[ ترتفع معدلات الإصابة بالمرض يوميا ]
تجلس ياسمين خلف مكتب صغير، داخل خيمة عليها شعار اليونيسيف لاستقبال حالات مصابة بالكوليرا أو مشتبه إصابتها.
كانت الساعة الخامسة، ودقائق دون استقبال حالات أمضته ومساعدها، الذي يفتح أمامه دفترًا كبيرًا لتسجيل بيانات المرضى، في الحديث من وراء كمامات.
بعد دقائق تقدمت امرأة ترافقها امرأتان ورجل، وجلست بجانب الممرضة هزيلة تشكو ألما شديدا في بطنها.
لقد امتصها المرض، وبدت عيناها فاغرتين وراء محجريها.
منذ أربعة أيام أصيبت فاطمة غالب بالكوليرا، وانتقلت العدوى إلى زوجة أخيها التي أتعبها الوقوف لتجلس على الأرض.
خسرت عشرة كيلوجرام، صارت تزن 40 كيلوجراما، قالت بصوت خاوٍ إنها تشعر بوجع في فم المعدة.
معظم المصابين بالكوليرا فقراء يعيشون في مساكن شعبية مهترئة أو دكاكين أو بيوت مكتظة بالسكان التي ينعدم فيها الصرف الصحي والنظافة.
وأضافت الحرب أعباءًا على اليمن الذي يعتبر أحد البلدان الأكثر فقراً في العالم.
يحكي إبراهيم دبوان -يعمل ممرضا في مستشفى السبعين- أن امرأة في الخمسين من عمرها أصيبت بالكوليرا، وتحسنت حالتها بعد يومين من رقودها في المستشفى.
وحين أخبر مرافقتها أنهم سيكتبون لها ورقة علاج، ويمكنها الخروج، طلبت منه المرافقة راجية تمديد مدة بقائها في المستشفى كونهن نازحات لدى أقارب يسكنون في قاع القيضي، أحد أحياء صنعاء، فسمحوا لهن بالبقاء في غرفة ينام فيها أكثر من ستة أشخاص، ويخافون انتقال العدوى للآخرين، وطمأنوهم بأنه لن يحدث لهم أي مكروه إذا اهتموا بالنظافة.
ويعجز بعض المصابين أو أسرهم عن توفير قيمة الدواء، وهو ما حدث لرجل عاطل، بالكاد استطاع إيصال ابنه وزوجته إلى المستشفى في حالة سيئة نتيجة إصابتهما بالكوليرا، ثم تركهما واختفى خوفاً لأنه لا يمتلك ثمن العلاج.
قال لزوجته إنه سيختفي ربما يساعدهما الأطباء.
قالت المرأة إنه فعل ذلك مرغماً، وبالنسبة لزوج بلا عمل، وأسرة تعيش في منزل إيجار مكتظ بستة أولاد، تمر أيام لا يملكون ثمن كيلو أرز أو خبز يشبع بطونهم. اضطرت المرأة أن تتعلم حرف يدوية لتصنع أشياءًا وتبيعها.
وأضافت بصوتها الجريح والمتعب: "منعتنا العزة من الشكوى، لكن المرض فضحنا. فضح الكوليرا عوز أسرة تسترت".
استدان عبدالله عبده سعيد، ينتمي لفئة المهمشين، مالاً حتى يصطحب أمه المريضة إلى المركز الصحي.
يعيش عبدالله في "المحوى" وهي التسمية الشائعة لأحياء الصفيح والزنك والبيوت الطوبية الصغيرة المتلاصقة بجانب بعضها البعض، سكانها من المهمشين والفقراء.
ضربت الكوليرا تلك الأحياء المهمشة، بحيث لا يستطيع عبدالله التأكد من عدد الضحايا، كما لا يمكنه الجزم بعمر أمه، قال مرتبكاً إنها في الستين أو السبعين.
عانت أمه اليوم السابق من تقلصات وآلام في البطن، وفي اليوم التالي أصيبت بإسهال شديد. يشعر عبدالله بالهلع من استياء حالتها وارتفاع تكاليف دواءها، ما الذي سيفعله؟
التعامل مع الأعراض
أكدت ياسمين أنهم يتعاملون مع أي أعراض إسهال وقيء باعتبارها إصابة، سواء كانت كوليرا أو لا. أضافت بصوت مرتفع، لتحيط الجميع، عن عدم وجود أي إجراءات فحص للتأكد من المرض.
تقدم المراكز المخصصة لاستقبال المصابين بالكوليرا "سوائل وريدية" ومحاليل مجاناً، بينما يطلب منهم شراء مضادات حيوية لا يتسبب تناولها أي مخاطر أو أعراض، كما قالت الممرضة. والغرض من ذلك "إسعاف الحالة من الجفاف".
