[ تحقيق استقصائي يفتح ملف عصابات النهب المسلحة على خط تعز - عدن ]
لم تعد طريق "هيجة العبد" الوعرة والمحفوفة بالمخاطر كشريان وحيد لإيصال مستلزمات الحياة الأساسية والغذائية لقرابة خمسة ملايين إنسان هم سكان محافظة تعز المحاصرة العائق الأبرز أمام سائقي المركبات المتوسطة والثقيلة الذين ينقلون مختلف البضائع التجارية من العاصمة المؤقتة عدن إلى محافظة تعز.
ثمة عوائق أشد وعورة وخطراً باتت تهدد حياة مئات من سائقي المركبات وتزيد من معاناة أبناء محافظة تعز المعيشية، تتمثل في عصابات التقطع والنهب تحت تهديد السلاح.
قبل عام تقريباً وفي الساعة السابعة من مساء الجمعة (8/3/2020) كان سامي أحمد علوان يقف بشاحنته أمام أحد المخازن التجارية في منطقة "السيلة" مديرية الشيخ عثمان محافظة عدن في انتظار إكمال العمال مهمة تحميل البضاعة المكونة من مواد غذائية أغلبها أجبان وحليب، كانت الأمور تسير بشكل اعتيادي وكل مستلزمات نقل البضاعة إلى محافظة تعز أحضرها سامي بما فيها "كوشن" العبور وهي ورقة صغيرة يطلبها جنود النقاط العسكرية المنتشرة على طول الطريق، يدون فيها كمية البضاعة ونوعها واسم مالكها واسم السائق أيضاً، بالإضافة للمبلغ المالي الذي يوزع على النقاط كجباية.
تفادياً لحرارة الجو وازدحام الطريق يتحرك سائقو الشاحنات والقاطرات المحملة بالبضائع في وقت ما بعد الظهيرة وفي الليل. خمس ساعات كما يفترض تعوّد سامي، هو كل الوقت المطلوب لوصول البضاعة إلى تاجر آخر في تعز، قد يزيد الوقت ساعة أو ساعتين إذا حدث عارض ما.
لكن رحلة سامي استغرقت هذه المرة تسعة أشهر كأطول رحلة برية لن ينساها طوال حياته.
تفاصيل تلك الرحلة كما حكاها السائق سامي لـ"الموقع بوست" بنبرة قهر لا يعرف مرارته سواه.
نقطة بين علمين
يقول سامي إنه عند وصوله إلى نقطة "الصميتة" العسكرية القريبة من مديرية طور الباحة بمحافظة لحج وفي الساعة الثانية من فجر السبت (9/3/2020) اعترض طريقه مسلحون على دراجات نارية بقيادة المدعوان (ع. س) و(ر. س) وأجبروه تحت تهديد السلاح على تسليم الشاحنة بكل حمولتها من البضاعة المقدرة قيمتها 13مليون ريال خاصة بالتاجر "الشيبة" من محافظة تعز، ما أثار دهشة السائق سامي واستغرابه.
وأشار إلى أن ذلك حدث أمام مرأى أفراد النقطة العسكرية التابعة للواء الثالث صاعقة بقيادة صادق الكعلولي وهو لواء يتبع قوات ما يسمى بالمجلس الإنتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيا، المطالب باستقلال الجنوب.
تسمى هذه النقطة التي يرفع أفرادها علم التشطير بنقطة "الصميتة" نسبة للمنطقة الواقعة فيها في منطقة طور الباحة من محافظة لحج والتي يوجد فيها أيضاً سوق "الفرشة" الشهير على طريق عدن تعز وستكسبه عمليات التقطع المتكررة شهرةً إضافية كما سيكشف هذا التقرير.
لا تبعد هذه النقطة التي كان أفرادها أول من لجأ إليهم سامي لإعادة شاحنته عن أول نقطة ترفع علم الجمهورية اليمنية ويسيطر عليها اللواء الرابع مشاة جبلي أكثر من عشرة كيلومترات، لكن النزعة الانفصالية والصراعات السياسية وغياب التنسيق الأمني جعلتها بعيدة بعد كلتا الدولتين عن الواقع وعن مواطنين تركوا بلا حماية.
البحث عن غريم مجهول
بالعودة لرواية السائق سامي لـ"لموقع بوست" وبعد وعود متكررة من قادة اللواء الثالث صاعقة بتسليم الشاحنة لإدارة أمن مديرية طور الباحة لم تنفذ كون من نهبوا الشاحنة يطالبون سامي بإحضار شخص من أبناء منطقته لا يعرفه يدعون أنهم على خلاف معه، النتيجة الوحيدة التي توصل إليها سامي بعد عشرة أيام من المتابعة هي تحديد أسماء الجناة ومطلبهم.
