[ الفساد في المستشفيات يفاقم معاناة الجرحى بتعز ]
في الوقت الذي يقف فيه عديد من الأطباء على قدم وساق من أجل مساعدة جرحى القوات الشرعية في محافظة تعز التي تعيش في ظل الحرب منذ أكثر من عامين، هناك صفقات يقوم بها لوبي فاسد، وابتزاز يتعرض له الطبيب مقابل السماح له بالعمل في الجهات الطبية المدعومة من خارج البلاد، يرضى بذلك البعض ويرفضه آخرون، ويكون المريض هو ضحية كل ذلك.
تتسابق المستشفيات بتعز والحاصلة على دعم خارجي على جرحى القوات الشرعية، ليس لتقديم الرعاية الكاملة لهم والخدمة الطبية اللازمة، إنما من أجل المكاسب التي سيحصلون عليها من وراء ذلك المريض، فكثيرا ما يُفضل أولئك الحالات البسيطة حتى لا ينفقون عليها كثيرا، ولا يمنعهم من تدوين مبلغ كبير من المال في الفاتورة مقابل خدمات وهمية.
لا يهمهم إن كان المستشفى مؤهلا وقادرا على القيام بالواجب تجاه الجريح، الذي يعتقد أنه وصل إلى ملاذه الآمن ما إن يتخطى أولى عتبات تلك الجهات الطبية، أملا بالشفاء قبل أن تطاله يد المضاعفات الخطيرة نتيجة الإهمال الطبي الذي قد يفترسه، أو المُتاجرة به التي ستتغذى عليه.
انعدام الإنسانية
تكشَّف الوجه الآخر للمستشفيات المدعومة من الخارج للشاب العشريني حمدي قاسم سعيد الذي بدأ رحلة المعاناة ما إن وطئت قدماه مستشفى البريهي غربي تعز، الذي خرج مطرودا منه.
أصيب سعيد بطلقات نارية في اليد اليمني، أدت إلى تفتت عظمتي الساعد، حين كان يذود عن مدينته في جبل هان بالجبهة الغربية بتعز يوم فك الحصار الجزئي عن المدينة في الحادي والعشرين من أغسطس/آب 2016.
بدلا من أن يقوم المستشفى بمعالجته حتى يتماثل للشفاء، كما هو الاتفاق بينهم وبين الجهات الداعمة لهم، يذكر سعيد "قالوا لي أنا بخير، وتم إيقاف حسابي".
تم ذلك برغم أن الجريح "سعيد" ما يزال يعاني حتى اللحظة من كسور في ساعده واعوجاج، ووجود عظم قصير، وضمور في الأنسجة، ولا يستطيع تحريك إصبع الإبهام.
ويستعد "سعيد" للسفر إلى عدن بعد أن استطاع بشق الأنفس أن يستلف مبلغا من المال كي يقوم بإجراء عملية جراحية هناك تخفف من معاناته، بينما مستشفى "البريهي" قبض ثمن علاجه مقدما وترك الجريح لآلامه.
وسيرحل "سعيد" عن تعز وذاكرته ما تزال مليئة بالمواقف التي انعدمت فيها الإنسانية. يقول سعيد "لا أستطيع أن أنسى معاملتهم السيئة، وطلبهم مني تقريرا يؤكد حاجتي لعمل صفائح، ورفضهم القيام بذلك، برغم تزويدي لهم بالمطلوب".
رحلة طويلة مع المعاناة
في ريعان شبابهم يخوضون رحلات مفعمة بالألم بدلا من الحياة، فالشاب الذي لم يكمل بعد التسعة عشر ربيعا، عرف صنوفا من العذاب كفيلة بأن يشيب لها الرأس، ولهول ما تعرض له سهيل خالد، فهو ما يزال يتذكر كل التفاصيل بحذافيرها.
وصل "خالد" محمولا إلى مستشفى الروضة بتعز، بعد أن أصيب في أواخر شهر يوليو/تموز 2016، حين كان يقاتل في صفوف القوات الشرعية باللواء 35 مدرع الواقع غربي تعز.
ثمانية أعيرة نارية اخترقت جسد الشاب اليافع وفي مناطق متفرقة، بدأ عقبها رحلة المعاناة المستمرة حتى اليوم. يقول خالد "وصلت الروضة (وسط تعز) يومذاك، وتم تحويلي إلى هيئة مستشفى الثورة (وسط) نتيجة لعدم وجود طبيب مختص بالشرايين".
