[ كثير من الأسر في الجوف تعيش مرارة النزوح ]
الجوع والألم والفقد، هو ما تمنحه ميلشيا الحوثي وصالح للمدنيين في مختلف المديريات والمناطق التي مرت بها وما زال بعضها تحت سيطرتها في محافظة الجوف شمال شرقي البلاد، حيث تعيش مئات الأسر وضعاً معيشياً صعباً مصحوباً بذكريات مؤلمة مضت وأخرى حاضرة أشد إيلاما.
في الربع الأول من العام 2015 اجتاحت ميلشيا الحوثي وصالح معظم مناطق ومديريات محافظة الجوف المترامية في قلب وأطراف الربع الخالي، وقرب أهم الخطوط الحدودية مع المملكة العربية السعودية الموازية بالمقابل لمحافظة صعدة.
وبعد دخول المليشيا بشكل فعلي مناطق واسعة من المحافظة وسيطرتها على الهيئات الإدارية والتحكم بموارد وإيرادات الدولة، عمدت إلى استخدام المواقع العسكرية والمنشآت الحكومية بغية التحرك نحو المحافظات القريبة منها بعمليات نازية مستغلة التجمعات السكانية للمدنيين، ووضعهم تحت الإقامة الجبرية كدروع بشرية من شأنها تجنيب مسلحيها ضربات مقاتلات التحالف العربي التي انطلقت في الربع الأول من العام 2015 لمساندة السلطة الشرعية وإفشال مشروع الانقلاب.
تحركات الميلشيا هذه فتحت سيلاً من الألم والتنكيل بمئات الأسر والمواطنين المناوئين لها، وهو ما أكدته مصادر تعمل لدى منظمات حقوقية وإنسانية محايدة، أظهرت في تقاريرها الصادرة لعامين انتهاكات ميلشيا الحوثي وصالح الانقلابية بحق المدنيين معظمهم من النساء والأطفال.
وبحسب المصادر، فقد تعددت أنواع الانتهاكات المرتكبة ونسبة حدوثها من منطقة إلى أخرى كالقتل العشوائي للمدنيين وتفجير المنازل والمنشآت المدنية والحكومية والتهجير القسري للسكان المحليين وإغلاق المدارس والمستشفيات ونصب النقاط وتقييد الحريات وفرض أنماط مختلفة من الاعتداءات.
المصادر ذاتها أكدت أن نحو 14520 انتهاكا أقدمت عليه الميلشيا في مختلف مناطق ومديريات المحافظة توزعت بين مقتل 404 من المدنيين معظمهم من النساء والأطفال، توزعت بين القصف العشوائي والتصفية الجسدية المباشرة.
وتضيف المصادر لـ"الموقع بوست" بأن نحو 30 ألف لغم زرعتهم الميلشيا في المناطق الأكثر احتشادا بالمدنيين سقط ضحيتها 200 منهم 62 قتيلا و19 امرأة و30 طفلا وبقية الحالات إصابات متفاوتة تركزت على حديثي السن.
وتشير إلى أن هذا العدد الكبير من الألغام التي زرعتها الميلشيا شكل ترديا في الوضع المعيشي والإنساني والأمني مما أجبر آلاف الأسر من السكان المحلين على النزوح وترك منازلهم إلى أماكن بعيدة عن المحافظة وانقطاع الكهرباء وشبكة الاتصالات.
مصادر في المنطقة العسكرية السادسة أكدت نفس الرقم الموضح أعلاه في الألغام التي زرعتها ميلشيا الحوثي وصالح الانقلابية، إذ تمكنت فرق الهندسة التابعة للمنطقة نزع نحو 1800 لغم أرضي نوع روسي وأخرى محلي الصنع تم نزعها من المناطق التي تم تحريرها من قبل قوات الجيش الوطني.
وعن تفجير المنشآت الحكومية والخاصة أوضحت المصادر أن نحو 190 منشأة تم تفجيرها من بينها 90 منزلاً لمواطنين محليين، فيما اقتحمت نحو 104 منازل نهبت وصادرة كافة مقتنياتها، بالإضافة إلى احتلال مئات المباني الحكومية العامة وتحويلها إلى ثكنات عسكرية مما أفقدها صفتها الطبيعة وجعلها هدفاً عسكرياً لمقاتلات التحالف العربي.
رئيس منظمة الجوف للحريات وحقوق الإنسان ناجي عطوان قال لـ"الموقع بوست" إن إجمالي المختطفين من المدنيين لدى ميلشيا الحوثي وصالح 152 مختطفاً تم احتجازهم واختطاف معظمهم من نقاط تفتيش كانت للميلشيا الموزعة على مداخل المحافظة والمديريات.
