يبدو الوضع في جنوب اليمن محيراً للغاية بالنسبة للسياسيين والإعلاميين، بل ويبدو محيراً حتى للجنوبيين أنفسهم، وذلك على خلفية تعقيدات المشهد السياسي الذي أفرزته الحرب الأهلية وتدخل دول التحالف العربي إلى جانب السلطة الشرعية ضد الانقلابيين (تحالف المخلوع صالح والحوثيين)، حيث أفرز كل ذلك تناقضات مثيرة، تعكس متاهة التحول السياسي الذي يشهده جنوب الوطن، وتثير علامات الاستفهام حول الجنوب الجديد الذي يتشكل، وكيف سيكون مستقبلاً.
استمرار التدهور الأمني
تعد مشكلة التدهور الأمني أبرز مشكلة تعاني منها بعض مدن الجنوب، خاصة العاصمة المؤقتة عدن، وقد سببت هذه المعضلة للسلطة الشرعية حرجاً كبيراً في الداخل والخارج، وأرغمتها على عدم الاستقرار في العاصمة المؤقتة عدن، أو غيرها من المدن المحررة، وأجبرتها على ممارسة أعمالها من خارج البلاد. واللافت أن هذه الظاهرة مازالت مستمرة، رغم تشكيل قوات أمنية جديدة وتدريبها وتسليحها، وتواجد نوعي لقوات التحالف العربي، لكن يبدو أن هناك تقصيراً في العمل الاستخباراتي، الذي يعد أحد وأهم أعمدة ترسيخ الأمن والاستقرار.
برزت معضلة التدهور الأمني بعد تحرير مدينة عدن فوراً، وراح ضحيتها عدداً كبيراً من المدنيين والمجندين وبعض كبار المسؤولين في المحافظة، من بينهم محافظ المحافظة السابق، جعفر محمد سعد، ومدير إدارة المرور السابق، العقيد مروان أبو شوقي، ونجا المحافظ الجديد، عيدروس الزبيدي، ومعه مدير أمن المحافظة، شلال علي شايع، من محاولة اغتيال، يوم 16 فبراير الماضي، وأغتيل أيضاً بعض قادة المقاومة الشعبية، وعدد من العلماء والدعاة في عدن وحضرموت.
وتعكس حالة التدهور الأمني في عدن وغيرها هشاشة الوضع السائد في الجنوب بشكل عام، ففصائل الحراك وبعض الجماعات السلفية المسيطرة على الإدارات الحكومية تنقصها الخبرة والانسجام بين مكوناتها المختلفة، وهذا الوضع الهش يصب في مصلحة الجماعات الإرهابية، بعضها مرتبطة بالمخلوع صالح، وبعضها ذات منشأ محلي، كما أن هناك بعض الموالين للمخلوع صالح، والذين ينفذون خططه الرامية إلى زعزعة الأمن والاستقرار، بينهم مشائخ قبائل، وبعض الضباط، وبعض قيادات حزب المؤتمر المنتمية إلى الجنوب، وبعض الخلايا التي تمثل امتداداً لما كان يسمى "هيئات الدفاع عن الوحدة"، التي أنشأها ومولها المخلوع صالح بعد انطلاق الحراك الجنوبي الانفصالي عام 2007.
تلاشى الحراك الانفصالي
في الواقع، لقد نجح الرئيس هادي في تفكيك أهم المكونات الانفصالية، وذلك من خلال تعيين كبار قادة الانفصال في الوظائف والمناصب الحكومية المختلفة، ثم إدماج عناصر المقاومة الشعبية في قوات الجيش والأمن. لكن هناك العديد من العوامل الأخرى التي ساعدت الرئيس هادي في كبح مطالب الانفصال، أو محاولة فرض الانفصال والإعلان عنه رسمياً وإجبار الآخرين على التعامل معه كأمر واقع.
من العوامل التي ساعدت الرئيس هادي في تفكيك أهم الفصائل الانفصالية، غياب قيادة مركزية وموحدة لمختلف فصائل الحراك، وحالة الانقسام والخلافات حول الزعامة وشكل الدولة الجديدة بين مكونات الحراك المختلفة، كل ذلك جعل من مسألة إعلان الانفصال عملية معقدة للغاية.