خضع للعملية الجراحية لكنه عانى وبشكل كبير عقبها من ألم غير محتمل في اصبع قدمه الكبير، ليكتشف والده -الذي يجيد التحدث باللغة الإنجليزية- أثناء حديث الأطباء، أنهم قاموا بعملية خاطئة له، وخضع عقبها لست عمليات أخرى زادت الطين بلة، ليخبروه بعد ذلك أنه بحاجة للسفر إلى خارج البلاد خلال ثلاثة أيام، أو أنهم سيقومون ببتر ساقه.
ويقول خالد "قاموا بتخويفي ببتر الساق مثلما يفعلون مع كل الجرحى، وليُفرغوا مكانا آخر لجريح يكون ضحيتهم ليستفيدوا منه".
بعد وصوله إلى حالة اليأس، دخل خالد عقبها في سباق مع الزمن حتى لا يخضع لعملية بتر الساق، وتواصل مع المستشفيات بدولة الهند وأخبروه أنه لن يكون بحاجة لذلك، لكنه لم يكن قادرا على دفع تكاليف السفر، وقام أصدقاؤه بمساعدته بتجميع مبلغ من المال استطاع من خلاله الوصول إلى جمهورية مصر العربية، ليستكمل علاجه هناك، ولاقى تحسنا ملحوظا.
قبل أن يصل إلى مصر حاول سهيل -كما أخبرنا- أن يحصل على فرصة للعلاج في عدن، فطالبوه بإعطائهم أوراقا تثبت أنه من جرحى القوات الشرعية، لكن ذلك لم يكن شفيعا له، واضطر إلى أن يخضع للعلاج على حسابه الشخصي، بعد أن قالوا له إن مركز الملك سلمان توقف عن دعم مستشفى صابر بالعاصمة المؤقتة.
كذلك انتقل إلى صنعاء ليخضع للعلاج على حسابه الشخصي، لكن "وعدوني أن أسافر إلى تركيا مع بعض الجرحى، وكان اسمي ضمن القائمة، وقبل السفر كان هناك كشوفات أخرى اسمي لم يكن بينها، وتسبب كل ذلك التأخير بالتهاب شديد عانى منه ساقي"، يؤكد خالد.
مستشفى الصفوة أيضا اضطر خالد لدخوله من أجل الخضوع لعملية جراحية، لكن لم يقبلوه بحجة أنه غير مسجل لديهم، وأن زملاءه سيصابون بالعدوى نتيجة لتعرض ساقه للقيح، وبعد جهود حثيثة استطاع أن يدون اسمه لديهم، لكنهم أخبروه أن الحل الوحيد هو البتر لساقه، ولم يتم توفير له أي رعاية برغم أنهم قد قبضوا ثمن علاجه مقدما من مركز الملك سلمان.
يقف "خالد" مشدوها وهو يتذكر كلمات الأطباء الذين يختارون البتر للتخلص من المشكلة، ويضيعون بذلك مستقبل شاب ما يزال ينتظر الحياة أن تبتسم له ليعيشها كما ينبغي، بالإضافة إلى دخوله لمرتين غرفة العلميات من أجل الخضوع لتلك العملية ثم توقفه.
في المقابل يتذكر خالد أخصائي أمراض وجراحة العظام والحوض والمفاصل مختار المليك الذي رفض وبشدة أن يقوم بإجراء عملية البتر لأنه لا يحتاج لذلك، "ساعدني الدكتور وأجرى لي عمليتين بمستشفى آخر، بعد أن رفض الصفوة استدعائه، برغم عدم وجود طبيب قادر على مساعدتي"، يضيف خالد.
وتبين لـ"الموقع بوست" بعد التقصي أن المستشفيات ترفض استدعاء عاملين من خارج مؤسساتهم، لأنهم يتعاملون مع أطباء محددين، يحصلون منهم على نسبة من المال مقابل ذلك، ليتحول الأمر من مربع الإنسانية إلى الابتزاز والمُتاجرة.
ويتم كذلك اختيار الأطباء الذين سيعملون في المستشفيات المدعومة، من قِبل مندوب مركز الملك سلمان، أو الجهات الأخرى التي تقوم بتقديم الدعم للجهات الطبية بتعز، ويتقاسم الكعكة كل أولئك على حساب المرضى الذين تتدهور حالة البعض منهم بشكل كبير.
معالجات
ويؤكد رواية خالد الدكتور مختار المليك، الذي قمنا بالتواصل معه، وبيَّن أن حالة الجريح لم تكن بحاجة إلى بتر ساق، وإنما إلى عمليات عديدة منها إزالة العظم المتضرر، وتثبيت مفصل، وتطويل.
