من خلال نتائج هذه القصة والزيارة، وما دار من حديث بين ملكة سبأ وسليمان، تتضح الرؤية للجميع أنه صار هناك تحول في العقيدة والديانة ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾( )، ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾( )، وهذه إذاً حبكة القصة الحقيقية ونتيجتها (الإسلام لله، واتباع الديانة الجديدة)، وبهذا المتغير والتحول تحولت الحياة الثقافية في مملكة سبأ حسب المتغير الجديد.
وحين أسلمت ملكة سبأ لم تظل في نفس المكان كتابعة لسليمان، بل عادت إلى أرض الوطن لحكمه بالدين الجديد والعهد الجديد؛ عهد التحول الجديد، وعدم المكوث هناكْ، وهذا الأمر يقودنا إلى عدم تزوج سليمان بها، عكس ما رواه الإخباريون.
نستطيع القول إنه من هذه المحطة الأولى دخلت اليهودية اليمن كأول دخول رسمي لها.. يعني كان عندها علم بالديانات التوحيدية عن طريق التجار والذهاب لمعرفة ذلك.. وبعد القضاء على مملكتي بني إسرائيل بعد سليمان في الوطن الأم "وتخريب بيت المقدس سنة 586 ق.م على يد بختنصر"( ) ومكان الديانة الأم، انتهت الديانة اليهودية في اليمن كديانة رسمية وبقيت كديانات فردية لبعض أتباعها فقط.
وبعض هؤلاء الإسرائيليين هاجروا بديانتهم من إسرائيل إلى اليمن للنجاة بأنفسهم من البطش والأسر البابلي، كونها صارت لهم بها علاقات روحية من خلال رابط الدين الذي جاء مع ملكة سبأ، مما يعني تعزيز الديانة اليهودية في اليمن.
غير أننا، من خلال نقوش ما بعد ملكة سبأ، والتي عرفت بمرحلة المكاربة، لم نجد أية إشارات لهذه الديانة في تلك النقوش كما وجدناها مثلاً في المرحلة المتأخرة بعد الميلاد، في العهد الحميري، أو في عصر مملكة سبأ وذي ريدان، كذكر الرحمن إله السماوات والأرض، وهذا لا يعني إلا أمراً واحداً، وهو أن فترة المكاربة كانت قبل ملكة سبأ واعتناقها اليهودية؛ لأنه لم ترد أية إشارة لتلك الديانة في نصوص ونقوش تلك الفترة، على الأقل بعض الإشارات كبقايا للديانة اليهودية، كما هو الحال في الفترة المتأخرة لدولة سبأ قبل الإسلام من مصطلحات دينية وغيرها، مما يحتم مراجعة التاريخ اليمني لتأصيل أحداثها مجدداً، أو كان اعتناقها لليهودية بشكل فردي ولم يعتنقها الشعب معها، لذلك لم ترد لها إشارات في النقوش. لكن الأمر الراجح يبدو أن فترة المكاربة والنقوش والاكتشافات السبئية الحالية لما قبل الميلاد هي قبل حكم هذه الملكة وزيارتها سليمان، وهذا يتطلب إعادة قراءة التاريخ من جديد.
علماً أنه لا توجد أية أدلة من نقوش على أن هذا الملك تهود أو أدخل اليهودية إلى اليمن إلا من خلال الروايات العربية، مع أن نقوشه وابنه شرحبئيل يعفر تخلو من أية إشارات يهودية، وربما كانا يدينان بدين الحنفية التوحيدي، على الرغم من أنهما تقربا إلى إله دعوه بالرحمن رب السماء والأرض ( )، وهذه الفترة سميت بالفترة الحميرية.
لكن النتيجة والسؤال الأهم: متى تحولت المملكة عن اليهودية للمرة الأولى بعد ملكة سبأ والعودة الى عبادة الكواكب والنجوم السابقة لعهد ملكة سبأ مرة أخرى كما تظهر النقوش اليمنية التي بين أيدينا؟، ولماذا لم يتم عبادة آلهة أخرى غير الكواكب؟!
