[ التقديرات تشير إلى أن اليمن ينتج سنويا 300 ألف طن من خردة الحديد (الفرنسية) ]
"توقف المصنع وخسرت عملي وإلى جانبي الكثير من العمال وأصبحنا عاطلين ومشردين".. هكذا يصف عبد الرحمن بلحارث وضعه بعد سنوات من توقف مصنع "العربية لإنتاج الحديد والصلب" في اليمن. وعبد الرحمن كغيره ممن فقدوا وظائفهم -وربما ينضم إليه العشرات- بعد توقف عدد من المصانع المحلية التي تنتج الحديد، عقب سماح الحكومة أو أطراف فيها بتصدير خردة الحديد التي تعتمد عليها المصانع لإنتاج الخام، ليكون بذلك عبد الرحمن وغيره ضحايا عمليات الفساد تلك، والذين لم تنصفهم ولم تنصف مصانعهم قرارات وتوجيهات ما قبل الحرب، وما بعدها.
ينتج اليمن -وفق تقديرات غير رسمية- ما يقارب 300 ألف طن من خردة الحديد بمختلف مكوناتها، وهو ما تعتمد عليه 4 مصانع للحديد بالجمهورية اليمنية بدأ إنشاؤها بداية تسعينيات القرن الماضي. ولا تلبي هذه المصانع احتياجات السوق المحلية، إلا أنها توفر فرص عمل للكثيرين من العمال والمهندسين والفنيين، وتلبي بعض احتياجات السوق المحلية المتنامية عقاريا حتى زمن الحرب، وهو ما انتبهت لأهميته الحكومات اليمنية.
ومع ذلك الرقم الجيد من خردة الحديد التي ينتجها اليمن في مختلف المحافظات، والتي يُفترض أنها تغذي مصانع الحديد المحلية، فإن هناك مصانع توقفت فعلا وأخرى على وشك التوقف، مما يجعل التساؤل هنا مهما وملحا: أين تذهب تلك الكميات الكبيرة من الخردة؟
في هذا التحقيق -الذي استمر العمل عليه لأشهر- حاولنا أن نتتبع مسار خردة الحديد منذ خروجها من مصادرها، وإلى حين اختفائها بدلا من الذهاب إلى المصانع المحلية. ووثقنا بالأدلة أين تذهب ومن المستفيد منها.
بدأت رحلتنا البحثية من تجار خردة الحديد في صنعاء الذين استفسرنا منهم عن مصادرهم. وبدأ لقاؤنا الأول بالاستفسار من تاجر الحديد في صنعاء أحمد منيف عن مصادر الخردة. فرد قائلا إنها متنوعة، بعضها يأتي من السيارات المتهالكة التي يبيعها أصحابها، وكذلك المباني التي يتم هدمها ويستخرج منها كميات كبيرة من حديد التسليح، إضافة إلى المعادن الأخرى التي يتم الاستفادة منها لاحقا في صناعة الحديد.
يضيف منيف أنه يبيع تلك الخردة لتجار كبار يقومون بشرائها بأسعار متفاوتة، لبيعها لاحقا لمصانع الحديد. وهذا ما قاله لنا أيضا التجار الآخرون الذين يشترون الخردة.
مسارات متوقعة
تتجمع خردة الحديد في مخازن كبيرة بالمدن اليمنية لا سيما صنعاء وعدن والمدن الكبرى، ومن ثم تذهب في عدة مسارات:
الأول مسار مصانع الحديد في حضرموت وعدن، لكنه منذ سنوات لم يعد مسارا معتادا لها، فالمصانع منذ فترة لم تعد تصلها تلك الشاحنات المحملة بخردة الحديد، وأصبحت مخازنها فارغة من الخام والآلات في مصانع توقفت، وأخرى أوشكت على التوقف.
أما الثاني فهو مسار الموانئ والخروج من اليمن. يقول منيف إن الطلب مؤخرا زاد على خردة الحديد، والعائد المادي ارتفع باعتبار أن تلك الخردة يتم تصديرها للخارج منذ بداية الحرب، وبشكل أكبر عبر ميناء عدن للحاويات.
