[ حديثُ اليمن وحديثُ اللادولة: قراءةٌ في «قعر» الأزمة وأُفق الحل ]
التسريبات تتحدث عن مشاورات قائمة على وقع الأزمة الاقتصادية الراهنة، ورجحت خروج المشاورات بتشكيل مجلس رئاسي مصغر تمهيدًا لعملية سياسية تُفضي لمجلس رئاسي بمشاركة جماعة الحوثيين.
صنعاء ـ «القدس العربي»: بمرور أكثر من ثماني سنوات من الحربِ في اليمن، تتعقدٌ قراءةٌ الأزمة مع استمرار مراوحة مفاعليها في ذات المربع دون إبداء أي مرونة تجاه المضي نحو حل يوقف نزيف الدم، وقبله نزيف كرامة المواطن، وقبلهما إعادة الاعتبار لقيمة الوطن والذات اليمنية التي تشظت هُويتها، وتمزق جسدها، وتعددت السلطات الحاكمة باسمها، مع حرص هذه السلطات على إبقاء هوة سحيقة بينها والمواطن، بل يبدو أن هناك مَن يعمل على تعميق وتوسيع هذه الهوة إمعانا في انهاك البلد وإبقائه مفرغًا من عوامل قوته ممثلًا في الإنسان؛ وهو ما يتأكد للمراقب مع كل تحول سياسي (مفاوضات وتحولات في السلطة) إذ يشهد البلد إمعانا في الضعف؛ بعدما كان المتابعون يستشرفون أملاً في الخلاص من الصراع واستعادة اليمن الذي فرّ من بنيه أو فرّ منه بنوه تحت وطأة العوز المستمر الذي يحاصر غالبيتهم، وكأن استمرار إبقائهم في هذه الدائرة هدفه ابقائهم مسلوبي الإرادة، وإبقاء البلد بدون بوصلة!
اليوم تعود التسريبات تتحدث عن مشاورات قائمة على وقع الأزمة الاقتصادية الراهنة، ورجحت خروج المشاورات بتشكيل مجلس رئاسي مصغر تمهيدًا لعملية سياسية تُفضي لمجلس رئاسي بمشاركة جماعة «أنصار الله» (الحوثيين). والقارئ في فحوى هذه التسريبات لا يجد قصة مكتملة، بل يقرأ وكأن ثمة مَن يريد إيصال رسالة بإمكانية الحل. وأيا كان الهدف من التسريب إلا أنه يبقى ككل التسريبات التي كانت تسبق الجولات السابقة، محاولة لجس نبض الرأي العام. وهذا لا يلغي إمكانية حدوث التحول، لكن مما سبق وعايشه اليمنيون فإن التحولات التي شهدتها مراحل الأزمة الراهنة تؤكد أن لا حل جذريا يمكن استشرافه من مثل هكذا تحولات، والتي على ما يبدو أنها تخدم أطرافًا إقليمية أكثر من كونها تستهدف تخليص اليمن من ربقة الحرب، بل كأن هناك إصرار على إبقاء البلد ليس في وضع اللاحرب واللاسلم، بل في وضع اللادولة واللافشل واللاحسم واللاحل وفق وصف أحدهم، وهذا لا يعني أن لا أمل قائما يحدو متابعيه التفاؤل بإمكانية حدوث تحول حقيقي، لكن القارئ الممعن في تأمل مفردات ومعطيات الواقع لا يرى ما يُشير إلى ذلك في ظل عمل دؤوب لرسم واقع مختلف يصبح من المستحيل معه استعادة اليمن الذي كان، أو تحقيق اليمن الذي يتطلع أبناؤه أن يكون وطنًا لائقا.
تبقى أن نُشير إلى أن حل الأزمة لم يعد يمنيًا بالمطلق في ظل ما بات من حضور واضح للإقليم في الداخل اليمنيّ، لكن هل تعي الأطراف الإقليمية أن الحفاظ على يمن قوي مستقر سيعود عليهم بالنفع؟ لأن تفتيت اليمن والإمعان في إضعافه لن يُبقيهم بمنأى عن خسائره.
انسداد الأفق
تشهد الأزمة اليمنية انسدادًا في الأفق في المرحلة الراهنة في ظل جمود على جميع المستويات ما يدفع للسؤال بحثًا عن قراءة.
