حسنا، هي شكوى متكررة نسمعها كثيرا وبأكثر من لهجة عربية، بل ونُطلقها بأنفسنا في بعض الأحيان، عن رمضان القديم حيث عمَّ الخير والدفء البيوت وعرض التلفاز ما لذ وطاب من علامات الفن الراقي، في مصر مثلا يفقد الناس الفوازير وحلقات ألف ليلة وليلة وبرنامج "بدون كلام"، سيقول لك الناس في السودان إنهم مروا برمضان أفضل قبل عقدين من الزمان، ستجد الحديث نفسه في المغرب والأردن ودول الخليج العربي عن رمضان الذي عشناه أو عاشه آباؤنا أطفالا وهو لا شك أفضل من رمضان الحالي.
البعض يُعبر عن شعوره بقدوم الشهر الكريم بتعبير "روائح رمضان"، يشعر البعض أن لرمضان رائحة ينشرها في الأجواء قبل قدومه بأيام، ويُعبر بعض الذين يحنون لرمضان في الماضي أنهم لا يجدون هذه "الرائحة" التي اعتادوها. بالطبع، نحن نمر حاليا بظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية قاسية في بعض المناطق بعالمنا العربي، وبالتبعية فإن حديث البعض عن رمضان القديم ربما يكون مُحمَّلا بأعباء تلك المشكلات، لكن الأمر في جوهره أعمق من ذلك، لأن كل البشر تقريبا يرون أن ماضيهم أفضل من حاضرهم.
عندما يبقى الناس والأحداث معك
يعتقد الباحثون أن تلك المواقف المشحونة عاطفيا يمكن أن تقودنا إلى خلق ذكريات تدوم لفترة أطول عن الحدث.
تُعرِّف جمعية علم النفس الأميركية "الذاكرة العاطفية" بأنها الاستدعاء المتكرر للأحداث التي تثير استجابة عاطفية ما، وهو ما يجعلنا نتذكرها مرارا وتكرارا. تسمح الذاكرة العاطفية للأفراد بتجربة المشاعر الأصلية الناتجة عن حدث ما سواء كانت إيجابية أو سلبية، مثل مشاعر الرعب عند وصف حادث، أو الفرح عند وصف حفل زفاف أحد أفراد الأسرة المقربين، بمجرد تذكُّر الحدث، أي إن الشخص يشعر هنا بالمشاعر نفسها التي عايشها عند حدوث الحدث واقعيا بمُجرد أن يستحضر هذا الحدث من ذاكرته.(1)
ينطبق الأمر ذاته على ما يبدو على المشاعر الرمضانية المُخزنة في ذاكرتنا، تلك المشاعر التي تشمل دفء الأم وحنان صوتها ورائحة طعامها الطيبة، أمان وطمأنينة وجود الأب، أُنس الإخوة في اللعب والشجار على حدٍّ سواء، بمرور السنوات تتغير الصور والبيوت والأوضاع، فيمر رمضان جديد على الشخص ذاته، دون أن يكون أبواه إلى جواره، أو بعد أن تكون ظروف الحياة ومسؤولياتها قد باعدت بينه وبين إخوته وشغلت كلًّا منهم بحياته الخاصة. عندما يستدعي هذا الشخص ذكرى رمضان في الماضي من ذاكرته يجدها مُحملة بالكثير من المشاعر الدافئة الطيبة، التي لا يجدها الآن، فلا يشعر أن روائح رمضان وسعادته اليوم تُشبه أو تقارب ما عايشه من قبل.
