، حاليا، على الجبهات وإقناعهم أنها غيرت النبرة الإعلامية لحاجتها للغذاء المقدم من السعودية، ولالتقاط الأنفاس والعودة مجددا لحربها. وهذا يعني أن تغير اللهجة الإعلامية تجاه السعودية أربك قواعد الحوثيين.
أبدا السعوديون مرونة في تقبل الهدنة، والوساطات القبلية، لكنهم لا يبدون اهتماما بالحوار الذي يسعى إليه الحوثيون. أغاظ ناطق الحوثيين التمثيل السعودي في المحادثات، فيما رفضت السعودية رفع مستوى التمثيل. بمعنى أن هذا حجمك، عجبك والا أنت حر. إذا لم تستفد السعودية من الهدنة، فإنها غير مضرة بالنسبة لها، وليست ذات أهمية أصلا.
انهيار وشيك للهدنة
الحوثيون أحرص ما يكون على الهدنة التي كلفتهم الكثير، لكنها هشة، وبالإمكان أن تنهار في أي لحظة. قبل يومين، تم رصد انتهاك من الحدود اليمنية، تمثل في وصول مقذوفات مدفعية إلى الأراضي السعودية، وتم الرد عليها. قد لا يكون الحوثيون من أطلقها، لكنها بالفعل أُطلقت. هناك من لا يروقهم هذا الإجراء، سواء من بعض أجنحة الجماعة، أو من قبل حليفهم صالح.
خلال اليومين الماضيين، لاحظت أخبار قناة المسيرة، التابعة للحوثيين عادت لوصف السعودية بالعدوان "الأمريكي السعودي". المهم أن الهدنة لن تلبث طويلا.
إذن، ما سمي بالهدنة على الحدود، لا دخل لها، لا من قريب أو من بعيد، بقرارات مجلس الأمن، والتي تخص الحكومة اليمنية. التحالف العربي، بقيادة السعودية، مستمر بالعمليات العسكرية، وبدعم الحكومة الشرعية، حتى إنهاء الانقلاب، وتطبيق قرار مجلس الأمن 2216. فقد نفذ طيران التحالف في اليومين الماضيين، عشرات الغارات في مختلف المدن، بما فيها العاصمة، واستهدف تجمعات حوثية كذلك. لأن ذلك لا دخل له بالهدنة على الحدود. الهدنة سياسية، وكلا الطرفين له مغزى، وإن بدرجات متفاوتة.
لقد استطاعت السعودية التخلص من كل الضغوط الدولية لوقف عملياتها العسكرية، عبر أوراق قوة تملكها، وتغير جذري في سياستها الخارجية. لا أستبعد أن يكون الانسحاب الروسي من سوريا، إجراءات حسن نية، قبيل زيارة مرتقبة للملك سلمان إلى موسكو. لدى السعودية ورقة النفط، والتي ترغب موسكو في الوصول إلى تفاهمات حولها، لوقف تدهورها الاقتصادي، الذي زاد من حدته التدخل في سوريا. فضلا عن القوة الكبيرة التي أبداها التحالف الإسلامي مؤخرا في "رعد الشمال".
معركة اليمن مهمة ومصيرية بالنسبة للسعودية، لكبح جماح النزق الإيراني، ولن تقبل سوى بانتصار ناجز للشرعية، وضمان وجود حكومة وجيش وطنيين، لا يدينان لإيران. انتصار اليمن سيبعث برسائل خارجية كثيرة، وأخرى داخلية لكل من تسول له نفسه الإضرار بأمن السعودية الداخلي.
لم يُشكل التحالف العربي للعودة من اليمن (عمق الخليج) بحكومة موالية لإيران، أو حتى بعضها. كما ليس للعودة، كذلك، بدون بحر العرب ومضيق باب المندب. لم تُعلن دول الخليج، وبعدها الدول العربية، لم تعلن "حزب الله" كمنظمة إرهابية، وتجفف منابع دعمه، لتعود وتترك اليمن لحلفاء طهران. لم تسعَ المملكة لتشكيل تحالف إسلامي، وتهدد بالتدخل في سوريا، وبعدها العراق، لإخراجهما من وحل إيران، لتنكفئ وتعود أدراجها من دون اليمن.
من صفحة الكاتب على " فيس بك"