وكان الطبيب المذكور قادرا على إجراء تلك العمليات التي خضع لها عقب ذلك الجريح خالد في مصر، لكنهم رفضوا استدعائه.
وذكر المليك لـ"الموقع بوست" أن بعض المستشفيات تخلت عن دورها الإنساني، واتجهت إلى المُتاجرة بالجرحى، مشوهين بذلك أسمى المهن.
وللتقليل من نسبة الفساد في المستشفيات التي تحصل على دعم خارجي لمعالجة الجرحى، رأى المليك أن وجود أكثر من مشرف على ذلك هو الحل، وليس طبيب بعينه.
وتمنى أن يكون هناك لجنة موحدة تعمل على تنسيق جهود كل المراكز المدعومة، لتقوم بعمل تكاملي، وأن لا يتم تقرير مصير أي جريح عن طريق طبيب واحد، بل فريق طبي قد يستطيع معالجة ما لم يتمكن الآخر من القيام به.
واشتكى عديد من المرضى الذين تحدثوا لـ"الموقع بوست" من تهرب بعض الأطباء من القيام بمسؤولياتهم في المستشفيات المدعومة، واللجوء إلى تقارير السفر خارج البلاد بدعوى أنها حالات صعبة، أو رفض استدعاء بعض المختصين فيضطر الجريح للعلاج على حسابه الشخصي، في حين يتقدم البتر أول كل الحلول وأسهلها بالنسبة لهم.
وحول ذلك طالب المليك بضرورة أن يقرر حالة المريض الذي هو بحاجة للسفر إلى الخارج مجموعة من الأطباء، ولا يتفرد بذلك شخص فقط، لافتا إلى وجود كثير من الحالات التي يمكن علاجها داخل اليمن عن طريق كوادر مؤهلة.
حلول أخرى
وأدى غياب الرقابة والضمير لدى بعض الأطباء والمسؤولين الذين يتم عن طريقهم متابعة الدعم الخارجي للمستشفيات في داخل اليمن وتحديدا تعز، إلى بروز مثل هذه المشكلات.
واقترح الجرحى -الذين تواصل معهم "الموقع بوست"- لعدم تكرار مثل تلك الأمور، أن تقوم الجهات المانحة بدور رقابي، للحد من الفساد الذي تمارسه عديد من المستشفيات، وكذا اختيار الكوادر دون تعريضهم للابتزاز، واعتماد فريق طبي كبير.
بالإضافة إلى ذلك، اقترحوا إنشاء صندوق شكاوى مخصص للمرضى يتم ربطه بالجهات الداعمة مباشرة، أو تفعيل أرقام يستطيع الجريح التواصل معهم.
وطالبوا بتقييم أداء تلك المستشفيات من قِبل فريق نزيه، ليتم استثمار المبالغ التي تقدمها الجهات الداعمة المختلفة بطريقة سليمة يستفيد منها الجريح كما ينبغي، لافتين إلى حاجة مئات الجرحى إلى تلقي رعاية طبية جيدة في بيئة نزيهة.
إهمال ومعاناة
لم تنتهِ القصة هنا، فالجريح مُجلي علي سعيد الذي أصيب في الرابع من أبريل/نيسان 2017 في تلة المدرجات غربي تعز، ما يزال يعاني وبمرارة منذ ذلك الحين، وهو أسير اسم تم تقييده في حساب مستشفى الصفوة المدعوم من قبل مركز الملك سلمان، وحاجة جعلته غير قادر على الذهاب إلى طبيب جيد.
يشتكي سعيد -أثناء حديثه مع "الموقع بوست"- من تقصير كبير من قِبل الأطباء في مستشفى الصفوة، وعدم الاهتمام بهم في قسم الرقود، بالإضافة إلى عدم توفر كل الأدوية التي يحتاجها، ما يضطره إلى شراء بعضها على حسابه الشخصي من صيدليات خارجية، برغم أن تلك الجهة الطبية تتقاضى مبالغ مالية مقابل إمداد الجرحى بالعلاج.
يضطر سعيد، الذي أصيب بأربع طلقات نارية مباشرة ثلاث منها في القدم اليسرى، وأخرى باليمنى، إلى القيام بتطبيب نفسه في أحايين كثيرة، وبرغم حرصه إلا أن جرحه لم يتماثل للشفاء، ويبدو كما لو أنه أصيب بها منذ ساعات لا أشهر.
