"وين ما نروح بتقصفوا علينا. يا زلمة طخونا وريحونا. إيش بدكم منا".. بهذه الكلمات العامية البسيطة كان يتحدث العجوز الفلسطيني أبو محمد الجمل مع ضابط مخابرات إسرائيلي يحقق معه بعد أن تم اعتقاله قبل أيام شمالي قطاع غزة.
الجمل (59 عاماً) كان باختصار يطلب من الضابط الإسرائيلي أن يطلق النار عليه بعد أن أنهكته الحرب وقسوة المعاناة والقصف المتواصل على كل مكان يؤوي إليه.
هذا الموقف رواه أبو محمد لمراسل الأناضول، الذي أطلق الجيش الإسرائيلي سراحه بعد اعتقاله لنحو أسبوع، فور وصوله إلى مجمع ناصر الطبي بمدينة خانيونس (جنوب) لتلقي العلاج من إصابات وأمراض ألمت به خلال فترة الاحتجاز.
ويروي الفلسطيني أبو محمد حكايته من على سرير المرض بحروف أنهكتها آلام المرض، قائلاً "عندما كنت في بيت لاهيا (شمالي غزة) لم أجد مكاناً أنزح إليه. ذهبت إلى مستشفى كمال عدوان وجميع المدارس بالشمال ووجدتها ممتلئة بالنازحين".
ويضيف: "وجدت مدرسة الفاخورة في بلدة جباليا مقصوفة بالصواريخ والقذائف ولا يوجد أحد فيها".
"كان هناك غرفة بجوار بوابة المدرسة (غرفة حارس المدرسة) فارغة ولم تتعرض للقصف فجلست فيها وكنت أخرج كل عدة أيام لأحضر بعض الطعام والمياه"، يكمل أبو محمد.
وبعد توقف للحظات كأنه كان خلالها يسترجع تلك التفاصيل المؤلمة لساعات طويلة قضاها تحت القصف، تابع العجوز الفلسطيني: "الاشتباكات والقصف كان لا يتوقف خلف المدرسة وبالطرقات المحيطة فيها على مدارس الساعة".
وفي يوم كان العجوز الفلسطيني البسيط يحاول تناول ما تبقى لديه من طعام وهو بأحسن الأحوال خبز وقليل من الزعتر، ليتفاجئ بروبوت يقترب منه ويطالبه بإبراز هويته.
ويقول: "أرسولي لي ماكينة (روبوت يستخدمه الجيش الإسرائيلي باستكشاف المناطق التي يعتقد أنها خطرة على جنوده) لها نظارتان كلمتني وقالت إنها تريد بطاقة الهوية وفتح المعطف الذي كنت أرتديه".
ويضيف: "فتحت لهم المعطف وأخرجت بطاقة الهوية وبعد ذلك جاءت طائرة صغيرة وقامت بتفتيش الغرفة التي أقطن فيها".
وبعد إتمام عمليات تفتيش الغرفة طلب الروبوت من أبو محمد الخروج ليستقبله بالخارج عدد من الجنود الإسرائيليين الذين طالبوه بخلع ملابسه وقاموا بعد ذلك بتفتيشه، كما يقول للأناضول.
الجنود الإسرائيليين وضعوا الأصفاد البلاستيكية في يدي أبو محمد واقتادوه إلى جهة مجهولة.
ويكمل رواية ما حدث معه قائلاً: "حققت معي المخابرات. كان الضابط يتحدث معي بالعربي وأنا أرد عليه بالعبرية وقلت له: وين ما نروح (أينما نذهب) بتقصفوا علينا. يا زلمة (يا رجل) طخونا وخلصونا وريحونا (أطلقوا النار علينا ودعونا نتخلص من هذه المعاناة) بكفي تجننوا فينا (يكفي هذا الجنون) إيش إلي بدك إياه؟ (ماذا تريد؟)".
وتابع حديثه لضابط المخابرات قائلاً: "أنا لم أفعل شيء".
وسأله الضابط الإسرائيلي عن جيرانه وأقاربه الذين ينتمون لحركة "حماس" ليرد عليه العجوز الفلسطيني: "أنا لا أرى أحدا منذ فترة طويلة والجميع يعرف أني لا أقيم علاقات مع أحد. اسأل العملاء. حتى أقاربي لا يزورني إلا كل سنة مرة لأني أسكن في مكان بعيد".
وبعد إكمال التحقيق مع أبو محمد اقتاده الجنود الإسرائيليين إلى مركبة عسكرية، ويروي ما حدث معه حينها قائلا: "ضربوني وذلوني ورموني من الجيب".
ويتابع: "أغلقوا عيوني بقطعة قماش واقتادونا إلى بركس كبير (مبنى من الصفيح) وبعد ذلك نقلونا إلى بركس آخر ومنه إلى مكان آخر أيضاً وكانوا يضربوننا في كل مرة ويلقونا من الجيبات".
وكان الجيش الإسرائيلي يمنع المحتجزين الفلسطينيين من قضاء حاجتهم في كثير من الأحيان، لذلك لم يستطع أبو محمد أن يتحمل هذا الحال لأيام طويلة فاضطر لقضاء حاجته في مكان احتجازه، وفق ما قاله لمراسل الأناضول.
ويقول إنه بعد ذلك قرر عدم تناول الطعام حتى لا يحتاج لقضاء حاجته ليصاب بعد 4 أيام بالجفاف دون أن يكترث له أحد من الجنود الإسرائيليين الذين يحتجزونه مع عشرات آخرين.
وبعد أيام من اعتقاله أطلق الجيش الإسرائيلي سراح أبو محمد مع عدد آخر من الفلسطينيين عبر معبر "كرم أبو سالم" أقصى جنوبي قطاع غزة.
ويعاني أبو محمد حاليا من رضوض في مختلف أنحاء جسده بسبب تعرضه للضرب والسقوط بعد أن ألقاه الجنود من المركبات العسكرية عدة مرات، إضافة لإصابته بإعياء شديد جراء ظروف الاعتقال القاسية.
وينفذ الجيش الإسرائيلي حملات اعتقال واسعة في المناطق التي يتوغل فيها بقطاع غزة.
ويروي فلسطينيون تم اعتقالهم والإفراج عنهم شهادات "مروعة" حول تعرضهم للتعذيب والإذلال من الجنود الإسرائيليين.
ومنذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، يشن الجيش الإسرائيلي حربا مدمرة على غزة، خلّفت حتى الخميس، 21 ألفا و320 شهيدا و55 ألفا و603 مصابين، معظمهم أطفال ونساء، ودمارا هائلا في البنية التحتية وكارثة إنسانية غير مسبوقة، وفقا لسلطات القطاع والأمم المتحدة.