[ شاركت 10 دول في عاصفة الحزم ]
أعادت عملية "عاصفة الحزم" صياغة المشهد السياسي في اليمن بشكل لافت، رغم الصدمات العنيفة والمتتالية التي شهدتها اليمن قبل ذلك، والمتمثلة في تأثير ثورات الربيع العربي، وتوقيع الرئيس المخلوع علي صالح على المبادرة الخليجية، ثم التأثير العكسي للثورات المضادة لثورات الربيع العربي.
كادت الصدمات التي تعرضت لها اليمن قبل عملية "عاصفة الحزم" أن تجعل المشهد السياسي في البلاد يستقر على وضع محدد، إلا أن انقلاب تحالف علي صالح والحوثيين ضد السلطة الشرعية، ثم عملية "عاصفة الحزم"، نَسَفَ كل ما كان في طور التشكل، وأعاد صياغة المشهد اليمني سياسيًا من جديد، وفقًا للمعطيات الجديدة.
ولعل اللافت في هذا الإطار، يتمثل في أن الأحداث والصدمات العنيفة والمتتابعة التي شهدتها اليمن منذ اندلاع ثورة 11 فبراير 2011 وحتى الوقت الحالي، كشفت هشاشة التحالفات السياسية في اليمن، وانتهازية بعض القوى والشخصيات السياسية، لدرجة أن بعضها وضع رجلًا في الانقلاب، وأخرى مع السلطة الشرعية، والبعض سعى لتشكيل ما أطلق عليه "الطريق الثالث".
ما قبل الصدمة الأولى
كان المشهد السياسي في اليمن، قبيل اندلاع ثورة 11 فبراير 2011، يتمثل في التالي: حزب المؤتمر يسيطر على كل مفاصل الدولة، ويمتلك الجيش والمال العام والإعلام العام، وأحزاب المعارضة الرئيسية (اللقاء المشترك) تحرك جماهيرها في مظاهرات صاخبة للمطالبة بتحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية، وكان الحراك الجنوبي المنادي بالانفصال قادرًا على حشد جماهير كثيرة رغم الخلافات بين فصائله، وكانت جماعة الحوثي عبارة عن أقلية مسلحة مرابطة في كهوف وجبال صعدة.
وبعد اندلاع الثورة، بدأ نظام علي صالح يتفتت ويتآكل من داخله، فكثير من قيادات وجماهير الحزب انضمت للثورة، وعدد كبير من ألوية الجيش أعلنت انشقاقها عن النظام والتحقت بالثورة، وظهرت خلافات طفيفة بين بعض قوى الثورة بشكل لم يؤثر على وحدة الصف والهدف المشترك.
إلا أنه بعد توقيع علي صالح على المبادرة الخليجية، وتسليم السلطة لنائبه عبد ربه منصور هادي، ثمّ الاستفتاء الشعبي على تولي الرئيس هادي السلطة، والذي أُطلق عليه "انتخابات"، والبدء في المرحلة الانتقالية، ثم الانقلاب العسكري في مصر ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي، وتداعيات الثورات المضادة لثورات الربيع العربي، والهجمة الإعلامية الشرسة ضد الأحزاب السياسية الإسلامية التي كان لها دورًا فاعلًا في ثورات الربيع العربي، كل ذلك أثّر على المشهد السياسي في اليمن، وبدأت تظهر اصطفافات ومواقف وتحالفات جديدة بحسب المستجدات الطارئة خلال تلك الفترة.
وكان لظهور جماعة الحوثي على مسرح الأحداث بشكل بارز، بسبب الدعم العسكري اللا محدود الذي قدمه لها علي صالح، ليتخذ منها ستارًا لتأزيم الوضع ثم الانقلاب ضد السلطة الشرعية، وتنامي الحملة الإعلامية ضد الأحزاب الإسلامية، كل ذلك جعل أكثر أحزاب اللقاء المشترك تنحاز للحوثيين، بعضها لأسباب مذهبية وسلالية وعنصرية، وبعضها لأسباب أيديولوجية تتعلق باختلافها مع حزب الإصلاح، حتى إن بعض المراقبين فسّروا الأمر على أنه تحالفًا بين مختلف الأطراف في اليمن، وبدعم وتمويل إقليمي ودولي، من أجل القضاء التام على حزب الإصلاح وعلى حلفائه القبليين والعسكريين، ضمن حملة إقليمية ودولية تستهدف الأحزاب السياسية الإسلامية في العالم العربي بشكل عام، بسبب تزايد شعبيتها وصعودها الكبير بعد ثورات الربيع العربي، وبدا حزب الإصلاح وحيدًا في المشهد، بعد أن تخلى عنه حلفاؤه في تكتل اللقاء المشترك.