في الرابع من أبريل/نيسان من العام الماضي استطاع سامي استخراج مذكرة من مدير شرطة مديرية طور الباحة، العقيد الركن محمد عبده سعيد الحرق، موجهة لقائد نقطة الصميتة العسكرية التابعة للواء الثالث صاعقة والتي تمت عملية التقطع أمام أفرادها.
على الرغم من نبرة لغة مذكرة العقيد الحرق الصارمة باعتبار ما حدث لسامي عملية نهب ومطالبتها بسرعة تسليم الجناة مع الشاحنة إلى شرطة طور الباحة وتحميل قائد تلك النقطة المسؤولية الكاملة والمعززة بتوجيه اللواء حمدي شكري محافظ محافظة لحج المؤكدة عدم وجود أي صلة بين الشخص المطلوب لديهم سامي، إلا أنها اصطدمت برفض تام.
البحث عن الدولة المنهوبة
خوفاً على تعرض بضاعة بقيمة 13 مليون ريال يمني وسعياً لإطلاق شاحنته مصدر رزقه الوحيد ظل سامي يسابق الزمن باحثاً عن دولة تعيد له حقه المنهوب وتوفر الأمان له ولزملائه السائقين، طرق سامي كل الأبواب والجهات بما فيها شرطة مديرية الشمايتين كونه أحد أبناء المديرية التي وجه مديرها بدوره مذكرة لمدير شرطة طور الباحة بتاريخ 22 يونيو من العام الماضي حملت نبرة استعطاف وتوسل بالتعاون مع سامي وإطلاق شاحنته، ثم تلتها مذكرة وكيل نيابة التربة جميل المقطري بتاريخ 25 من الشهر ذاته الموجهة لقائد المنطقة الأمنية الأولى لذات الغرض.
توالت المذكرات وخسر سامي ملايين الريالات بحثاً عن دولة اتضح له أنها هي الأخرى منهوبة من قبل مليشيات تحت مسميات وحجج شتى ليجد نفسه بعد تسعة أشهر من البحث المضني أمام محافظ محافظة تعز الذي تمكن أخيراً من إعادة شاحنة سامي لكن البضاعة التي كانت على متنها والمقدرة قيمتها بـ13مليون ريال كانت قد تعرضت للعبث والتلف.
اتجاه إجباري تحت تهديد السلاح
هذه الشاحنة نوع "زيزو" الغارقة في الرمال لم يظل سائقها عامر العزعزي الطريق، لكن عصابات التقطع المسلحة حاولت إجباره تحت تهديد السلاح إلى تغيير وجهته نحو مكان خالٍ لغرض نهب حمولتها المقدرة قيمتها بحوالي 10 ملايين ريال، وهو ما تم فعلاً، وهذه الصور التقطت خلسة أثناء عملية نهب العصابة للبضاعة، وتفاصيل ما حدث يرويها لـ"الموقع بوست" العزعزي ومحاضر تحقيقات البحث الجنائي بشرطة طور الباحة محافظة لحج.
يقول العزعزي إنه "في الساعة العاشرة من مساء السبت السادس من فبراير/شباط الجاري وعندما كان قادماً من عدن أوقف شاحنته في محطة الفرشة وهي سوق صغير في منطقة طور الباحة على الخط الرابط بين عدن وتعز لتناول العشاء كعادته، وعند صعوده للشاحنة لمواصلة رحلته فوجئ بمسلحين اثنين صعد أحدهما من الباب الخاص بالسائق ووضع فوهة سلاحة على عنق العزعزي طالباً منه فتح الباب الآخر والتزام الصمت وتنفيذ الأوامر دون نقاش والا فقد حياته، في ذات اللحظة التي صعد فيها مسلح آخر ووضع فوهة سلاحه في خاصرة السائق الذي قاد شاحنته وهو لا يعلم ما الذي يضمره له الخاطفان.
رغم أنه كما قال مر بثلاث نقاط عسكرية تابعة للحزام الأمني التي كان جنودها يؤدون التحية للمسلحين وعند وصوله إلى منطقة "الصميتة" وجوار محطة "الهيبس" تحديدا والتي يملكها ابن عم زعيم عصابة التقطع طلب منه الخاطفان ترك مقود القيادة لأحدهم والذي انحرف بالشاحنة يساراً في خلاء رملي وبمحاذاة قرية تحمل ذات الاسم بعد مسافة كيلومترين تقريباً غرقت الشاحنة التي كانت محملة بـ400 كرتون من أرز الربان الفاخر تابعة للتاجر عوض النقيب، كما تبين ذلك فاتورة الشحن المخزني.
