ما إن تقرر الوقوف أمام جامعة تعز الحكومية وسط اليمن، حتى ترى الحياة من جديد تدب فيها ، بعد أن أغلقت أبوابها في منتصف أبريل/نيسان 2015، نتيجة اشتداد الحرب في المحافظة الأكثر سكانا في البلاد، وتحولها إلى مجرد ثكنة عسكرية، استوطنتها مليشيا الحوثي وصالح الانقلابية، حتى تم تحريرها من قبل القوات الشرعية، واستئناف العملية التعليمية منتصف يوليو/تموز الماضي.
هناك على عتبات الجامعة، تبدو الرغبة كبيرة في أعين الطلاب والأساتذة، في تجاوز كل المعوقات التي خلفتها الحرب، والمضي نحو استكمال الدراسة، على الرغم من آثار الحرب التي ما تزال شاهدة على معركة الخلاص التي شهدتها الجامعة.
إرادة
قرر الكادر التعليمي في هذه الجامعة الكبرى، تحدي كل الصعوبات التي تواجه تعز برمتها، جراء الحرب المستمرة والدمار الذي لحق بالمدينة، وأصروا على مواصلة مسيرة التعليم في المحافظة التي توصف بالحالمة ، والتي تعد أيضا بمثابة العاصمة الثقافية لليمن.
كان عميد كلية التربية بتعز، الدكتور حلمي الشيباني، شاهدا على أولى أيام تحرير الجامعة التي كان خلاصها في مارس/آذار 2016، ويتذكر تلك اللحظات التي زار فيها ما يمكن أن يوصف بـ"بيت الأكاديمي"، ويقول" وجدنا الجامعة غابة مهجورة موحشة، أبوابها مفتوحة، ونوافذها محطمة، بعد أن كانت تعج بالحياة والطلاب لسنوات".
ويضيف في حديثه لـ(الموقع بوست)، قمنا بعمل تقرير رصدنا فيه الوضع في الكلية، وكان أكثر ما يهمنا هو نتائج الطلاب، التي لم تتضرر، أما الأجهزة التي حصلنا عليها كمنحة من السعودية، فتم نهب بعضها فقط.
ويتابع الشيباني بالقول: "عمل الجميع دون أي مقابل مادي، إذ لا ميزانية للجامعة.. بالكاد حصلنا على مبلغ بسيط تم توفيره من رسوم تسجيل الطلاب، كنفقات تشغيلية ضرورية".
وتطرق عميد كلية التربية بجامعة تعز إلى محاولاتهم الحصول على دعم من منظمات وفاعلي خير، لتنظيف الكلية، وتأمينها، بإغلاق بعض النوافذ المحطمة، وأبواب المعامل، وتم عقبها إجراء الاختبارات النهائية للطلاب للعام الدراسي 2014/2015، في أكثر من مركز.
وعن مأساة الألغام التي زرعت في الجامعة، يفيد الأكاديمي الشيباني أن مباغتة الجيش الوطني للحوثيين، هي وراء عدم تفخيخهم لها بالكامل بالألغام، لافتا إلى أن زراعة الانقلابيين للألغام الأرضية، اقتصر على الجهة الغربية فقط، مؤكدا أن فريقا متخصصا في نزع الألغام، قام بمسح الجامعة مرتين، وطهروا الجهة الجنوبية، فيما خلت باقي الجهات منها.
وإضافة إلى ذلك فقد تجاوز أكاديميو الجامعة كثير من المعوقات، كصعوبة التواصل سواء في مواقع التواصل الاجتماعي، أو بسبب نزوح الطلاب والأساتذة، لكن يبقى الجانب المادي أكبر الصعوبات التي يحاولون التغلب عليه ، كونهم لم يتسلموا مرتباتهم منذ أشهر ، حتى أن أكثرهم يقررون اقتراض أجرة وسائل المواصلات، ليتمكنوا من الحضور، فضلا عن عدم تواجد كافة الموظفين والمُدرسين، حسبما أفاد "الموقع بوست" عدد من الأكادييمن في الجامعة.
مخاوف
قرار استمرار العملية التعليمية في جامعة تعز، جاء رغم المخاوف التي تم التغلب عليها من قبل الموظفين والأكاديميين، كخشية انفجار الألغام المزروعة.
