[ الفرقاطة الروسية "مارشال شابوشنيكوف" تشارك في مناورات عسكرية سابقة (الفرنسية) ]
لطالما راود حلم الوصول إلى "المياه الدافئة" سادة الكرملين على تقلبات النظم السياسية التي حكمت روسيا، وفي عهد الرئيس فلاديمير بوتين تعمل موسكو لإعادة الإمساك، لأول مرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بهذا الطموح العابر للقرون.
وفي هذا السياق، أعلن السفير الروسي في إريتريا إيغور موزغو، أواخر مارس/آذار 2023، عقد مناورات بحرية تشارك فيها الفرقاطة الروسية "المارشال شابوشنيكوف" مع البحرية الإريترية، معيدا إلى الأضواء جهود بلاده المتواصلة خلال السنوات الماضية للحصول على موطئ قدم على شاطئ البحر الأحمر.
رحلة البحث عن قاعدة عسكرية
لا يمكن عزل التوجه الروسي عن الأهمية الفائقة التي اكتسبها الشريان المائي الضيق، ويلخصها تقرير أعدته لجنة من الكونغرس الأميركي بيّن أن القيمة الإستراتيجية لموقع النفوذ والتأثير اللذين يتراكمان لأي جهات خارجية قادرة على السيطرة على البحر الأحمر أو إدارته ستتصاعد في ضوء التطورات الجيواقتصادية الأوسع نطاقا، وفي ظل حقيقة أن "النفوذ التجاري، وكذلك السياسي والأمني، يتم التنازع عليه داخل المناطق التي يربطها البحر الأحمر، أي المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط".
كما تذهب بعض الدراسات إلى أن رغبة موسكو في الحصول على موطئ قدم على شاطئ البحر الأحمر تمثل مظهرا من مظاهر رؤية روسيا لنفسها كقوة دولية، حيث مثّل ضمُّها لشبه جزيرة القرم عام 2014 منعطفا في الانتقال خطوة إلى الأمام بسياستها الخارجية نحو إثبات حضورها كأحد اللاعبين الأساسيين على الساحة الدولية، تلا ذلك بعام تدخلها العسكري في سوريا الذي غيَّر مسار الحرب في البلاد، وأبرز قوة روسيا في الشرق الأوسط.
من جانب آخر، تتزايد حساسية هذا البحر بالنسبة لموسكو مع توجهها للانفتاح الكبير على الأسواق الآسيوية لتجاوز آثار العقوبات التي فرضتها المنظومة الغربية عليها بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، حيث يعد البحر الأحمر معبرا حيويا لصادراتها من الطاقة إذ شكل النفط الروسي 74% من حركة هذه المادة الحيوية المتجهة جنوبا عبر قناة السويس في النصف الأول من عام 2023 ارتفاعا من 30% عام 2021.
ومع تحول البحر الأحمر إلى ساحة للتنافس الدولي تموقعت في جنوبه الأفريقي قواعد لقوى مختلفة كالولايات المتحدة وفرنسا والصين واليابان، وهكذا دخلت روسيا هذا السباق متأخرة، حيث توجهت موسكو إلى صنعاء أولا، مع تصريح رئيس الاتحاد الروسي سيرغي ميرونوف أكتوبر/تشرين الأول 2008 أنه لا يستبعد ظهور قاعدة روسية في اليمن، مؤكدا المرحلية في تحقيق هذا الهدف.
غير أن الأحداث كانت أسرع من الصبر الروسي حيث اندلعت ثورة فبراير/شباط بعد قرابة عامين، وعصفت تداعياتها باليمن وبالحلم الروسي معه، فكانت جيبوتي المحطة التالية للقطار الروسي مع شروع الطرفين في محادثات لتمهيد الطريق لاستضافة البلد ذي الموقع الجيوسياسي الحساس لقاعدة موسكو العسكرية المنشودة على شاطئ البحر الأحمر في عامي 2012-2013.
ووفقا لصحيفة كوميرسانت الروسية، فإن مخططات موسكو تضمنت الوصول إلى الشاطئ وبناء رصيف بحري تابع للقاعدة، غير أن الغضب الأميركي من الاجتياح الروسي لأوكرانيا عام 2014 دفع الولايات المتحدة إلى تشديد الضغوط على جيبوتي للحيلولة دون إتمام هذه الصفقة، وهو ما أدى بالفعل إلى تقويضها في النهاية.