يقودنا هذا للحديث عن مفهوم العاطفة وكيف تؤثر على إدراكنا للأحداث. ورغم عدم وجود تعريف مقبول عالميا لمصطلح "عاطفة"، فإن كل شخص لديه فهم شخصي لما يعنيه أن يكون لديه استجابة عاطفية تجاه شيء ما. اعتبر الباحثون في مجال الذاكرة أن الحدث يُوصف بأنه "عاطفي" إذا شعر الشخص أو قيَّم الحدث بأنه ممتع أو غير سارٍّ بطبيعته، أو إذا تسبب الحدث في إحداث تغيير في مستوى استثارة الشخص، وتغيير درجة هدوئه أو مدى حماسته.(2)
وقد لوحظ علميا تأثير غريب للعاطفة على تكوين الذاكرة، وهو أن حالتنا العاطفية في وقت وقوع الحدث يمكن أن تؤثر على قدرتنا على حفظ تفاصيل ذلك الحدث، فبسبب ما شعرت به سابقا من الشعور بالأمان والاطمئنان والدفء والأُنس ووجود الأحبة في الجوار، فإن كل تفاصيل ما عايشته سابقا من المواسم الرمضانية تظل محفورة في ذاكرتك، رائحة الطعام قبل الإفطار، صوت القرآن، المسلسل الذي شاهدته مع أفراد أسرتك، لمسة الهواء الرطب على وجهك وأنت تلعب مع إخوتك بعد الإفطار بينما يصلك صوت صلاة التراويح والأدعية من أقرب المساجد لمنزلك.
في الواقع، يعتقد الباحثون أن تلك المواقف المشحونة عاطفيا يمكن أن تقودنا إلى خلق ذكريات تدوم لفترة أطول عن الحدث. عندما نختبر مشاعر البهجة أو الغضب أو حالات ذهنية أخرى، فغالبا ما يكون تكوين الذكريات الحية ممكنا باحتمالات أكبر من المواقف اليومية التي نشعر تجاهها بقليل من الارتباط العاطفي أو لا نشعر تجاهها بأي ارتباط عاطفي مطلقا.(3)
تتضح هذه الحقيقة خلال تجربة أجراها عالم النفس المعرفي دونالد ماكاي وفريق من الباحثين، حيث طُلب من المشاركين الانخراط في اختبار عاطفي، قُدِّمت خلاله مجموعة من الكلمات المختلفة للمبحوثين بتتابع سريع. طُبِعت كل كلمة بلون مختلف، وطُلب من المبحوثين تذكُّر اللون الذي طُبعت به الكلمة. كما طُلب منهم لاحقا أن يتذكروا الكلمات بعد الاختبار الأولي. وجد ماكاي أن الكلمات التي كان الغرض منها إثارة استجابة عاطفية، تم تذكرها بشكل متكرر أكثر من الكلمات التي تحمل دلالات عاطفية أقل.(4)
يشرح تقرير نُشر عبر منصة "سايكولوجي توداي" كيف يمكن أن يؤدي تذكُّر الماضي إلى إيقاظ استجابة عاطفية، مثل رعشة من الإثارة أو حرارة الغضب أو ألم الحزن أو حتى الحنين إلى الشعور بالسعادة والفرحة الذي ذُقناه سابقا. (5) وتشير كاتبة التقرير، ماري لاميا، وهي أخصائية نفسية إكلينيكية ومحللة نفسية، إلى أن الذكرى العاطفية الطيبة بمقدار ما تحمل لنا من السعادة والدفء، تحمل لنا الألم أيضا لأنها لم تعد موجودة، ونشعر بألا شيء يُمكنه أن يحلّ محلها أو يعوض دورها. تُعبر عن هذا من خلال سرد تجربة شخصية خاصة بها قائلة: "لقد فتحت صندوقا تم تخزينه بعيدا لسنوات عديدة ووجدت شيئا يخص أمي. إلى جانب الابتهاج، نشأ حزن مؤقت بداخلي، كما لو كنت قد تواصلت معها بطريقة ما مرة أخرى".(5)
النوستالجيا لها دور رئيسي
وبخلاف أن المواسم الرمضانية التي عاشها البعض خلال الطفولة والصبا تكون مشحونة بالمشاعر والعواطف التي تُمكنهم من ترميزها بوصفها ذكرى عاطفية، هناك سبب آخر قد يقف وراء الاعتقاد بأن رمضان في الماضي كان أفضل، هذا السبب هو النوستالجيا أو الحنين، وهو عاطفة تنشأ تجاه الماضي، عادة ما تكون هذه العاطفة موجهة لفترة زمنية أو مكان به علاقات شخصية سعيدة.
