[ جار الله عمر ]
شكل اليمن بؤرة صراعات لا تنتهي منذ انتهاء الحكم الملكي على يد الرئيس الأول للجمهورية عبد الله السلال في ثورة سبتمبر/ أيلول 1962.
وقد استطاع القيادي البارز في الحزب الاشتراكي جار الله عمر قراءة هذه الفترة ونقدها واستشراف نتائجها على المستقبل عبر مذكراته التي وثّقتها الباحثة الأميركية ليزا ويدن، وصدرت بعد مرور 18 عامًا على اغتياله في عام 2002.
وفي المذكرات توثيق لأهم الأحداث السياسية التي عاصرها عمر، بدءًا من الدفاع عن الجمهورية بوجه الحكم الإمامي، مرورًا بحرب الشمال والجنوب وبذور الخلافات بين رفاق الصف الواحد في الجنوب، وصولًا إلى أحداث يناير/ كانون الثاني (1986) التي نجا منها، وحرب 1994 وما تلاها من أحداث حتى يوم اغتياله.
شخصية استثنائية
كان عمر صاحب شخصية استثنائية في المشهد اليمني. تلقى تعليمه في كتّاب القرية وقاد المظاهرات الجماهرية في صنعاء بعد انتصار الثورة.
وتأثر بحركة القوميين العرب التي نشطت آنذاك وانتقل إلى عدن ليخوض تجربة الحكم مع باقي أعضاء الحزب الاشتراكي.
ويقول المؤرخ والكاتب فواز طرابلسي: "إن جارالله عمر مناضل جمهوري مؤمن بوحدة اليمن في وقت كان البلد منقسمًا"، لافتًا إلى أنه تولى مسؤوليات قيادية في شمال اليمن قبل أن ينتقل إلى جنوب البلاد.
ويصف طرابلسي عمر بالهادئ الذي يعرف كيف يتعامل مع الخصوم وتوّج حياته بما لم يفعله أحد وهو أنه حاول أن يوحد المعارضة المدنية مع المعارضة الإسلامية في الشمال.
أمّا الكاتب والدبلوماسي اليمني علي محمد زيد فيقول عن عمر: "إنه شاب جمهوري يلخص تاريخ اليمن وتاريخ الصراع والرغبة في التغيير".
حركة القوميين العرب
وقد وقع انقسام بين أبناء الصف الجمهوري أدّى للإطاحة بالرئيس عبد الله السلال عام 1967 تحت قيادة الرئيس عبد الرحمن الأرياني بدعم سعودي. وانتهى بحصار الملكيين لصنعاء عام 1968 واعتقل على إثره عدد كبير من أعضاء حركة القوميين العرب. وكان من بينهم جار الله عمر.
وقد وُلد عمر في منطقة في وسط اليمن وتوفي والده قبل ولادته. وتعلقى تعليمًا دينيًا، ثم انتقل إلى مدينة قريبة ودخل المدرسة الشمسية قبل أن ينتقل إلى صنعاء للالتحاق بالمدرسة العلمية. وقد وصل إلى صنعاء في الوقت الذي كانت تشهد العاصمة فيه مظاهرات وقد شارك فيها ثم هرب إلى عدن وانتمى إلى كلية الشرطة.
وكان عمر ممن تحمسوا للجمهورية والتحق بحركة القوميين العرب.
ويقول عمر في مذكراته: "بدأت تظهر بعد عام انقسامات داخل الصف الجمهوري وكان العديد من شيوخ القبائل والسياسيين يعارضون سياسة المشير السلال، غير أننا في حركة القوميين العرب كنا مناصرين للسلال وللوجود المصري في اليمن. وقد شاركنا تحت قيادة الحركة في العديد من المظاهرات المؤيدة للرئيس السلال والمصريين. وكان العديد من السياسيين وبالذات الذين لهم صلة بالبعث يعارضون السلال، بالإضافة إلى بعض الأحرار القدامى، وقد كان خلاف الرئيس جمال عبد الناصر مع البعث في سوريا والعراق يلقي بظلاله على الأوضاع في اليمن".
الصراع مع جبهة التحرير
ويرى زيد أن الالتحاق بالحركة القومية كان لأنها تتناسب مع المرحلة التي تمر بها الجمهورية. ويلفت إلى أن عبد الناصر ألقى خطابًا في اليمن دعا فيه بريطانيا لحمل عصاها والرحيل. وقد تحمّس الشباب اليمني للحركة القومية التي تدعم الجمهورية والتحرر من المستعمر البريطاني.