المغامرة الروسية في السودان
رغم ورود تقارير عن عرض، فلم يُكتب له النجاح، من جانب إقليم أرض الصومال الانفصالي لاستضافة قاعدة عسكرية روسية مقابل اعتراف الأخيرة به عام 2017، فإن مغامرة موسكو في السودان قاربت النجاح، حيث فاجأ الرئيس السوداني السابق عمر البشير مضيفه الروسي فلاديمير بوتين بعرضه مقترحا لاستضافة بلاده مركز دعم لوجستي روسيا على الشاطئ السوداني، في قمة جمعتهما بمنتجع سوتشي الروسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
علل البشير -حينها- هذا المقترح برغبته في حماية السودان من التصرفات "العدائية" الأميركية، وهو ما حوّل بلاده بالفعل إلى بؤرة تنافس حاد اشتعلت بعد رحيله، مع إصدار بوتين قرار الشروع في بناء مركز لوجستي روسي في ولاية البحر الأحمر السودانية، في ديسمبر/كانون الأول 2020، إثر إعلان توقيع اتفاقية مع الجانب السوداني.
وتذهب بعض الدراسات إلى أن الرغبة في إنشاء هذا المركز تأتي في سياق انتشار موسكو البحري وإنشاء سلسلة من نقاط الدعم لقواتها البحرية، بدءا من ميناء سيفاستوبول على البحر الأسود، مرورا بالقاعدة البحرية في طرطوس، وانتهاء بالمركز المخطط له في بورتسودان.
كما أن هذه القاعدة كانت ستوفر لروسيا مدخلا إلى المحيط الهندي الذي تزداد أهميته الإستراتيجية، وقد صنفته العقيدة البحرية الروسية عام 2015 بأنه منطقة تتمتع بالأولوية، بجانب تشكيلها منصة لجمع المعلومات الاستخباراتية لمراقبة أنشطة القوى المنافسة لموسكو في حوض البحر الأحمر والقرن الأفريقي وشبه الجزيرة العربية، كالقوات الأميركية أو الصينية أو الفرنسية.
هجمة أميركية مرتدة
هذه الحساسية التي تمثلها الخطوة الروسية لم تغب عن صانعي القرار في واشنطن، حيث كان لهذه القاعدة أن ترسخ الوجود الروسي في السودان بشقيه الاقتصادي والعسكري، والذي سيمثل مدخلا آخر لموسكو إلى القارة السمراء، وكذلك فإنه سيدعم السردية الروسية حول كونها شريكا أمنيا موثوقا بالنظر إلى تجاربها في منطقة الساحل على سبيل المثال.
وهكذا، وضعت القيادة العسكرية للجيش الأميركي في أفريقيا (أفريكوم) الحيلولة دون إكمال مشروع القاعدة الروسية في السودان ضمن أهم 4 أولويات على أجندتها وفق تصريح لقائدها عام 2021.
دخل مشروع القاعدة في متاهة من التصريحات التي أحاطت مستقبله بكثير من الغموض نتيجة لتكثيف واشنطن جهودها لتقويضه.
وكان أبرز هذه التصريحات إعلان رئيس الأركان السوداني محمد عثمان الحسين، في يونيو/حزيران 2021، شروع الخرطوم في مراجعة اتفاقية بناء القاعدة، وأن الاتفاقية إن لم تُعرض على المجلس التشريعي السوداني "فهي غير ملزمة"، قبل أن تهدد التطورات اللاحقة في بلاد النيلين الحلم الروسي ومستقبل السودان برمته.
إريتريا الأمل الأخير
بعد هذه الرحلة الطويلة من الإخفاق الروسي، يحمل الخيار الإريتري بعضا من الأمل للكرملين، إذ سبق لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن أعلن عام 2018 عن خطط لبناء مركز لوجستي عسكري في إريتريا، وهو ما أعيد إحياؤه مرة أخرى 2021 بتصريحات سفير أسمرا في موسكو بيتروس تسغاي التي أعلن فيها أن بلاده لا تعارض استضافة هذا المركز على أراضيها.
تلا ذلك في يناير/كانون الثاني 2023 توقيع اتفاق توأمة بين مدينة مصوع الإريترية وسيفاستوبول التي تضم مقر أسطول البحر الأسود الروسي في القرم، قبل أن تزور الفرقاطة الروسية "شابوشنيكوف" الميناء الإريتري ربيع 2024 لإجراء مناورات مع البحرية الإريترية.
