[ تظاهرة تضامنية في صنعاء (محمد حمود / الأناضول) ]
لم يسبق أن شهد العالم العربي هذا الحضور الكثيف للأغاني عن فلسطين، حتى وإن كان الكم غالباً على النوع. هذه المرة من اليمن، يغني الفنانان الشابان، حمود السمة وسالم فدعق أغنية تحمل عنوان "فلسطيني" في رسالة تضامن من الغناء العربي، كأبسط مؤازرة للفلسطينيين الذين يواجهون حملة إبادة إسرائيلية في قطاع غزة منذ أكثر من أربعة أشهر.
وبخلاف كثير من الإصدارات، جاءت أغنية "فلسطيني" بلسان حال المقاوم المتغني ببسالته ورغبته في النصر. ولعلها تعكس حضوراً يمنياً تقاطع مع المقاومة في قطاع غزة، بمنع حركة الملاحة المرتبطة بإسرائيل من المرور من البحر الأحمر.
يمتثل خطاب الأغنية بكثير من مفرداته مع صوت المقاومة، خصوصاً ببعدها الديني. لكنها تتضمن بشكل عام إشارات إلى البشارة بالنصر، متوجّهةً بمفرداتها إلى المسجد الأقصى، مع استدعاء إشارات مرتبطة بالقرآن، تحديداً ذلك البرهان المرتبط بسورة الإسراء. تمضي الأغنية صراحة وفقاً لتصور يزدهر بالحماسة لخوض المعركة الكُبرى، لكنها أيضاً تجسد حلم استعادة الفلسطيني لأرضه.
جاء لحن فدعق، الذي شارك في الأداء إلى جانب السمة، بمزيج من أسلوب التواشيح الدينية اليمنية، وروح النشيد. لكن الأسلوب العام للأداء، يستحضر دمجاً بين روح شمالية وجنوبية. فنرى حمود السمة ينسج في اللحن الاستهلالي الزخارف المألوفة في تواشيح صنعاء الدينية، بينما يستحضرها فدعق بمزيج من الغناء الصوفي الحضرمي.
وفي الواقع، هذا البُعد المرتبط بالتوشيح الديني، يحدده الأداء الارتجالي. ويتقاطع فيه أسلوبان بارزان في الغناء اليمني، ربما المغزى منه التأكيد أن فلسطين في قلب اليمن، ولعلها إحدى القضايا الموحدة لليمنيين، خلافاً لما يشهده هذا البلد من انقسامات كرسها الصراع السياسي.
على أن كل تلك السمات التقليدية، مجرد استدعاء شكلي لعمل يخرج من العباءة التقليدية للغناء اليمني، من ناحية الشكل الموسيقي الحديث. ويتضمن ذلك أيضاً توظيفاً لطابع النشيد، يبلغ ذروته عند ترديد "فلسطيني". وبصورة عامة، فإن حضور الطابع التقليدي، يتسم به البناء الشكلي لكلمات الأغنية، إذ تقتفي بنية كثير من قصائد الغناء الحُميني (الصنعاني)؛ إذ تُختتم بالصلاة على النبي.
واللافت أيضاً، هو التفاوت بين تمبو الغناء البطيء، والجملة الموسيقية السريعة. كما أن اللحن، بخلاف مضمون كلامه، افتقر إلى التعبير الحماسي. لكنه أيضاً اتسم بذلك المزيج ما بين الإيمان والتعبئة للقتال. وهي سمة تتقاطع مع الصوت السائد في اليمن لمناصرة الشعب الفلسطيني، بعيداً عن الشقاقات التي تطفح في السياسة بوصفها عُرفاً بين اليمنيين.
على صعيد آخر، تفتتح الأغنية سياقاً مختلفاً عما هو سائد في الغناء اليمني المرتبط بالقضية الفلسطينية. وإن زادت الإصدارات في السنوات الأخيرة، فإنها اتخذت طابع النشيد، أو تضمنت سياقاً متصلاً بالغناء الوطني. فالفنان أحمد فتحي سبق وغنى "فلسطين حان إليك المسير" منذ سنوات طويلة، وبلحن سبق وقدمه في أغنية وطنية "بلادي أُحييكِ فلتسلمي" وغنتها الفنانة اليمنية أمل كعدل.
كما قدم الفنان اليمني أيوب طارش، قبل عدة سنوات، "يا شعب فلسطين"؛ وهي أغنية تعتمد على مصاحبة الكيبورد. وتركز بلحن حماسي، مثلما هي أغنية فتحي، عن المسير إلى الخلاص. أي أنها أناشيد وأغان يغلب عليها طابع التحفيز للمقاومة، والتأكيد على مواجهة المُحتل.
وهذا الطابع يحمله مضمون دويتو السمة وفدعق، وإن بتصورات دينية أكثر وضوحاً، يؤكد فيها، بلسان الفلسطيني، على بسالة وإقدام المقاومة الطامحة وعدم خضوعها للذل والهوان. وفي الوقت نفسه، وصم الغزاة بالوهن والطغيان.
وفي السنوات الأخيرة، كثرت الإصدارات اليمنية التي تتحدث عن فلسطين، خصوصاً منذ عملية طوفان الأقصى، وما تلاها من حملة إبادة إسرائيلية على قطاع غزة. هذا بخلاف زوامل الحوثيين الشعبية وما تنتجه الجماعة في صنعاء من أناشيد على غرار أناشيد حزب الله. لكن الغالبية العظمى من تلك الإنتاجات تظل بسيطة على صعيد الآلات، وما زالت أدواتها الموسيقية محدودة للغاية.
وتتيح وسائل التواصل الاجتماعي مجالاً واسعاً للفنانين اليمنيين، كما هو الحال بالنسبة لنظرائهم العرب، ليعبّروا عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية، خلافاً لما كان عليه الحال سابقاً، في الاكتفاء بما يُنتَج عربياً من غناء؛ إذ كانت الأناشيد تنحبس في حيز ضيق، يقتصر على بعض الجماعات السياسية المحلية، ولا تحظى بأي أهمية تُذكر، خصوصاً أن معظمها لا يتمتع بأي استقلال لحني، إنما تتطفل على ألحان عربية معروفة تُركب على كلمات جديدة.
ما يختلف اليوم، وجود شعور واسع في اليمن، بأن بلدهم دخل بشكل مُباشر مسرح المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، وعلى وجه التحديد، في استهداف جنوب الأراضي المحتلة بصواريخ بالستية. وبدرجة أكثر أهمية، تلك العمليات التي أغلقت خط الملاحة على السفن المُرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي.
ولعل أغنية "فلسطيني"، تجسيد لهذا التغير في معادلة تشهدها المنطقة العربية من خلال اتساع محور يزعم أن هدفه تحرير فلسطين. لكن، هل سيشهد الغناء للقضية الفلسطينية توسعاً في أوساط الفنانين المستقلين؟ أي بعيداً عمّا يُنتج بدعم رسمي تمنحه الجماعات السياسية اليمنية، على رأسها جماعة الحوثي، أم أنها مجرد طفرة حفزها عدوان الاحتلال على قطاع غزة؟