ثمّ كان لدخول إيران على خط الأزمة، واستفزازها لدول الخليج، والادعاء أن صنعاء رابع عاصمة عربية تسقط بيد النفوذ الإيراني، بالإضافة إلى استفزاز الحوثيين للسعودية من خلال الهجوم الإعلامي، والتهديد باحتلالها، وإجراء مناورة عسكرية بالقرب من حدودها مع اليمن، بمشاركة وحدات من قوات ما يُعرف بـ"الحرس الجمهوري"، ثم انقلابهم ضد السلطة الشرعية بالتحالف مع علي صالح، بعد كل ذلك، بدا وكأن اليمن ستستقر على ذلك الحال، وسيعود النظام السابق بأبشع صوره، وإذا بعملية "عاصفة الحزم"، التي بدأت يوم 26 مارس 2015، تقلب الطاولة على الجميع، وتعيد صياغة التحالفات السياسية يمنيًا وإقليميًا.
تحالفات هشة ومشوهة
في البداية، لا بد من الاعتراف أنه عشية السيطرة المفترضة لجماعة الحوثيين المسلحة على العاصمة صنعاء جعلت عددًا من الأحزاب والسياسيين وعددًا من كبار المسؤولين في الدولة يحاولون التقرب منها، بل فالبعض مدّ يده للتحالف معها من وراء ستار، وبدأ علي صالح ينتقم من خصومه السياسيين باسم الحوثيين، وعاشت جماعة الحوثيين خلال أيام قليلة حالة من النشوة والغرور، وبدأت تتحرك عسكريًا للسيطرة التدريجية على مختلف المحافظات، واستهدفت قيادات حزب الإصلاح، ومنشآت الحزب، وممتلكات بعض التجار المحسوبين عليه، وتنهب السلاح من المعسكرات، وواصلت تقدمها العسكري، بالتحالف مع قوات الجيش والأمن الموالية لعلي صالح، حتى وصلت إلى مشارف مدينة عدن، واتخذت عدة إجراءات سياسية مرافقة لذلك، مثل ما أسمته "الإعلان الدستوري"، وتشكيل ما أسمتها "لجنة ثورية عليا" لإدارة البلاد، وحل مجلس النواب، وغير ذلك.
وفجأةً، أعلنت السعودية عن عملية "عاصفة الحزم"، التي ضمت تحالفًا من عشر دول عربية، استجابة لطلب الرئيس هادي من السعودية بالتدخل العسكري وإعادة السلطة الشرعية والقضاء على الانقلاب، وكانت تلك اللحظة -أي التدخل العسكري العربي- أكبر لحظة مؤثرة وفاصلة في تاريخ اليمن المعاصر، بل وفي تاريخ العرب المعاصر بشكل عام، ذلك لأنها أعادت تصحيح الوضع السياسي والعسكري في اليمن بعد تراكمات سلبية استمرت أكثر من 30 عامًا، وأعادت صياغة العلاقات العربية - العربية، حيث شكلت أول تحالف عربي من نوعه في تاريخ العرب المعاصر موجهًا ضد عدو مشترك للعرب، وهي إيران ومشروعها التوسعي، قبل أن يكون موجهًا ضد الانقلابيين في اليمن.
بعد البدء بعملية "عاصفة الحزم" مباشرة، مارس الانقلابيون ضغوطًا على حزب الإصلاح بإصدار بيان يدين فيه العملية، وقدموا عرضًا بإطلاق سراح معتقلي الحزب في سجونهم مقابل إدانة التدخل العسكري، لأنهم يدركون ما الذي يعنيه تأييد الحزب للتدخل العسكري، وكانت بقية الأحزاب والشخصيات السياسية مترددة في مواقفها، وظلت على صمتها، وانتظر الجميع إعلان حزب الإصلاح لموقفه الرسمي من عملية "عاصفة الحزم"، وعندما أعلن الحزب موقفه المؤيد للعملية، كونها جاءت بطلب من السلطة الشرعية للقضاء على الانقلاب، أقدمت أحزاب أخرى على تأييد العملية، كما أن بعض قيادات حزب المؤتمر التي كانت موالية لعلي صالح أعلنت انشقاقها عنه وتأييدها لعملية "عاصفة الحزم".