غرق الشاحنة في الرمال أربك خطة عصابة التقطع فجلبا على الفور سيارتين نوع "شاص" دفع رباعي، وقاما بإفراغ البضاعة من الشاحنة، وطلعت شمس اليوم التالي والعزعزي ما يزال تحت رحمة الخاطفين وفي حالة يرثى لها غير مستوعب ما يجري، لكنه تمكن من معرفة اسم قائد العصابة ويدعى (ج. ش. قيرعة).
حاول بعض من لهم معرفة بقائد العصابة المسلحة الذهاب مع صاحب الشاحنة لإقناعهم بإعادة البضاعة وإخلاء سبيله باعتباره مؤجرا للشاحنة فقط والبضاعة ليست ملكه غير أن العصابة لم تسمح لهم بالاقتراب وباشرت بإطلاق النار عليهم مما اضطرهم للهرب، كما قال العزعزي في اتصال هاتفي مع "الموقع بوست".
البحث عن الأمن
في اليوم التالي لجريمة التقطع لشاحنته قدم العزعزي بلاغاً لشرطة مديرية طور الباحة والذين كما قال أخذوا أقواله ووعدوه بملاحقة أفراد العصابة وأبلغوا نقاط الحزام الأمني بالقبض على (ج. ش) وعصابته.
لم يكتفِ السائق عامر العزعزي بإبلاغ شرطة طور الباحة فتوجه إلى النيابة الجزائية في العاصمة المؤقتة عدن التي بدورها أصدرت أمرا قهرياً موجهاً لشرطة مديرية طور الباحة بسرعة إلقاء القبض على (ج. ش)وأفراد عصابته ولو استدعى الأمر استخدام القوة في حال مقاومة أفراد العصابة لأمر القبض.
وبموجب الأمر القهري الصادر من النيابة أصدر مدير عام مديرية طور الباحة عبد الرقيب ثابت البكيري مذكرة لمدير شرطة طور الباحة العقيد عادل عبد الكريم بتاريخ (11/2/2021) نصت على سرعة التنسيق مع قوات الحزام الأمني وتحريك حملة للقبض على عصابة التقطع وتحميل مدير شرطة طور الباحة مسؤولية القبض على المتهمين.
مدير شرطة طور الباحة يوضح
في اتصال هاتفي أجراه "الموقع بوست" مع العقيد عادل عبد الكريم مدير شرطة مديرية طور الباحة التي تقع بؤرة عصابات التقطع والنهب لشاحنات السائقين في نطاق اختصاصها، نفي عبد الكريم علمه بعمليات تقطع أخرى غير جريمة التقطع لشاحنة السائق عامر العزعزي وأنهم يلاحقون العصابة.
وعن سؤالنا له عن كيفية استطاعة العصابة بيع حمولة الشاحنة المقدرة بـ(400) كرتون أرز دون اكتشافها؟
قال العقيد عبد الكريم إنهم عمموا على جميع أصحاب البقالات عدم شراء ذلك الصنف من الأرز من أي شخص لا يحمل فواتير شراء أو تسويق والإبلاغ عنه.
تصرفات فردية
بدوره أكد مدير عام مديرية طور الباحة بمحافظة لحج عبد الرقيب ثابت البكيري التي تفشت فيها جريمة القطع والحرابة لسائقي الشاحنات المتوسطة والثقيلة لـ"الموقع بوست" إن جرائم التقطعات والنهب في خط عدن - تعز تصرفات فردية لأشخاص ليس لديهم وازع ديني أو أخلاقي ولا يمثلون إلا أنفسهم.
وأشار إلى أنهم على تنسيق مع قوات الحزام الأمني والمشايخ لملاحقة تلك العصابات وتسليم أفرادها للعدالة لينالوا جزاءهم الرادع.
إضراب سائقي الشاحنات
عمليات التقطع والنهب المتكررة لشاحنات نقل البضائع على خط عدن - تعز التي تقوم بها عصابات خارجة عن القانون تحت تهديد السلاح والتي على ما يبدو تحظى بنوع من الحماية حيث لم يتم إلقاء القبض على أي فرد من أفراد تلك العصابة، دفع بالعشرات من سائقي تلك الشاحنات إلى تنفيذ إضراب عن العمل في الثالث عشر من فبراير الجاري، كمحاولة لإيصال معاناتهم إلى من بمقدوره توفير الحماية لهم.
الإضراب الذي تسبب في إغلاق شبه كلي لطريق تعز - التربة هو الآخر لم يجد آذانا صاغية لدى الحكومة والسلطة المحلية في محافظتي لحج وتعز.
وحتى كتابة هذ التحقيق ما تزال شحنة الأرز المقدرة قيمتها بحوالي 10 ملايين ريال مختفية، كسابقاتها من البضائع المنهوبة في الوقت الذي قد تكون شرعت عصابات التقطع المسلحة في البحث عن بضاعة أخرى وضحية جديدة.