ويضيف أن عشرات المدنيين تم أخذهم أثناء اقتحام ومداهمة المنازل واقتيادهم إلى سجون سرية تستخدم فيها كافة أنواع التعذيب والتنكيل، دون توجيه أي تهم محددة لهم.
ويعرج رئيس منظمة الجوف بأن أكثر الفئات المعرضة للانتهاكات في المحافظة هم الأطفال، وذلك لعدم قدرتهم الدفاع عن أنفسهم من أي خطر، حيث لا زالوا عرضة للاختطاف في المناطق التي لا زالت خاضعة لسيطرة الميلشيا.
ويؤكد عطوان أن نحو 206 حالة تجنيد أطفال تم تجنيدها من قبل ميلشيا الحوثي وصالح الانقلابية في مختلف مناطق ومديريات الجوف تأتي خب والشعف في المرتبة الأولى، وبحسب روايات أهالي أن السبب الرئيسي في توجه الأطفال للمشاركة في الصراعات المسلحة هو تردي الوضع المعيشي.
سكان محليون ممن أجبرتهم ميلشيا الحوثي وصالح على ترك منازلهم وافترشوا القفار والصحارى الجدباء سردوا بعض معاناتهم بالقول إن الميلشيا وضعتهم "تحت الحصار لعدة شهور بزرعها حقول الألغام والتي حدت من تحركنا والخروج من مناطق اشتعال النيران".
ولفت السكان إلى الوضع المعيشي الصعب الذي لحق بهم جراء اجتياح ميلشيا الحوثي وصالح الانقلابية لمناطقهم، حيث إنها لم تترك لهم بعد اشتداد المعارك والسماح لهم بالخروج أخذ ممتلكاتهم الضرورية من أثاث ومستلزمات الحياة اليومية، غير ملابسهم التي يرتدونها، بالإضافة إلى منع وصول المساعدات الإنسانية والإغاثية.
بتر الحياة
موت محقق وآخر سريري جلبته ميلشيا الحوثي وصالح الانقلابية لمئات الأسر، ففي محيط مركز المحافظة "الحزم" قصفت الميلشيا بالكاتيوشا منازل مدنيين، كان أبرزها أسرة الطفلة جنة الناجية الوحيدة من أسرة قوامها 5 أفرد.
تقول جنة ابنة الثالثة عشرة إنهم وجدوا أنفسهم في وقت متأخر من الليل تحت ركام بيتهم المبني من "اللبن"، جراء سقوط قذيفتين هاون، تجمع بعدها الناس، "كنت وقتها أبكي بشدة من ألم برجلي اليسرى ووجهي مغطى بالدماء نتيجة ضربات في الرأس".
وتحكي جنة "أخذني الجيران وأنا في كامل وعيي وتم نقلي إلى مستشفى الحزم، سألت النساء الواقفات قرب سريري: أين والدي وأمي وبقية أخوتي؟"، لكن الصمت أخذ وقتا طويلا، لينتهي بجنة معرفة الحقيقة المؤلمة التي فتحت في قلبها وجعا وفقداً لا يقويها على استمرار العيش بمفردها وبساق واحدة تم بترها في اليوم التالي من الحادثة.
قتلت الأم والأب والأولاد وبقيت جنة في رعاية أقارب لها، بساق صناعية تحمل عليها ما تبقى من أحلام وذكريات تحتفظ بها لأسرتها حد وصفها.
ليست جنة وحدها من طالها الفقد والفجيعة، فأسرة الحاج صالح الجوفي هي الأخرى ذاقت مرارة الوجع والألم الشديد بعد عودتها من النزوح إلى منزلها الكائن في أطراف "الحزم"، لتكون ضحية لغمين أرضيين زرعتهم الميلشيا قبل إجبار قوات الجيش الوطني على انسحابها، لتعود الأسرة فرحة وبشوشة، غير أن هذه الفرحة لم تطل كثيرا، حيث ما إن وصلت الأسرة إلا وانفجر بها لغمان كان ضحيتهما الأم وطفليها، ذهبت الأم إلى الجنة بحسب قول مريم طفلتها الأصغر حين سألنها عن والدتها، أما شقيقاها الآخران فأحدهم فقد كفي يديه، والآخر نصف قدمه اليمنى.
وفي الوقت الذي تعيش معظم الأسر ذكريات مؤلمة ترافقها طوال الوقت، تقبع وحيدة دون رعية من السلطات المحلية كون هذه الأسرة ضحايا حرب، وهو ما أكده عشرات المواطنين بالقول "عدنا إلى منازلنا المنهوبة من كل شيء، حتى الأثاث نهبوه".
وأضافوا "ننام على الأرض بدون أي لحاف أو شيء يقينا البرد والحشرات السامة، وحيدون بلا يد تمد لنا العون أو المساعدة، حتى مزارعنا تم حرقها واتلافها، هي الشيء الوحيد الذي كان يخفف عنا الثقل".