ونتيجة لكل ما سبق ذكره، تبدو التحالفات السياسية في اليمن بعد عملية "عاصفة الحزم" هشة ومشوهة وغير مستقرة، وذلك بسبب تعرضها لصدمات عنيفة ومتتالية منذ ثورة 11 فبراير 2011، ثم التأثير العكسي للثورات المضادة لثورات الربيع العربي، انتهاء بعملية "عاصفة الحزم"، التي شكلت الصدمة الأعنف.
التأثير الكبير
وفيما يلي توضيح للحالة التي باتت عليها التحالفات السياسية في اليمن بعد عملية "عاصفة الحزم" نتيجة تأثيرها عليها:
- كان أكثر حزب تأثر على مستوى بنيانه الداخلي هو حزب المؤتمر، فإذا كان بعض قادة الحزب قد انشقوا عنه وأعلنوا انضمامهم لثورة 11 فبراير 2011، فإنه بعد "عاصفة الحزم" انشق ما تبقى منهم إلى جناحين، أحدهما موالٍ للرئيس عبد ربه هادي باعتباره ممثل السلطة الشرعية، والآخر موالٍ للرئيس المخلوع علي صالح. ويمكن القول إن المؤتمر كحزب سياسي فهو يقف بجانب الرئيس هادي، وإن من تبقى بجانب علي صالح فهم إما من فئة المنتفعين منه أو ممن تربطهم به عصبية قبلية أو مذهبية أو مناطقية، كما أن علي صالح لا يستمد قوته من حزب المؤتمر، رغم اتخاذه له كمظلة سياسية، وإنما يستمدها من القوات العسكرية الموالية له، والتعصب المناطقي والمذهبي والقبلي لبعض القبائل في محافظات شمال الشمال الموالية له.
- دفعت عملية "عاصفة الحزم" علي صالح والحوثيين إلى تقوية تحالفهم العسكري من أجل مواجهة ما يسمونه "العدوان"، وأيضًا في حربهم ضد السلطة الشرعية. وبما أن هذا التحالف فرضته الضرورة، فقد ظهرت الخلافات سريعًا بين طرفيه، ولذلك فهو مهدد بالزوال بعد انتهاء مسبباته، ويمكن وصف العلاقة بين علي صالح والحوثيين بأنها "تحالف عسكري مؤقت وخلاف سياسي دائم"، وقد يستمر التحالف العسكري بينهما ويتعزز التحالف السياسي في حالة واحدة سنذكرها لاحقًا.
- بخصوص أحزاب اللقاء المشترك، فالتحالف بينها تعرض لأول صدمة بعد الانقلاب العسكري في مصر، حيث حاولت بعض الأحزاب استنساخ تشوهات المشهد السياسي في مصر وتطبيقها في الحالة اليمنية، مستندة إلى الخلاف الأيديولوجي، رغم الاختلاف الكبير في الحالة السياسية بين البلدين، ومنذ ذلك الحين بدأت حالة عدم الثقة في العلاقة بين أحزاب اللقاء المشترك، ثم تعززت هذه الحالة أكثر بعد السيطرة المفترضة لجماعة الحوثيين على العاصمة صنعاء، وتأييد الأحزاب السلالية والطائفية للانقلاب بشكل واضح، ثم اندماجها في جماعة الحوثيين. ورغم أن بقية الأحزاب (الإصلاح والاشتراكي والناصري) أيدت عملية "عاصفة الحزم" رسميًا، وأسهم ذلك في تقاربهما بشكل نسبي مجددًا، إلا أن بعض قيادات الحزب الاشتراكي والتنظيم الناصري أيدت الانقلاب، والثقة بين الحزبين المذكورين وحزب الإصلاح لم تعد كما كانت.
- بخصوص الحراك الجنوبي، فقدْ فَقَدَ زخمه بعد اندلاع ثورة 2011، بسبب سباحته عكس التيار، ذلك أنه في الوقت الذي كان يطالب فيه الحراك بعودة دولة سابقة ورئيس سابق، إذا بثورات الربيع العربي تطالب برحيل رؤساء حاليين وبناء دول مدنية حديثة تنطلق بشعوبها نحو المستقبل.