وللتأكد من ذلك، تواصلنا مع علي الشعيبي (اسم مستعار) الموظف بموانئ عدن، حيث أكد لنا المعلومة التي زودنا بها منيف، وقال إن التصدير الفترة الأخيرة انتعش مع ميناء عدن تحديدا، وأضاف أن التصدير يتم بمعرفة إدارة الموانئ ووزارة الصناعة والتجارة، وبشكل متزايد ومرتفع، وأنهم أحيانا يقومون بتصدير خردة الحديد على أنها معادن أخرى مسموح بتصديرها، بينما في الحقيقة هي خردة حديد.
في عام 2004 أصدرت الحكومة قرارا بمنع تصدير خردة الحديد إلى الخارج، وحصرت بيعها على المصانع المحلية. وبعد أحداث الربيع العربي أصدرت قرارا يقضي بإتاحة تصدير الخردة مرة أخرى، قبل أن تُصدر عام 2013 قرارا بمنع التصدير نهائيا.
وبداية 2023 طالبت شركة المكلا للحديد والصلب المحدودة وزير الصناعة والتجارة -بالحكومة المعترف بها دوليا- بإيقاف تصدير الخردة، تنفيذا للقرارات الرئاسية السابقة، وإلا فإن المصنع في طريقه للإغلاق كالبقية.
خردة اليمن
يقول مدير شركة المكلا لصناعة الصلب في حضرموت الدكتور أحمد باريان، إنهم سبق أن طالبوا الحكومة، وتحديدا وزارة الصناعة والتجارة، بالتدخل لوقف تصدير حديد الخردة للخارج، إلا أن دورهم كان سلبيا هنا. وأضاف أن هذا الدور ضاعف كثيرا من خروج الحديد عبر ميناء عدن تحديدا وبكميات كبيرة، وحرم المصانع المحلية، وهددها بالتوقف.
وأشار إلى أن مصنعهم اقترب من التوقف لعدم حصولهم على المادة الكافية من مادة خردة الحديد، مما يهدد بانضمام عمال وفنيي المصنع لديهم إلى قافلة البطالة، وأنهم بهذه المرحلة يطلبون من الحكومة بشكل مباشر التدخل لإيقاف عمليات التصدير، وإعادة الحياة للمصانع التي توقفت والتي يصل عدد العمال فيها إلى أكثر من 1500 عامل ومهندس وفني.
يقول رئيس مركز الإعلام الاقتصادي مصطفى نصر إن تجارة الحديد في اليمن محدودة، لكن الحكومة تعمل على توفير الكثير من فرص التشغيل للعمال والمهندسين، كما أن إغلاق المصانع سيؤثر على اقتصاد البلد الذي يعاني كثيرا من شح العملة الصعبة مما سيضطرها إلى استيراد الحديد بشكل أكبر لتغطية ما كانت تنتجه المصانع المحلية، وهو ما يعني استنزاف الكثير من العملة الصعبة وكذلك انضمام عمال ومهندسي تلك المصانع إلى قافلة البطالة المستمرة. ويضيف نصر أن على الحكومة الإسراع في حل المشكلة، وإيقاف تصدير خردة الحديد قبل أن تتحول تلك المصانع إلى خردة بفعل التوقف والتجاهل.
ويقول الخبير الاقتصادي نجيب العدوفي للجزيرة نت إن اليمن يعاني من تبعات الحرب التي عملت على شل الاقتصاد، وكل ذلك انعكس سلبا على الاستثمار برمته، وقد شهدت مختلف القطاعات توقف الكثير من الأنشطة مما أدى إلى تسريح العمالة.
ويضيف العدوفي أن صناعة الحديد في البلاد من الفرص الاستثمارية الواعدة، وتبدو مشجعة خاصة أن اليمن مقبل على مرحلة إعادة الإعمارإذا تم التوصل لتسوية سياسية، فضلا عن أن البلاد تفتقر إلى البنية التحتية من طرق ومدن سكنية وغيرها، وهذه تعتمد على مادة الحديد.
وعند وجود صناعات محلية، فإن ذلك سيوفر على اليمن العملة الصعبة، كما سيكون أفضل للشركات والتجار والمقاولين كونه سيخفف عنهم تكاليف الشحن وغيرها.
"لكن ما نراه -وفقا للعدوفي- أن ما كنا نعتبره نواة لقيام هذه الصناعة، بات اليوم يواجه مصيرا قاتما يتمثل بعدم قدرته على الصمود، وتم إغلاق هذه المصانع التي أعتقد أنه لا يتجاوز عددها 4، وهناك معامل تقوم بتشكيل الحديد لكنها لا ترقى إلى صناعة الحديد المستخدم في البناء".
