يحمل شهر رمضان المبارك في اليمن روحا مميزة لا تكاد توجد في أي بلد آخر، ورغم قسوة الظروف فإن أهل اليمن ما زالوا قادرين على الاحتفال ونشر طقوس البهجة وأهازيج الخير والبركة في ليالي رمضان وأمسياته.
الشعبانية وليالي الاحتفالات الطويلة
تبدأ الاحتفالات والاستعدادات لشهر رمضان المبارك في اليمن منذ وقت مبكر، فمع بدايات شهر شعبان تحرص الأسر اليمنية على شراء مستلزمات الشهر الكريم، ويحرص أصحاب الأعمال الشاقة على الانتهاء منها قدر الإمكان قبل الشهر، كي لا يُرهقون أثناء الصيام.
ومع منتصف شعبان تُقام ليالي الشعبانية، حيث يحرص أغلب أهل اليمن على الصيام، والتجمع بعد الإفطار في حلقات لقراءة آيات القرآن الكريم، واستقبال شهر رمضان بالإنشاد: "الصلاة والسلام عليك يا سيد المرسلين، مرحبا بك مرحبا يا شهر رمضان، مرحبا بك يا شهر القرآن، مرحبا بك يا شهر المصابيح، مرحبا بك يا شهر الرحمات، مرحبا بك يا شهر التراويح، مرحبا بك يا شهر البركات".
وللأطفال نصيب خاص في هذه الاحتفالات، حيث يعملون على صناعة لعبة من الأكياس والعصي والعلب الفارغة تُجمع معا وتُصنع على شكل جَمَل مزين بالشرائط الملونة، ويتجولون بصحبته في أزقة الأحياء وشوارعها ويرددون: "الجمل جاوع نشتي حق الشعبانية"، ويتلقون من الكبار الحلوى والهدايا والنقود.
ومع نهاية شعبان والإعلان عن قدوم شهر رمضان، عادة ما يُجمع الرماد ويُعجن بـ"الجاز" أو "الكيروسين" ويُشكَّل على هيئة حلقات دائرية تُشعل فيها النار على أسطح المنازل احتفالا بالشهر الكريم، ويتجمع الأطفال في الشوارع ليرددوا أجمل أهازيج الترحاب بالشهر الكريم وتُعرف بالتماسي، ومن بين أشهرها:
"رمضان روحي روحي..
رسول الله ممدوحي..
رمضان شهر الإحسان..
صومه بالخير يوحي".
ومن ضمن الأهازيج كذلك:
"يا مَسْاء جيت أَمَسّي عندكم
يا مساء كثر الله خيركم
يا مساء جيت أمسي من يريم
يا مساء بالغرارة والشريم
يا مساء جيت أمسَي عندكم
يا مساء زوجوني بنتكم
يا مساء جيت أمسَي من ذمار
يا مساء بالغرارة والحمار".
ليالي رمضان المضيئة وأزمة الطاقة
لطالما كان الفانوس واحدا من أهم مظاهر رمضان في العديد من الدول العربية، وتتفق أغلب الروايات التاريخية على أن ارتباطه بالشهر الكريم يرتبط بزمن الحكم الفاطمي لمصر، لكن أهل اليمن لم يعرفوا الاحتفال بفانوس رمضان إلا متأخرا.
وبينما تحتفل الكثير من الدول بالشهر الكريم عن طريق تعليق الكثير من الإضاءات الكهربية الملونة في الشوارع وعلى واجهات البيوت، لا يعرف اليمن مثل هذا النوع من الاحتفالات. فقد عانى اليمن، ولا يزال يعاني، من أزمة طاقة، ازدادت سوءا منذ اشتعال الحرب في 2015، لتنخفض نسبة السكان الحاصلين على الكهرباء أكثر وأكثر، وتعتمد أغلب الأسر على ألواح الطاقة الشمسية والمولدات الخاصة بعيدا عن المؤسسات العامة، وهو ما يعني أن شراء ألواح الطاقة الشمسية والتأكد من كفاءتها أصبح واحدا من طقوس الاستعداد للشهر الكريم. أما الفانوس فهو يُستخدم بالفعل لكن ليس للزينة والاحتفال، وإنما ليكون مصدر إضاءة احتياطيا.