تفضي خيمة استقبال المصابين، إلى مجموعة خيام متراصة بجانب بعضها، واكتظت بالمصابين الذين يتلقون سوائل وريدية. ولازدحام المكان خرجت إحدى المصابات تمسك بها أختها، وزوجها يمسك بكبسولة "السوائل الوريدية" الموصلة لذراعها. قالت ياسمين إنهم استقبلوا 150 حالة ذلك اليوم.
وفي زاوية الخيمة جلست فاطمة على الأرض المفروشة بحصى، ممسكة على رأسها، بانتظار السائل الوريدي، بدت منهكة وبالكاد تقف.
قال عمر حفظ الله إن أخت زوجته أصيبت بالكوليرا منذ يوم، اصطحبها من قرية شعسان، القريبة من صنعاء، قتلت الكوليرا ثلاثة من سكان القرية.
ويعاني القطاع الصحي في اليمن قصوراً في مواجهة وباء الكوليرا، سواء من ناحية الاستعدادات المادية أو التقنية.
وأثّر انقطاع الطاقم الطبي والصحي سلباً على حافز لمواجهة العدوى مما ساهم في زيادة انتشار الوباء بشكل كبير.
الأزمة الأسواء
وتؤكد منظمة اليونيسف أن هذه الموجة من تفشي الكوليرا، تمثل أسوأ أزمة صحية في اليمن، وأوضحت أنها تعمل دون توقف لمعالجة الأسباب من خلال تعقيم مصادر المياه وتعزيز النظافة، ضمن أشكال الدعم الأخرى، بما في ذلك توفير اللوازم الطبية.
وحسب منظمة اليونيسف، فإنه حتى الآن، تم تسجيل أكثر من 65300 حالة اشتباه بمرض الكوليرا و532 حالة وفاة مرتبطة في 253 مديرية في اليمن.
وتفتقد السلطات الصحية الجاهزية لمعالجة مصادر المياه الخاصة بالشرب والصرف الصحي، وتجفيف منابع انتقال العدوى. ويعاني القطاع الصحي من غياب "الترصد الوبائي والسجل الإحصائي للحالات"، وهذا يتسبب في عدم الحصول على معلومات صحيحة عن الوضع الصحي، وفي المقابل عدم اتخاذ قرارات صائبة لمواجهته.
كما أن هناك نقصاً حاداً في المخزون الإستراتيجي للأدوية. وتقدم المنظمات الداعمة معونات دوائية مثل السوائل الوريدية وبعض الأدوية، لكنها ليست كافية.
فجوة في المواد
وقال محمد الأسعدي من منظمة اليونيسف: "إن هناك فجوة كبيرة في الموارد اللازمة للاستجابة للأزمة"، موضحاً أن وكالات المعونة الإنسانية مضطرة لسد جميع الفجوات في ظل انهيار شبه تام لوزارة الصحة، وأكد أن اليونيسف قدمت أكثر من 7 طن من الإمدادات العلاجية لمواجهة الإسهالات الحادة والكوليرا للمستشفيات في الأمانة ومحافظة صنعاء، وأن طائرتي شحن خاصة تحمل 28 طن متري من الإمدادات العلاجية العاجلة وصلت مطار صنعاء الخميس.
وأشار إلى أن منظمة اليونيسف ساعدت مستشفى السبعين في نقل المرضى من الممرات إلى عنابر مؤقتة، لافتاً إلى "وجود تأخيرات كبيرة في جلب الإمدادات إلى اليمن بسبب الوقت الطويل الذي تستغرقه عملية التخليص الجمركي لجميع أنواع اللوازم الطبية المستوردة".
يقول إبراهيم إنه يتجنب الخوض في تفاصيل المرضى، لأن حكاياتهم توجع القلب. قبل أيام كانت هناك امرأة في مستشفى الثورة لديها طفلان مصابان بالكوليرا، ونظراً لتبديل الحفاظات المستمر نتيجة الإسهال الشديد، طلبت من زوجها شراء أخرى، لكنه لم يكن يمتلك سوى 200 ريال بالكاد تكفي عودتهم.
تخيل إبراهيم أن يحدث له نفس الموقف مع ابنته، لم يكن لديه سوى ألف ريال، اقتسم ما لديه. وحين رفضت الأم، ترك الورقة النقدية في كيس الأم دون أن تعرف.
هل كانت الكوليرا ما ينقص اليمنيين، لتكتمل معاناتهم. وماذا بعد؟