وعلى هذا الصعيد تقول نائب عميد كلية التربية لشئوون الجودة، سميرة جبارة لـ(الموقع بوست) إنها والكثير من الأساتذة في الجامعة والموظفين كانوا يشعرون بالخوف من الألغام، والعودة للجامعة في ظل الحرب.
لكن تلك المخاوف تبددت بعد أو وطأت قدميها الجامعة وأحست بالانتماء والألفة، إلى المكان الذي سبق أن درَّست فيه لسنوات طويلة، هكذا أردفت جبارة في سياق حديثها.
وقد كانت الرغبة بعودة الحياة في الجامعة على ما كانت عليه، هي دافع "جبارة" والطلاب وأكاديميو جامعة تعز, لتحدي الواقع الصعب ومواصلة التعليم، وكان لفتح منفذ الدحي غرب تعز، الأثر الأكبر، وأتاح لكثير من الطلاب التوافد إلى الجامعة من مختلف أماكن النزوح.
تجيب" جبارة" على كثير من تساؤلاتنا عن سر تلك الإرادة، بالقول،" نسمع طوال الليل الانفجارات، لكن في الصباح نتوجه إلى الجامعة.. هناك نجد الطلاب يرغبون كثيرا في مواصلة تعليمهم ، وهو أكبر دافع لنا للاستمرار، ومساعدتهم للمضي نحو المستقبل الذي يسعون إليه".
أمل وألم
ما كان لمئات الطلاب أن يتخرجوا ويحصلوا على شهاداتهم ، لينطلقوا في حياتهم العملية، لولا عودة الحياة إلى الجامعة، بعد توقف دام أكثر من عام؛ لكن بالمقابل هناك وجه آخر لمعاناتهم، فـ"تأليف عبدالله"، إحدى طالبات كلية التربية، واحدة من أكثر من خمسة آلاف طالب في الجامعة، الذين يعانون ظروفا قاسية بسبب الحرب، كون أكثر من 20 مليون يمني باتوا بحاجة لمساعدات إنسانية، وفق تقديرات للأمم المتحدة.
تروي "تأليف" بنبرة حزينة، تتوشح بالقلق، قصة معاناتها، وتحاول الخروج منها بأقل الخسائر، وتقول" واجهت صعوبة كبيرة مع والدي، حين أخبرته برغبتي في اختبار ما تبقى عليَّ من مواد، لأكمل سنة ثانية، وكان شديدا ولم يوافق، لكن بعد محاولات كثيرة، أخبرني أنه لن يكون قادرا على توفير احتياجاتي بعد تدهور الأوضاع الاقتصادية، وأن عليَّ تأدية اختبار الفصل الثاني فقط، والتوقف عن الدراسة".
تتوقف لبرهة، وتتطلع في الفراغ، تحاول أن تلتمس بصيص أمل، وتتابع لـ(الموقع بوست) بكثير من الوجع، أعيش الآن في منزل عمي، ريثما أكمل الاختبارات، وأشعر بحرج كبير فأنا أشكل عبئا عليهم، في مثل هذه الظروف التي بات الكثير من الناس لا يجدون ما يأكلون فيها.
وتشير إلى خجلها حين تشترط على سائق الباص، الذي تعطيه خمسين ريالا فقط بدلا من مائة، لكنها تؤكد" هذا ما يجب عليَّ أن أفعله، لأكون قادرة على دفع المبلغ ذاته يوم غد أيضا".
تحدي
يشاطر "تأليف" الألم أيضا، الطالب عبدالسلام قاسم، الذي يدرس في كلية التربية قسم الفيزياء، وهو على وشك التخرج، بعد أدائه لاختبارات الفصل الأخير.
ويقول: "نواجه نحن الطلاب القادمون من الريف، مشاكل كثيرة بسبب قطع الطرق، وغلاء المعيشة، وتدهور الوضع الاقتصادي، ومشكلة السكن".
ويضيف في حديث لـ(الموقع بوست): "من أجل أن أكمل دراستي وأحصل على شهادتي، لم أنظر إلى كل تلك الصعوبات على الرغم من مرارتها وقسوتها، حتى أني تخليت عن أكل ثلاث وجبات في اليوم، وأصبحت آكل وجبة واحدة فقط.