يحدث الحنين إلى الماضي من خلال حدوث شيء يُذكِّر الفرد بتجربة سابقة. غالبا ما يُوصَف هذا الشعور بأنه شوق أو رغبة في العودة إلى زمان أو مكان سابق. قد لا يتعلق الحنين فقط بالذكريات السعيدة، بل يمكن أن يتعلق هذا الشعور أيضا بالشوق إلى وقت كانت فيه الأمور أكثر بساطة، أو إلى وقت شعرنا فيه بارتباط أكبر بالآخرين.(6)
لسنوات طويلة طُوِّرت العديد من المؤلفات حول سيكولوجية الحنين إلى الماضي، الكثير منها سلط الضوء على الآثار الإيجابية للحنين، وهو ما جعل هذا الشعور يُشار إليه على أنه عاطفة إيجابية في الغالب.(7) لكن من ناحية أخرى، تُظهر الأبحاث أن الأشخاص ينخرطون في خيالات الحنين إلى الماضي عندما يشعرون بالضعف في محاولة لتعزيز حالتهم المزاجية وثقتهم بأنفسهم خلال الوقت الحاضر. لذلك، يرى ديفيد نيومان، عالم النفس بجامعة جنوب كاليفورنيا، وزملاؤه أن مشاعر الحنين إلى الماضي قد ترتبط كذلك بالحزن.
خلال دراسة معملية حول الأمر، استخدم الباحثون تقنية تُعرف بـ"تجربة أخذ العينات". تتيح هذه الطريقة لعلماء النفس الحصول على لقطات من حياة المشاركين في الوقت الحالي الفعلي عن طريق تنزيل تطبيق على هواتفهم الذكية يرسل إليهم بعض الرسائل على فترات عشوائية طوال مدة الدراسة، التي عادة ما تصل مُدتها إلى أسبوع أو أكثر.
في كل مرة يتلقّى فيها المشاركون رسالة نصية، يُطلب منهم إكمال استبانة موجزة يذكرون خلالها ما يفعلونه ويفكرون فيه ويشعرون به في تلك اللحظة بالذات. أُرسل إلى المشاركين في البحث ثماني رسائل عشوائية خلال اليوم، وتوصل الباحثون إلى أن الناس كانوا أكثر عُرضة لتجربة الحنين إلى الماضي عندما كانوا يشعرون بالحزن أو الكآبة أكثر مما كانوا في حالة مزاجية سعيدة.(8)
شهر رمضان بالنسبة للبالغين المسؤولين عن أسر وأبناء رُبما يعني المزيد من الضغوطات المادية. قد يكون من الطبيعي أن تختلف فرحتك طفلا بالفانوس والمكسرات والياميش والمائدة العامرة بما لذّ وطاب من أصناف الطعام الساخنة على الإفطار، وشعورك بالغا تجاه الأشياء ذاتها عندما تكون أنت هو الشخص المنوط به توفيرها. رُبما يكون من المنطقي هنا أن يهرب هؤلاء الذين يشعرون بالضغط مع عدم وجود آليات ممكنة للتكيف أو التعامل من اللحظة الحالية، مُسجلين بمشاعرهم حالة من الحنين للأيام الماضية التي يرون أنها أجمل، بما لا يُقارن، من الأيام الحالية.
ما قد تقوله لنفسك في هذا السياق: "كنت سأصبح أسعد لو استمرت الحياة بهذه البساطة، كانت المدرسة والواجبات المنزلية أسهل بكثير من العمل وكل شيء آخر يتعين عليّ القيام به الآن". لكن ذاكرتك هنا عادة ما تكون انتقائية، تميل إلى تأييد فكرتك فتغفل عن الكثير من اللقطات السلبية، التي تُسقطها لكي لا تفقد ذكراك جمالها، فتنسى مثلا صوت الشجارات المنتظمة بين والديك التي تزداد بشكل خاص في المواسم مع زيادة الضغوط المادية.(9) في الواقع، رُبما يكون رمضان الحالي أكثر دفئا وجمالا مما عايشته سابقا، لكنك لا تشعر بهذا، لأنك تحن فقط إلى الذكريات التي يوهمك عقلك أنها كانت أجمل بكثير.