وكما تقول الطبيبة الفرنسية كلودي فايان في كتابها "كنت طبيبة في اليمن": "وقد وجد اليمنيون حلا لصعوبة رمضان، فهم يستيقظون الليل وينامون النهار، ويسير كل شيء في هدوء. ففي الصباح تخلو الشوارع وتغلق الدكاكين، ويخرج العساكر من أماكنهم والنوم يداعب جفونهم، ويذهبون إلى المسجد للصلاة، بل إن المستشفى يخلو من المرضى الذين يرفضون العناية بهم في رمضان".
وتضيف قائلة: "ولكن الناس أجمعين يتلون القرآن حتى أولئك الذين لم أكن أصدق أنهم يعرفون القراءة. ويكون السؤال عندما يلتقي الناس في الشارع هو (كيف رمضان؟). وبعد الظهر تدب الحياة في المدينة بالقدر الذي لا غنى عنه.. وعند الغروب تعلن المدافع انتهاء الصيام.. ويسرع الناس فيشربون، ويشعلون لفافات التبغ ويتناولون قطعة من الخبز وبعض حبات التين.. ولكن لا أحد يأكل قبل أن يقتسم اللقمة الأولى مع أول مَن يلتقي به في الطريق في تلك اللحظة".
يختلف اليوم الرمضاني في اليمن، حيث ينقلب رأسا على عقب، ويصبح النهار وقت الراحة والنوم، والليل وقتا لليقظة، وتخلو الشوارع من العمل، وتخفض المصالح الحكومية ساعات العمل إلى 5 ساعات فقط، وهو ما يتواءم مع حرارة الجو الشديدة وأزمة الطاقة التي لا تسمح عادة باستخدام مبردات الهواء.
الحبوة والمتكى وجلسات
وعقب صلاة الظهر يبقى الكثير من الناس في المساجد للتدبر، وقراءة آيات القرآن الكريم في جلسات تطول، وهو ما يجعلهم يصطحبون معهم ما يُعرف بالحبوة، وهي عبارة عن حزام عريض يضم القدمين إلى الجسد في وضعية الاحتباء، وهو ما يساعدهم على الجلوس لساعات طويلة، وتُستخدم الحبوة عادة في مناطق الجنوب، بينما يستخدم أهل الشمال وسائد توضع للاستناد أو الاتكاء عليها وتُعرف بالمتكى.
وتستمر هذه الجلسات حتى العصر، وقد يبقى البعض حتى اقتراب صلاة المغرب، والبعض يصطحب إفطاره إلى المسجد ليفطر به ويشاركه مع الآخرين. وبمجرد الإفطار يندفع الكثيرون إلى مضغ القات، وتنتشر مجالس القات التي تمتد فيها الأحاديث والأسمار من بعد صلاة التراويح وحتى قبيل أذان الفجر، وهي من أشهر العادات التي أشار إليها المصور الأسترالي ماكس بام في كتابه الشهير "رمضان في اليمن" (Ramadan in Yemen) الذي وثق فيه أبرز العادات الرمضانية اليمنية.
ليالي الختايم.. بهجة واحتفالات
في حضرموت تُعَدُّ الختايم من أهم طقوس رمضان، وتُقام احتفالا بالختم الجماعي لقراءة القرآن، حيث يتجمع أهل الحي في المساجد لقراءة القرآن وختمه بشكل جماعي. تبدأ ليالي الختايم من بعد صلاة العصر، ويتجمع أهل الحي أمام المسجد لأداء رقصات شعبية من أشهرها الشبواني.
كما يتجمع الصغار أيضا للاحتفال مرتدين الملابس الجديدة المستوحاة من الأزياء التقليدية، وتخضّب كفوف البنات بالحناء، ويدور الأطفال من شارع إلى آخر مرددين: "هاتوا الختامة الجديدة والا كسرنا الحديدة"، كي يتلقوا الحلوى والعطايا والألعاب، وعقب صلاة التراويح تشهد الساحات فقرات إنشاد وشعر حتى قبيل منتصف الليل.
"كان لمدينة صنعاء تسعة أبواب، وكان لا يدخلها غريب إلّا بإذن، كانوا يجدون في كتبهم أنها تخرب من رجل يدخل من باب لها يسمّى باب حقل، فكانت عليه أجراس متى حُرِّكت سُمع صوت الأجراس من الأماكن البعيدة، وكانت مرتبة صاحب الملك على ميل من بابها، وكان من دونه إلى الباب حاجبان بين كلّ واحد إلى صاحبه رمية سهم، وكانت له سلسلة من ذهب من عند الحاجب إلى باب المدينة ممدودة وفيها أجراس، متى قدم على الملك شريف أو رسول أو بريد من بعض العمال حُرِّكت السلسلة، فيعلم الملك بذلك فيرى رأيه".