على أن العامل الأهم في تلاشي مطالب الانفصال، أو كبح محاولات فرضه كأمر واقع، يعود إلى دور العامل الإقليمي الرافض للانفصال، وخاصة دول الخليج، التي تدعم بقاء الوحدة اليمنية بصيغة جديدة، قائمة على الأقاليم الفيدرالية، وفقاً لمخرجات الحوار الوطني، كون ذلك الحل الأمثل للحفاظ على الوحدة الوطنية، والتوزيع العادل للثروة والوظيفة العامة. يضاف إلى ذلك، توجس بعض فصائل الحراك من دور إيران الداعم للانفصال، وذلك بعد أن دعمت إيران الحوثيين وحليفهم المخلوع صالح في اقتحام بعض مدن الجنوب، ومحاولة السيطرة عليها بالقوة.
وتبدو فكرة الأقاليم الفيدرالية متناغمة مع توجهات قادة الانفصال وخلافاتهم، فالقادة في عدن ولحج والضالع (إقليم عدن) هم عناصر اشتراكية وضباط كبار في الجيش، فيما القادة في حضرموت وأبين وشبوة (معظم إقليم حضرموت) تجمعهم عوامل قبلية ودينية ومناطقية. ويلاحظ أن بعض الجماعات السلفية تؤيد مطالب الانفصال، ربما في محاولة منها لمغازلة الفصائل ذات الميول الاشتراكية، لتحافظ على وجودها وتأمن شرها في حال تحقق الانفصال، نظراً لحالة الشك المستندة إلى عوامل تاريخية، نتيجة حالة العداء التي كان يكنها النظام الاشتراكي قبل الوحدة تجاه الدعاة والدين الإسلامي بشكل عام.
متاهة الجنوب
إن ما يشهده الجنوب من خلافات وانقسامات تستند إلى عوامل مختلفة تعكس في مجملها أزمة المجتمع الجنوبي الذي تعرض لهزات اجتماعية وثقافية عنيفة منذ مرحلة الاحتلال البريطاني، أسهمت في تفتيته إلى كيانات صغيرة غير متجانسة ومتصارعة فيما بينها، فالاحتلال البريطاني قسم الجنوب إلى سلطنات ومشيخات على أسس مناطقية وقبائلية وزرع العداوات بينها. ثم ظهرت حركات قومية متأثرة بالمد القومي العربي ناضلت من أجل التحرير والاستقلال، ونددت بالموروثات التي خلفها الاحتلال البريطاني، وعملت على إزالتها، ومن بينها تقسيم البلاد إلى مشيخات وسلطنات متحالفة مع الاحتلال.
وبعد أن سيطر الحزب الاشتراكي على السلطة في عدن، أقدم على هدم البنى القبلية والاجتماعية المتماسكة في الجنوب، وشرد مشائخ القبائل خارج البلاد، ليحل محل ذلك التسلسل الهرمي للهيكل التنظيمي للحزب، وفرض نمط عيش جديداً على المواطن الجنوبي، جعله يشعر بالاغتراب، من أمثلة ذلك، أن التأميم طال كل شيء، حتى قوارب الصيد و(بسطات) بيع الخضار والفاكهة. ثم جاءت أحداث 13 يناير 1986، لتهدم البنية التنظيمية للحزب، وتعود الانتماءات القبلية بشكل مشوه.
وبعد تحقيق الوحدة عام 1990، انخرط الجنوبيون في الأحزاب المختلفة، التي تجاوزت موروثات مراحل الصراع السابقة. وبعد ظهور الحراك الانفصالي، عادت موروثات صراعات ما قبل الوحدة بين الجنوبيين أنفسهم، وبشكل أكثر تعقيداً.
ثم عادت الاصطفافات الأيديولوجية والسياسية والقبائلية بشكل مختلف بعد عملية "عاصفة الحزم"، ليدخل الجنوب مرحلة جديدة من الصراعات البينية، والتحالفات العابرة للدول، وينقسم بين فريق يطالب بالانفصال، وآخر يؤيد فكرة الأقاليم الفيدرالية، وفريق ثالث لا مع هذا الطرف أو ذاك، ويضم فئات ومكونات سياسية واجتماعية وأيديولوجية ودينية مختلفة، كلٌ منها لديها رؤيتها الخاصة حول مستقبل الجنوب ومصيره، سواء تحقق الانفصال أم لا، وسواء تحققت فكرة الأقاليم الفيدرالية أم لا، وهنا تكمن المتاهة التي تؤسس لجنوب جديد، مشدود نحو الماضي ليتزود منه بموروثاته السلبية في تطلعه نحو المستقبل.