برغم عدم امتلاك مستشفى الصفوة لكادر متخصص في جراحة العظام، إلا أنه رفض استدعاء طبيب لديه الإمكانية لمساعدة سعيد، ولم يسمحوا له بالدخول، وخضع الشاب الذي يبحث عن النجاة لعمليات جراحية، لكن تم عمل المسامير في العظم بطريقة خاطئة، مما أدى إلى تضرره بشكل كبير. يقول سعيد بصوت تخنقه الغصة والألم "حجم تضرري من المستشفى أكبر من إصابتي التي تسبب بها الحوثي".
ويحتاج سعيد إلى عملية جراحية، حتى لا تعيقه الكسور التي يعاني منها عن السير، وتتسبب له بمضاعفات أخرى، سيعاني منها لسنوات أخرى قادمة.
"هذا هو واقعي، ولدي كل الأوراق التي تثبت صحة ما تعرضت له أنا وعديد من الجرحى، أتمنى أن يتم تخلصينا من هذا الأمر حتى لا يتعرض آخرون لمثل هذه المآسي"، هذا ما قاله وبوجع الشاب الثلاثيني سعيد.
وضع متردي وغياب الإنسانية
عقب اجتياح مليشيا الحوثي وصالح الانقلابية لتعز في مارس/آذار 2015، ونتيجة للشل العام الذي حدث في المدينة، توقفت أغلب المرافق العامة في المحافظة، وانقطع الدعم المالي عن مختلِف المستشفيات فيها، واضطرت حتى الخاصة منها أن تغلق أبوابها خاصة بعد انعدام المشتقات النفطية في المحافظة.
ظل عدد قليل من المستشفيات يعمل في ظروف صعبة للغاية، في الوقت الذي كانت المدينة بحاجة فيه لمرافق صحية كثيرة لتتمكن من استقبال عشرات الجرحى والقتلى الذين يُقتلون بنيران آلة الموت الانقلابية.
قامت عديد من الجهات الإنسانية من دول أخرى أبرزها المشاركة في التحالف العربي المساند للشرعية، بتقديم الدعم للمستشفيات لعلاج جرحى القوات الشرعية في محافظة تعز، وكان ذلك حبل أمل تعلق به المرضى بعد أن ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت.
لكن ما إن بدأت المتاجرة بدماء الجرحى من أبناء تعز، لم تعد المستشفيات حريصة على تقديم الخدمات الجيدة، وتعاملت بطريقة غير إنسانية، تستقبل الجرحى المصابين بإصابات طفيفة، لتقدم لهم خدمة طبية متواضعة، وتخرج بأكبر قدر من الفائدة من ورائهم، كما أكد لنا عديد من الأطباء الذين ما زالوا بضمير يقظ.
ويقدم مركز الملك سلمان حاليا الدعم لمستشفى الصفوة، والبريهي. قطر هي الأخرى قدمت الدعم لمستشفى الثورة، ثم تم سحبه إلى التعاون، وجميعهم يعملون بتلك الآلية، كما يؤكد الجرحى.
استمرار المأساة
وبرغم أن عددا كبيرا من تلك المستشفيات تقدم خدماتها الطبية للجرحى، لكن المعاناة ما تزال مستمرة، وهناك منافسة بين عديد منها بطريقة غير نزيهة.
وكما علمنا من الجرحى، فإن كثيرا منهم حين يتم محاصرتهم في خيار البتر، أو رفض استدعاء طبيب من خارج المستشفى، فكانوا يلجؤون إلى بيع ما يملكون لاستكمال علاجهم، أو يقوم بعض فاعلي الخير بمساعدتهم.
بينما اتجه البعض منهم إلى جهات إنسانية، ساعدت كثيرا من تلك الحالات بالعلاج في مستشفيات أخرى داخل تعز أو محافظات أخرى.
وحاول "الموقع بوست" التواصل مع إحدى الجهات الإنسانية المعروفة بتعز التي قدمت الدعم لعديد من الجرحى طوال الأشهر الماضية، إلا أنهم رفضوا التعليق على الأمر، مكتفين بالقول إن هناك معالجات تتم حاليا للتخلص من مثل هذه الإشكاليات.
(الشاب سهيل خالد بعد خضوعه للعلاج في مصر وتحسن حالته)
ويستمر بذلك الفساد في عديد من المستشفيات التي ينبغي أن تساعد الجرحى في المدينة التي تعاني من المعارك على مدار السنة، والقصف العشوائي الذي يستهدف الأبرياء.