ودون شك، هناك تأثير سلبي على الاقتصاد جراء إغلاق هذه المصانع، ويقود إلى رفد رصيف البطالة بمزيد من العاطلين، خاصة أن هذه المصانع تشغل الكثير من الأيدي العاملة بصورة مباشرة وغير مباشرة.
كما أن هذا الإغلاق يبعث رسائل سلبية للمستثمرين، بأن اليمن غير صالح للاستثمار مهما كانت هذه الفرصة واعدة، وهذا سيشكل تبعات كثيرة ويجعل البلاد بحاجة لسنوات طويلة، لأن المستثمر سيخشى أن يكون مصيره كمصير هذه المصانع، وبالتالي يبتعد اليمن أكثر عن طريق التنمية.
يشرح المهندس أنيس عبد الله أن مصانع الحديد المحلية الأربعة تحتاج ما يقارب 22 ألف طن شهريا من خردة الحديد لتشغيل المصانع، وهي كافية لتشغيل المصانع ولو بشكل محدود. ويقول المهندس إن المخازن من الخردة والخام أوشكت على النفاد في مصانع شركة المكلا التي تحتاج فقط 10 آلاف طن من الحديد شهريا للتشغيل، وهي التي كانت تصل بشكل مريح واعتيادي من داخل السوق المحلية، قبل أن يتم بيعها للخارج بدلا من بيعها في الداخل.
ويضيف عبد الله أن خردة الحديد أو "السكراب" التي تخرج عبر الموانئ هي عبارة عن منتجات حديدية تم إنتاجها واستخدامها لأغراض مختلفة مثل صناعة السيارات والسفن، وأنهم في المصانع يقومون بإعادة تدويرها لإنتاج حديد التسليح.
حديد مغلف بالمعدن
تواصلنا مع إدارة الموانئ في عدن للتحقق من الأمر، إلا أنهم أنكروا تماما خروج خردة الحديد عبر الميناء في السنوات الأخيرة. إلا أننا -وعبر وثائق خاصة تنشر لأول مرة- أثبتنا عكس ذلك تماما، حيث تثبت وثائق الصادرات عبر الميناء خروج ما يقارب 260 ألف طن خردة عبر ميناء عدن للحاويات فقط خلال 2022، وهي كمية كافية لتشغيل المصانع الأربعة التي توقف اثنان منها حتى الآن.
وفقا لهذه البيانات فإن قيمة الخردة تجاوزت ملياري ريال يمني، أي ما يعادل 1.5 مليون دولار، وهي ما تمثل فرصة للموانئ والتجار لجني المزيد من الأرباح على حساب المصانع المحلية والعاملين فيها. ويقول المهندس عبد الله إن تلك المواد كافية لإنتاج 60 ألف طن من الحديد سنويا، وتغذية السوق المحلية بأسعار تفضيلية باعتبارها مصنعة محليا.
وأخبرنا علي الشعيبي (اسم مستعار) الموظف الكبير بالمنطقة الحرة أن هناك طرقا عدة لتصدير الخردة تتم بين التجار والموظفين بموانئ عدن، حيث تستخرج الخردة على أنها معادن مسموح بتصديرها دون أن تشرح لنا الطريقة التي تتم بها، مما جعلنا نتواصل مع مخلّصين جمركيين في مدينة عدن لمعرفة ذلك.
وعبْر الشعيبي تواصلنا مع أحد المخلصين الجمركيين بعدن على أننا تجار ومقاولون ولدينا كميات كبيرة من خردة الحديد. وتجاوب الرجل معنا في البداية وطلب معلومات عن الكميات وأنواعها وأسعارها وأماكن وجودها، وقمنا بإرسال جميع المعلومات، وطلبنا منه أن يتم بيعها خارج اليمن للحصول على عائد أكبر، وطلبنا منه أن يمدنا بالآلية التي سيتم عبرها البيع والتصدير، إلا أنه تأخر علينا بالرد مما جعلنا نبحث عن مخلّصين آخرين.