يقول وزير الثقافة الأسبق، أمين عام حزب التجمع الوحدوي اليمني، عبدالله عوبل لـ«القدس العربي»:» نعم لا يبدو في الأفق ما يدعو إلى الاطمئنان. بالعكس ثمة ما يُشير إلى نذر الحرب والتصعيد من خلال التحشيد لقوات أنصار الله (الحوثيين) باتجاه مأرب والضالع، كما تردد بعض الأخبار. والواقع أن المملكة العربية السعودية قائدة التحالف تقود عملية تكوين مجالس إدارة ذاتية في المحافظات الجنوبية بعد فشل الشرعية والانتقالي ومجلس القيادة الرئاسي في إدارة المناطق التي تحت سيطرتها، وتدهور الأحوال المعيشية والخدمات وارتفاع أسعار السلع الأساسية بعد وصول الدولار إلى 1500 ريال يمني وانهيار اقتصادي مريع».
وأضاف: «ويبدو أن تسليم المحافظات ليديرها أبناؤها حتى يقيض الله لهذه البلاد قادة بديلا عن هذه النخب السياسية الفاسدة، يعيدون بناء المؤسسات ويقيمون دولة القانون والمواطنة. فإن صدقت الجهود لتحييد قوى الشرعية بكل تناقضات قواها، سوف تدار المحافظات من قبل قوى اجتماعية جديدة غير أمراء الحرب ويسيرون أمور محافظاتهم والسيطرة على مواردها واستخدامها بما يحقق انتشال الناس من المجاعة وتأمين رواتب الموظفين ووقف تدهور سعر الريال. تلك أمنيات تنتظر الصدق والإخلاص».
تعقيد الأزمة
لكن الأزمة اليمنية باتت أكبر من أن يتم حلها بمجالس إدارة ذاتية، التي يرى البعض فيها مزيدا من التعقيد للأزمة والاضعاف للدولة، علاوة أن ثمة معوقات تحول دون المضي في هذا المسار؛ لاسيما وأن ثمة خلافا إقليميا بشأنها.
تبقى الأزمة اليمنية أكثر تعقيدًا وثمَّة من يبقيها قيد التعقيد. وهنا يقول عوبل: «الواقع أن الأزمة اليمنية معقدة فعلًا. فهناك حرب خارجية توقفت مع الهدنة وحروب داخلية محلية، وتعدد المشاريع السياسية بتعدد القوى الإقليمية والدولية التي تتدخل في حرب اليمن، وكل دولة لها أجندتها الخاصة. إن اللاعبين الإقليميين والدوليين قد اختطفوا القرار من القوى اليمنية. وتحولت الأطراف اليمنية إلى كومبارس يتبع الأطراف المتدخلة. لكن هذه القوى كانت قد اقتربت من الأزمة بعد الاتفاق السعودي الإيراني، وزاد مستوى التفاؤل بعد المشاورات السعودية العمانية مع الحوثيين، لكن للأسف تعثرت هذه الجهود، وبالتالي طار الأمل الذي كان يراه اليمنيون قريبًا. الأزمة معقده فعلًا، ولكن لا يعني ذلك أن الحلول مستحيلة، بالعكس الحل ممكنا جدا إذا أخذت الأطراف الداخلية العذاب والمجاعات التي يعانيها الناس جراء هذه الحرب البشعة بعد ثمان سنوات لم تبق ولم تذر».
لكن يرى البعض في أن القرار الأممي 2216 يمثل معوقًا أمام أي حل لاسيما مع تغير المعطيات. يقول عبدالله عوبل: «القرار 2216 فعلا لم يكن واقعيًا، وقد تم تجاوزه في مختلف مراحل التفاوض حتى آخر لقاء بين الوفدين السعودي والعُماني مع قيادة الحوثيين. الحل أن تتفق كل الأطراف التي تتدخل في الشأن اليمني والقوى اليمنية التي ليس لها مصلحة في استمرار الحرب. أن تتفق على حل شامل يراعي مصالح مختلف الأطراف المحلية والإقليمية وبتوازن تام بين المصالح الوطنية والخارجية».
مفاوضات الحل السياسي
في هذا المحور نقف على التسريبات التي ظهرت في الأيام الأخيرة التي تتحدث عن اقترب البلد من انفراجة متمثلة في تشكيل مجلس رئاسي مصغر يفضي لمشاورات تنتهي بمجلس رئاسي بمشاركة «انصار الله» ومن وجهة نظر أستاذ علم الاجتماع السياسي، عبدالكريم غانم، فإنه يمكن وضع هذه التسريبات ضمن تصور «خريطة طريق مثالية لمشاورات تسهم في كسر حالة الجمود الراهنة، وفي أحسن تقدير هي محاولة من الحوثيين لجذب الأطراف الأخرى للعودة إلى طاولة الحوار ليس تعبيرًا عن قناعة بالقبول بمفاوضات الحل السياسي والدخول في مجلس رئاسي مشترك بل لقطف ما أمكن من ثمار مفاوضات جزئية ثنائية حول ما يمسيه الحوثيون بالملف الإنساني».