ويوضح المؤرخ طرابلسي أنه في تلك الأثناء كان هناك حركة أخرى تدعى جبهة التحرير وكانت الأجهزة الناصرية تحاول توحيد الجبهة القومية وجبهة التحرير. ويشير طرابلسي إلى أن قواعد الجبهة القومية كانت أكثر انتشارًا في الجنوب وأكثر تمثيلًا وكانت ضد التوحد. وحصل نزاع بين الجبهتين هُزمت فيه جبهة التحرير.
ويشير نقيب الصحفيين اليمنيين الأسبق عبد الباري طاهر إلى أن مجموعة من حزب الأحرار التي يقودها القاضي عبد الرحمن الإرياني كانت تقترح عليه الاعتراف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، لكن الأرياني الذي أصبح رئيس جمهورية بعد انقلاب 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، طرح مسألة أهمية الاعتراف بالاستقلال وقيام علاقات مع الجنوب وأُرسل وفد من الشمال لمباركة الاستقلال في الجنوب وبدأ التحاور.
ويضيف عمر في مذكراته: "لقد كانت القوى التي نفذّت الانقلاب على السلال مزيجًا من الثوار الجمهوريين والقوى التقليدية ومن الحزبيين أيضًا، ولكنها غير متماسكة، فما كان يجمعها في الانقلاب هو الرغبة في عملية التخلص من السلال. كان الذين ينتمون إلى ثورة سبتمبر ومن ينضوي تحت لواء حزب البعث يرون في الانقلاب نوعًا من أنواع التصحيح للثورة سيخلق تماسكًا في الصف الجمهوري. أمّا القوى التقليدية فكانت تريد أن تعود بالثورة إلى الوراء وأن تنتزع السلطة من أيدي القوى الحديثة وتسيطر على النظام وهو ما حدث فعلًا بعد الانقلاب".
حصار صنعاء
ويشرح طرابلسي أنه بعد عام 1967 انسحب عبد الناصر من اليمن وطُلب من المناضل جار الله عمر أن ينضم إلى جهاز الشرطة وأصبح أحد الذين قاتلوا ضد المحاولة الأخيرة التي قامت بها المملكة العربية السعودية مع مرتزقة لاحتلال صنعاء في ما عُرف بحصار صنعاء الذي دام 70 يومًا وانتهى بانتصار الجمهوريين.
ويقول جار الله عمر في مذكراته: "نشبت معركة كبيرة داخل صنعاء يومي 23 و24 أغسطس/ آب 1968 حيث تمكنت القوى التقليدية من هزيمة القوى الجديدة. وتم اعتقال أعضاء حركة القوميين العرب واليسار وهرب عدد كبير من هؤلاء إلى المناطق الريفية وعدن".
المعارضة من عدن
توجّه جار الله عمر بعد خروجه من السجن إلى عدن وقاد معارضة ضد نظام الحكم في صنعاء وشارك في قيادة الحزب الاشتراكي الحاكم، حيث كان عضوًا للجنة المركزية وبذلك شهد على تحولات الجنوب ووثّق تجربة الحكم اليساري فيه مركزًا على الانقسامات والخلافات بين قياداته.
ويلفت المؤرخ فواز طرابلسي إلى تسلّم القيادات الجديدة وعلى رأسها إبراهيم الحمدي الحكم في الشمال حيث بدأت المحاولة الوحيدة لبناء دولة على حساب الكتلتين القبليتين الكبيرتين وعلى حساب الكتل السياسية المتصارعة.
اغتيال ابراهيم الحمدي
وكان مشروع إبراهيم الحمدي إقامة دولة مدنية وهو ما لا تريده السعودية، بحسب عبد الباري طاهر. وقد بدأ التحاور بين الشمال والجنوب وتم الاتفاق على قيام دولة الوحدة. وخطط أحمد الغشمي وعلي عبد الله صالح ومجموعة من الضباط بدعم سعودي لاغتيال ابراهيم الحمدي.
كان جار الله عمر قائدًا عسكريًا يقود معارضة مسلحة وكان قائد "تجربة اشتراكية" في الجنوب، بحسب طرابلسي.
ويعتبر جار الله في مذكراته أن مناخ التوتر الذي تلا استشهاد الحمدي ثم اغتيال الغشمي وإعدام سالمين وضع اليمن كلّه في حالة صراع متعدد الأطراف. ويضاف إلى التوتر بين الدولتين أن الصراع كان قائمًا في الشمال ذاته، حيث عادت أجواء الحروب السابقة بين الجبهة الوطنية وقوات النظام في صنعاء.
وبحسب عمر، "كان هناك جو شعبي معارض للنظام القائم في صنعاء باعتباره مسؤولًا عن اغتيال الحمدي والانقلاب عليه. ومعروف أن الرئيس علي عبد الله صالح قد اختير رئيسًا بعد مقتل الغشمي وقد استمرت المعارضة في الشمال ضد نظام صالح مثلما كانت ضد سلفه".