تصدير "مموه"
تواصلنا مع المخلّص الأول الذي قال إن تصدير الخردة عبر حضرموت ممنوع منذ أكثر من سنة، ولا توجد طريقة أخرى إلا عبر ميناء عدن ويمكن أن تخرج من هناك بعدة طرق. وتواصلنا مع مخلص آخر أبدى استعداده لمساعدتنا بإخراج تلك الخردة التي قلنا له إنها تتجاوز 100 طن، فقال لنا إن هناك طريقا لإخراجها عبر تغليف الحديد بغلاف خارجي من المعادن المسموح بتصديرها والتي تمر عبر الميناء دون فحصها أو مراجعتها. وعبر التسجيل الصوتي أخبرنا بالأسلوب والتكلفة، ومنها أن يتم الكبس على أن تكون حديدا خفيفا من بينها حديد السيارات والحديد الثقيل، ليظهر بأنه مكبوس ومعادن.
وتتبعنا عبر المصادر المفتوحة مسار تلك الشحنات التي تذهب إلى الخارج، حيث نشر موقع "أو إي سي" (OEC) المتخصص في تتبع تجارة خردة الحديد، بأن الهند هي الدولة الأكثر شراء لخردة الحديد من اليمن، حيث بلغ إجمالي ما استوردته نيودلهي ما قيمته 42 مليون دولار مما يجعلها أكثر الجهات استيرادا لخردة الحديد اليمني. ووفقا لبيانات الأمم المتحدة بشأن التجارة الدولية فإن الهند خلال 2022 استوردت خردة حديد يمنية بقيمة 3 ملايين دولار، وهو ما يعادل قيمة 10 آلاف طن وفقا للأسعار التي طلبها منه المخلّصون في عدن مقابل تصدير الطن الواحد من الحديد.
إهمال إلى حد الشراكة
تعتبر وزارة الصناعة والتجارة المسؤولة عن التحكم بالسوق الداخلية وحماية المصانع المحلية من أي أضرار قد تصيبها لأي سبب من الأسباب. ويذكر القانون اليمني أن على وزارة الصناعة والتجارة أن تعمل على الشراكة والرقابة على المنافذ المحلية في خروج المواد وتصديرها وفق القوانين والقرارات الحكومية المتعاقبة.
غير أن ذلك الدور لا تقوم به وزارة الصناعة والتجارة في عدن أبدا، حيث يتهمها ملاك المصانع بالتساهل في تصدير الخردة عبر ميناء عدن وبشكل رسمي، وفق وثائق حصلنا عليها.
تواصلنا مع محمد الحميدي مدير مكتب وزيرة الصناعة والتجارة بعدن، وطرحنا عليه ما توصلنا إليه في التحقيق، فرد علينا بأن الوزارة ملتزمة بما أصدرته الحكومة من قرارات لمنع خردة الحديد. إلا أن هناك اتفاقا بين تجمع تجار خردة الحديد ومالكي المصانع بتصدير الحديد بعد الإيفاء بحاجة المصانع، وأن هذا تم دون الرجوع لوزارة الصناعة والتجارة. ويضيف بأن الاتفاق لم يكتمل لاحقا بين المصانع وتجار الخردة وأن الوزارة لا تتدخل فيما أصدره القضاء تجاه القضية، وأن خروج الحديد من اليمن ليس من ضمن اختصاصات وزارة الصناعة والتجارة.
ويقول الدكتور أحمد باريان إن الاتفاق تم بالفعل، إلا أن مصدري الخردة لم يلتزموا بالكميات المتفق عليها بينهم وبين مالكي المصانع، وإن الوزارة لم تقم بدورها في تنفيذ هذا الاتفاق الذي كانت على علم به إضافة إلى الغرفة التجارية.
أما المحامي أحمد سعيد فيقول إن القرارات الحكومية ملزمة لجميع الجهات بما فيها الموانئ، وإن قرارات منع تصدير الخردة ملزم لجميع الأطراف، حتى لو حصل اتفاق بين تجار الخردة ومالكي المصانع، لأنهم لا يملكون قرار المنع أو استئناف بيع الخردة للخارج.
وبينما تستمر الخردة بالخروج من ميناء عدن وبكميات كبيرة، تحت مسمى المعادن أو الحديد المكبوس، للتلاعب بقرارات منع التصدير، فإن تلك المصانع تواجه تهديدا مباشرا، وتنتظر تنفيذ قرارات الحكومة. والقضاء ينتظر كذلك أن يعود الكثير من العاطلين إلى أعمالهم بالمصانع التي توقفت، ويعيش البقية في المصانع التي تعمل بين أمل الاستمرار وكابوس التوقف الذي يسببه استمرار تصدير خردة الحديد، مما يؤثر على حالة الآلات التي يعملون عليها ومعيشة أسرهم.