مشتركة مع الميزات التي يوفرها السودان، تتمتع إريتريا بكون شاطئها شديد القرب من باب المندب ومن بداية الطريق إلى المحيط الهندي، كما أنها مجاورة لجيبوتي التي تعج بالقواعد الأجنبية، مما سيسهل العمل الاستخباراتي الروسي حول نشاط هذه الدول في المنطقة، بجانب القرب من منابع النفط في شبه الجزيرة العربية.
من جهة أخرى، فالنظام الحاكم في إريتريا قادر على تنفيذ أو فرض أي اتفاقية نتيجة غياب أي نوع من المعارضة السياسية أو قوى المجتمع المدني القادرة على مساءلة الحكومة حول هذا النوع من القرارات.
كما أن العلاقات بين موسكو وأسمرا تمتد عبر مروحة واسعة من القطاعات تبدأ من التعاون العسكري، ولا تنتهي بالسياسة الدولية والرؤية المشتركة لعالم جديد متعدد الأقطاب، والإيمان بوجود مؤامرة غربية تستهدف البلدين، وتستدعي تاريخا طويلا من العداء والمكائد، كما تجلى في خطاب الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في زيارته للعاصمة الروسية في مايو/أيار 2023.
محاذير وعوائق
غير أن الوصول إلى لحظة الاتفاق على إنشاء قاعدة عسكرية روسية على الشاطئ الإريتري يخضع لعديد من الاعتبارات من الطرفين، فمنح أسمرا موطئ قدم لروسيا في هذا الموقع الحساس يعني دخولها الكامل في الفلك المعادي لواشنطن، مع كل ما قد يترتب على ذلك من ردود فعل أميركية.
كما أن التجربة التاريخية أثبتت أن أسمرا تلجأ إلى خيار القواعد الأجنبية عند شعورها بالتهديد الشديد، حيث عرضت على واشنطن استضافة هذه المنشأة كوسيلة لحمايتها بعد حربها الضروس مع إثيوبيا 1998-2000، في حين كانت استضافتها للقاعدة الإماراتية عام 2015 في لحظة اشتداد الخناق عليها نتيجة الضغوط الغربية وتربص أديس أبابا لتآكل النظام الإريتري من الداخل وانهياره بفعل العقوبات.
وهكذا، ترى ورقة صادرة عن مركز الجزيرة للدراسات أن التصريح الإريتري المرحب بالقاعدة الروسية صدر في ذروة الضغوط الغربية على أسمرا على خلفية موقفها من حرب التيغراي، في حين يبدو تطور العلاقات الروسية الإريترية مؤخرا ورقة تلوّح بها أسمرا في وجه إثيوبيا التي بلغت العلاقات معها قدرا كبيرا من التوتر نتيجة المطالبة الإثيوبية بمنفذ سيادي على البحر الأحمر.
كما يرى محللون سياسيون أن إريتريا تقوم بمناورة للضغط على واشنطن سعيا وراء دفعها إثيوبيا إلى ترسيم حدودها مع إريتريا وفق اتفاقية الجزائر وحكم محكمة العدل الدولية بين الطرفين، والذي لا يزال يشكل عدم تطبيقه قنبلة قابلة للانفجار في أي لحظة بين البلدين.
في المقابل، تبدو موسكو رغم احتفائها بالعلاقة مع إريتريا متخوّفة من سياسات أسمرا القائمة على الاستفادة من تناقضات القوى المختلفة، مما وسم تحالفاتها بالتكتيكية والقابلة للتغيير كما شهده الواقع السياسي للمنطقة أكثر من مرة خلال الفترة الماضية.
وبينما يفترض الدخول في شراكة إستراتيجية من هذا النوع الاستدامة، يشير عدد من المراقبين الإريتريين إلى أن مستقبل البلاد تلفه المخاوف من عدم الاستقرار تبعا لعدم وجود أي آليات واضحة لترتيبات انتقال السلطة في حال غياب الرئيس أسياس أفورقي عن المشهد، نتيجة التجميد المستديم للبرلمان وللعمل بمسودة الدستور منذ عقدين ونصف العقد.
وهكذا يبدو تحقق طموحات موسكو ببناء قاعدة على شاطئ البحر الأحمر جزءا من معادلة معقدة يتشابك فيها الواقع السياسي المحلي، وصراعات القوى الإقليمية، وتنافس دولي تزداد حدته وتتشكل ملامحه المستقبلية في واقع ما بعد الحرب على غزة، مما ينذر بمزيد من العواصف التي تتنظر السفينة الروسية قبل الرسو في "المياه الدائفة".