ويقول غانم لـ«القدس العربي» إن «جوهر الأزمة اليمنية لا يكمن في إقصاء الحوثيين عن السلطة، وفق هذا المنظور الذي عبّرت عنه التسريبات، من خلال اختزال حل الأزمة اليمنية بتشكيل مجلس رئاسي يضم الحوثيين إلى جانب الأحزاب والقوى السياسية اليمنية الأخرى، فهذا الحل بعيد عما تضمره أطراف الصراع، كما أنه بعيد عن القراءة التحليلية العميقة للوقائع والأحداث على الأرض».
دستور…انتخابات
وبخصوص مدى صوابية الحل الذي يتحدث عن إعادة تشكيل المجلس الرئاسي فيعتقد غانم أنه «لن يكون كافيًا وشافيًا للأزمة اليمنية، فما ينقص اليمن ليس مجالس رئاسية وحكومات يتم إنتاجها خارج البلد، بل استئناف مسار الانتقال السياسي الذي تعثر عقب الانتهاء من صياغة مسودة الدستور. يحتاج اليمنيون إلى سلام دائم، والدخول في حوار ديمقراطي تشاركي، لحسم القضايا الخلافية، وأهمها قضية شكل الدولة، وآلية توزيع الثروة، والموقف من نظام الأقاليم، بما يفضي إلى نتائج تكميلية لمخرجات الحوار الوطني الشامل، يتم استيعابها في المسودة الأولية للدستور، للخروج بمسودة نهائية يتم عرضها للاستفتاء الشعبي، وبناء على ما ينبثق عن الدستور من تشريعات يتم إجراء انتخابات رئاسية ونيابية تخرج البلد إلى بر الأمان».
وأضاف: «أما الحديث عن مرونة في تسليم الجماعات المسيطرة على السلطة أسلحتها للدولة فلا وجود له في الواقع، إلا عندما تتخيل كل جماعة مسلحة أنها هي الدولة، وعلى الفصائل الأخرى تسليم أسلحتها والرضوخ لسلطتها».
مشروع كونفدرالي
هنا يبقى السؤال: إلى أين يذهب اليمن، وما هو مآل هذه الأزمة؟ يقول عبدالكريم غانم: في تقديري أن الأزمة اليمنية في طريقها لأن تصبح قضية منسية، فالسنوات قادمة ستظل هذه الأزمة تراوح مكانها، من حيث حالة اللاسلم واللاحرب، اللانفصال واللاوحدة. اللافشل نهائي واللادولة. يمكن لمشروع كونفدرالي يحتفظ فيه كل فصيل سياسي بجيشه والإقليم التي يسيطر عليه، ويتم فيه تقاسم الثروات السيادية، أن يصبح حلًا سياسيًا، فرغم مساوئ هذا السيناريو إلا إنه الأقرب للواقع، لا سيما أن الفصائل السياسية اليمنية باتت اليوم عاجزة عن تحقيق أي تقدم عسكري على الأرض، لكن حتى هذا السيناريو غير قابل للتحقق على المدى القريب، بانتظار أن تبلغ التناقضات الاجتماعية ذروتها، وحالة الغليان الشعبي منتهاها، فتفوق المخاطر التي تهدد مواقع الجماعات السياسية المكاسب التي تجنيها هذه الجماعات من استمرار الوضع الراهن، بما يدفعها للقبول بالحل السياسي الذي يؤمن لها إعادة إنتاج سيطرتها على السلطة».
لكن يبدو أن طريق الحرب باتا مغلقًا بعدما استنفد الصراع كل وسائله، يوضح غانم: «في اعتقادي أن طريق الحرب ليس مغلقًا بل مواربًا، فعلى الرغم من أن جميع الأطراف باتت على يقين أن الحرب استنفدت كل وسائلها، ولم تعد قادرة على الإتيان بجديد، إلا إن المصالح التي يحققها اقتصاد الحرب، لا تزال حافزًا لبقاء الوضع القائم، من خلال التلويح بخيار الحرب، الأمر الذي يتطلب تغيير هذه المعادلة، عبر حزم من الدعم الاقتصادي، لإعادة الإعمار وتحقيق التنمية، ودعم قيمة العملة المحلية ودفع مرتبات موظفي الدولة وتحفيز الاقتصاد الوطني على استعادة موقعه».