يُعَدُّ شهر رمضان الكريم باب رزق مهما للعديد من العائلات اليمنية، لزيادة الدخل أو التخلص من البطالة، حيث يعمل الكثيرون في أعمال إضافية لزيادة دخولهم، مثل بيع العصائر والحلويات الرمضانية والسمبوسة والسواك، وكذلك المشاقر، وهي نباتات عطرية تُستخدم للزينة في المناسبات مثل الحمحم والريحان والنرجس والفيجل، التي يُقبل الناس على شرائها بكثرة في رمضان.
أما المطبخ اليمني فإنه يعتمد بشكل كبير على لحوم الضأن والماعز، ومن الخضراوات على البطاطس والبصل والطماطم. يُعَدُّ طبق الحلبة اليمنية من أكثر الأطباق المميزة في اليمن، في كتاب "نور الأبصار وشفاء خواطر الأفكار" يذكرها العلامة أحمد بن عبد الله بن إسماعيل قائلا: "الحلبة مشهورة في صنعاء وجوارها خصوصا ‘كوكبان’، ومعتمدة صباحا ومساء على الأطعمة، واشتهرت وشاعت بأرضنا ولهم فيها اليد الطولى حتى ألِفتها النفس، ويُختلف إحضارها اختلاف الصنعة، فمنهم مَن يجعل على الحبوب الماء مرتين أو ثلاثا حتى تزول عنها المرارة، وتجفف وتطحن طحنا جيدا وتذر على الماء وتضرب حتى تظهر ‘اللعابية’ (الرغوة) منها، فتسقى قليلا بالماء وتوضع على الطعام بعد تقديمه ساخنا، وكان البعض يضعها على السمن".
ويشتهر اليمن أيضا بتنوع أنواع الخبز، ومن أشهرها خبز التنور والمرقوق والملوح أو الرشوش واللحوح. وعلى المائدة الرمضانية اليمنية تتنوع الأطباق التقليدية المميزة، ومن بينها الزربيان، وهو عبارة عن طبق الأرز مع اللحم أو الدجاج المطهو مع البهارات واللبن الرائب، وأيضا الشفوت، وهو عبارة عن رقائق خبز اللحوح المغطى بالنعناع الأخضر الطازج والكمون والملح.
ومن أشهر أطباق المطبخ اليمني كذلك طبق السلتة، وتشتهر في شمال اليمن أكثر منها جنوبا، وتُعَدُّ من الحلبة والمرق ويضاف إليها أحيانا اللحم المفروم أو التونة، كما يوجد طبق عقدة اللحم أو عقدة الدجاج، ويُطهى فيه اللحم أو الدجاج مع بهارات الهيل والكمون والفلفل والقرفة. وأيضا الفتوت وهو طبق مشابه للفتة أو الثريد، يُصنع من الخبز المقطع والمضاف إليه المرق مع السمن، وقطع اللحم المسلوق، وقد يؤكل مع الحليب. وعلى المائدة اليمنية سوف تجد أيضا طبق السحاوق، وهو عبارة عن صلصة تُعَدُّ من الفلفل الحار المسحوق مع الثوم والبهارات المختلفة، والاسم مشتق من الطريقة التقليدية لإعداد السحاوق باستخدام حجرين لسحق المكونات. وفي الجنوب تشتهر أطباق الأرز مع اللحم بأنواعه المختلفة؛ المضبي، والمندي، والحنيذ.
أما الحلويات الرمضانية فأشهرها المهلبية أو المحلبية وبنت الصحن، وهي نوع من الفطائر المحلاة التي تتكون من عدة طبقات من العجين الرقيق، وتُحلَّى بالعسل وتُزيَّن بحبة البركة، وهناك أيضا حلوى الطرمبة، وتتكون من خليط من الدقيق والسكر والبيض، تُشكَّل وتقلى بالزيت، ثم تُحلَّى بالعسل أو الشيرة.
أما المشروبات فيُفضِّل البعض تناول قشر القهوة، وهو مشروب محلي يُصنع من قشور القهوة المغلية التي يضاف إليها أحيانا القرفة أو الزنجبيل، في كتابه "اليمن.. رحلة إلى صنعاء"، يصف الرحالة الإيطالي رينزو مانزوني كيف يبيع أهل اليمن حبوب البن ويحتفظون بالقشر لشربه. وهناك أيضا مشروب القديد ويُصنع من المشمش المجفف.