ورغم محاولات الحراك استعادة تعافيه أثناء المرحلة الانتقالية وما اكتنفها من أزمات، إلا أنه فقدَ زخمه مرة أخرى بعد عملية "عاصفة الحزم"، وذلك لعدة أسباب، أهمها، ضعف فصائله واختلافها المزمن فيما بينها، واجترارها لصراعات واصطفافات الماضي في دولة الجنوب قبل الوحدة، كما أن الانفصال لا يحظى بأي تأييد إقليمي، خاصة بسبب التأثير السلبي لعلاقة إيران ببعض قيادات وفصائل الحراك، كما أن بعض قيادات الحراك الفاعلة تم تخديرها بمناصب سياسية وعسكرية ضمن السلطة الشرعية ودولة الوحدة.
ورغم أن الجنوب أصبح شبه منفصل من الناحية العملية، إلا أن الحراك الجنوبي غير قادر على إعلان الانفصال بشكل رسمي، للأسباب السابق ذكرها، كما أن اللعبة أصبحت أكبر من حجم وقدرات قيادات وفصائل الحراك.
نظرة استشرافية
ختامًا، من الصعب التكهن -بشكل دقيق- بالكيفية التي ستكون عليها التحالفات السياسية في اليمن بعد توقف الحرب، لكن هناك مؤشرات أولية تنذر بمرحلة قد لا تخلو من مفخخات وألغام سياسية وعسكرية، ما لم يتم التنبه لها من الآن، ويمكن إيجاز ذلك كما يلي:
- في حال القضاء على الانقلاب سيبقى الرئيس هادي على رأس حزب المؤتمر، وربما يترشح للانتخابات الرئاسية باسمه، خاصة وأنه لا يوجد ما يمنعه قانونيًا من ذلك.
وفي حال تم التوصل إلى حل سياسي، سيتشبث علي صالح وحلفاؤه بمسمى "حزب المؤتمر"، وسيدفع ذلك الرئيس هادي وحلفاءه المنشقين عن علي صالح إلى تأسيس حزب جديد، وسيستوعب هذا الحزب معظم الشخصيات السياسية المؤيدة للسلطة الشرعية حاليًا، وبعض قيادات الحراك الجنوبي، وربما يتحالف مع حزب الإصلاح والأحزاب السلفية.
- في حال شكّل الرئيس هادي حزبًا جديدًا، أو شكله جناح حزب المؤتمر المؤيد له، فإن ذلك سيدفع الحوثيين وأتباع علي صالح إلى تعزيز تحالفهم السياسي إلى جانب استمرار تحالفهم العسكري، وسيشكل الحوثيون حزبا جديدًا كواجهة سياسية لجماعتهم، وربما يؤدي ظهور مثل هكذا تحالفات سياسية إلى أزمات سياسية معقدة، ما يعني أن القضاء على الانقلاب ضرورة وطنية عظمى، لأن منح الانقلابيين فرصة للعمل السياسي بدون أن تكون هناك دولة مؤسسات قوية وجيش وطني قوي ومحايد، معناه ترحيل الجزء الأخير من الأزمة الحالية إلى سنوات قادمة.
- يبدو من الصعب أن يتحالف حزبا الاشتراكي والناصري مع حزب الإصلاح، وإن تم التحالف تحت أي مسمى سيكون هشًا وتنقصه الثقة بين أطرافه، والأكثر احتمالًا أن يتحالف حزبا الاشتراكي والناصري مع بعضهما بعيدًا عن حزب الإصلاح، وربما تتحالف معهما أحزاب جديدة من المتوقع أن يتم تأسيسها في مرحلة ما بعد الحرب.
- ومن المحتمل أنه في حال التوصل إلى حل سياسي، أن تتشكل خريطة التحالفات السياسية وفقًا للتحالفات القائمة حاليًا، أي تحالف يضم السلطة الشرعية وكل الأطراف المتحالفة معها ضد الانقلاب، وآخر يضم تحالف الانقلابيين (علي صالح والحوثيين)، وهذا أيضًا سيشكل خطورة على مستقبل البلاد، لأن كل طرف سيستخدم اللغة والاتهامات السائدة حاليًا بسبب الحرب، وقد يؤدي ذلك إلى انفجار الوضع مجددًا، وهو ما يعني -مرة أخرى- أن القضاء على الانقلاب هو الحل الوحيد لضمان استقرار البلاد حاضرًا ومستقبلًا.