فمن خلال التاريخ السبئي المتأخر، والذي سمي بعصر الحميريين، نجد أن هناك نقوشاً لملك واحد مرة تذكر فعله وإنجازاته قبل تحول ديانته من عبادة الكواكب إلى عبادة رحمن ذي سماوي، ومرة تذكر إنجازاته بعد ذلك التحول العقائدي في حياته، ونجد في النقش الأول يذكر أنه قام بعمل معين بعون ورداء الآلهة المقه، وفي النقش التالي يذكر أنه قام بإنجاز عمله بعون ورداء إلهن ذي سمين وأرضن، وهذا الأمر يدل على أن الفجوة التاريخية هنا منعدمة ومردومة، وليس كما في المرحلة السبئية الأولى التي نجد من خلالها الكثير من الفجوات.
فمثلاً نقش شرحبئيل يعفر المرموز له ب ((CIH 554 أنه لم يذكر إله السموات، وكان فيه نقص...، ولا أية آلهة أخرى، بينما ذكر النقش الأخير لشرحبئيل نفسه والمرموز له ب(B،Gar Sharahbil A) يذكر إله السموات والأرض، وهذا يعني تحولاً عقائدياً في عهده، وذلك في عام 457م.
تبدو هذه فجوة كبيرة من ضمن الفجوات التاريخية اليمنية التي يتم القفز على مراحلها المختلفة، ستبينها اكتشافات أثرية من نقوش ولقى أخرى مستقبلاً.
وإذا كانت الأحداث المنسوبة إلى ذي نواس باضطهاد مسيحيي نجران لإعادتهم من المسيحية إلى اليهودية، فإن النقوش اليمنية لم تدون أساساً وجود ديانة مسيحية ليضطهدهم ذو نواس، أو مسروق، ويقضي عليهم، وهذا أيضاً من ضمن الفجوات التاريخية اليمنية. مع أن بعض الأحداث والتواريخ تتحدث عن وجود كنائس مسيحية في كل من نجران وظفار وماوية، قبل دخول الأحباش بطبيعة الحال( ).
توجد بعض الإشارات من كتابات خفيفة لوجود المسيحية في اليمن، ومن هذه الإشارات "إرسال الإمبراطور البيزنطي عام (354م) تقريباً الراهب تيفيلوس الهندي من جزيرة سقطرى للتفاوض مع الحميريين في مهمة ظاهرها حرية العبادة للنصارى الروم القاطنين في اليمن، وحقيقتها ضمان حسن معاملة اليمنيين للتجار البيزنطيين واتخذا موقف محايد بين بيزنطة والفرس، غير أن المهمة فشلت لأن الأمراء الحميريين كانوا يرون أن بيزنطة تساند الحبشة عدو الحميريين التقليديين"( ).
هناك دليل آخر على وجود المسيحية في تعز قبل الإسلام، وهو إشارة الصليب على بوابة قلعة القاهرة في المدينة، والتي كانت تسمى قديماً "حصن تعز"، وهو من استحداثات الأحباش بعد الغزو، فقد كانت طرق تعز ممرات لذلك الغزو من موانئ البحر الأحمر كالمخاء وذو باب وموزع (الصورة رقم4).
وتوجد بعض إشارات في بعض النقوش المسندية في عهد يوسف أسأر (ذي نواس) تدل على وجود المسيحية، وذكرها أن ذا نواس قام بإحراق كنيسة ظفار، كما في النقش (JAM 1028) حيث يقول في السطر الثالث منه:
ص ر و / م ر ا هـ م و / م ل ك ن / ي و س ف / ا س ا ر / ي ث ا ر / ك د هـ ر / ق ل س ن / و هـ ر ج / أ ح ب ش ن / ب ظ ف ر / و ع ل ي / ح ر ب / ا ش ع ر ن / و ر ك ب ن / و ف ر س ن....
المعنى:
رفاق سلاح سيدهم الملك يوسف أسار يثأر (عندما) تم إحراق الكنيسة وقتل الأحباش في (معركة) ظفار وفي حرب الأشاعر وفي حرب ركب...
ولم تتم أية إشارة للمحرقة التي نسبت إلى ذي نواس، مع أن النقوش والملوك الحميريين وغير الملوك من أقيال أو أعيان أو حتى مواطنين كانوا يدونون أحداثهم الصغيرة فما بالك بحدث بقدر المحرقة التي كان لها صدىً ودوي كبير حد خلدها القرآن الكريم وذكرها بكثير من التفصيل والتأثير النفسي والقِيمي والديني والإنساني.
لا تفسير لذلك إلا أن الحادثة لم تكن في اليمن، أو إنه لم يتم العثور على أية نقوش تدون تلك الحادثة حتى الآن.