تأجج صراع السلطة بين أبناء الحركة بعد إعدام سالمين من قبل رفاقه عام 1978 نتيجة خلافه مع الرئيس عبد الفتاح اسماعيل في عدن آنذاك. إلا أن الصراع انتقل بعد ذلك بين القيادة الجديدة وعلى رأسها علي ناصر محمد ونائبه علي عنتر بعد إخراج إسماعيل من السلطة عام 1979. وبدأ كل طرف بجذب الجيش لصالحه مما ساهم في انفجار أحداث 1986.
وبحسب جار الله عمر: "اتسع نطاق التدخل من الخارج سواء من البلاد العربية أو من الكتلة السوفياتية بسبب غياب التقاليد الديمقراطية داخل الحزب لحل الخلافات بوسائل سلمية وغياب التعددية الحزبية". ويذكر "أن الصراع انتقل إلى داخل الجيش والأمن".
امتلك جار الله عمر جرأة المراجعة الفعلية لانتقاد تجربة الحكم اليساري في الجنوب مقرًا بأخطاء حزبه بعد الأحداث الدموية التي شهدها عام 1986 وقُتل خلالها الآلاف وشكّلت منعطفًا هامًا في الحزب ما دفع البعض للقول إنها تجربة قد سقطت تاريخيًا.
ويعتبر طرابلسي أن أحداث يناير/ كانون الثاني 1986 قضت على تجربة بناء نظام يطمح إلى العدالة الاجتماعية لكنه قائم على الانفراد بالسلطة لحزب حاكم تأثر بالتجربة السوفياتية. وقد رأى عمر أن الحل يكمن في التعددية.
مشروع الوحدة
في عام 1989، حمل الرئيس علي عبد الله صالح مشروع الوحدة مع عدن على أساس فدرالي وكان جار الله عمر مؤيدًا للوحدة بشكلها الكونفدرالي، وينتقل خلالها الجنوب إلى التعددية والديمقراطية، إلّا أن ما قام به علي سالم البيض رئيس عدن آنذاك، مهّد لعودة الحرب بين شطري اليمن.
ويقول جار الله عمر في مذكراته: "هنا خيّمت أجواء الحرب وأفرزت طرفين رئيسيين، واحد في صنعاء وآخر في عدن، جيشان وطرفان رئيسيين. وكنت صرّحت من قبل أنه إذا قامت الحرب وحصل الانفصال فسأغادر اليمن. كما تم إفراز طرف ثالث ضعيفًا، كنت من ضمنه، حاول أن يعبّر عن موقفه الرافض للحرب والانفصال معًا" ويضيف: "كان واضحًا أن قرار الحرب بيد الرئيس علي عبد الله صالح وهنا أصبح موقفنا الرافض للحرب والانفصال ضعيفًا ومهمشًا. وعندما بدأت الحرب، ضاع موقف الطرف الثالث وأنا منه بين أصوات المدافع والطائرات".
وشرح الكاتب والدبلوماسي اليمني علي محمد زيد أن حرب 1994 أخرجت الحزب الاشتراكي من الحكم بعد تحقيق الوحدة وانفرد الأمين العام للحزب وعدد من العسكريين الذين هُزموا في الحرب بإعلان الانفصال وبالتالي أعطوا مبررًا متأخرًا للحرب.
وبحسب طاهر، كان يُنظر لعمر على أنه خائن لأنه يرفض الحرب والانفصال.
غادر جار الله عمر باتجاه المنفى بعد اتهامه بالخيانة من قبل رفاقه، إلّا أنه عاد في عام 1996 وبدأ بإعادة تشكيل الحزب الاشتراكي وتأسيس اللقاء المشترك بمشاركة أحزاب المعارضة. وشكّل اللقاء تهديدًا لنظام علي عبد الله صالح آنذاك.
لكن عمر أعاد بناء الحزب بقدر المستطاع، بحسب طرابلسي.
من جهته، يوضح زيد أن عمر كان في قلب الحركة التي تحاول إعادة الحزب الاشتراكي الممزق إلى العمل من جديد وكان الشخصية الأولى لإعادة الحزب إلى النشاط والعمل الديمقراطي وحاول أن يتحالف مع القوى المعارضة المختلفة.
ويروي جار الله عمر في مذكراته أجواء الضغوط التي سبقت مؤتمر 30 أغسطس/ آب 2000. وقد افتتح الجلسة الأولى في المؤتمر.
وتمكن جار الله عمر من جمع المعارضة بطرفيها اليميني واليساري بأهم لقاء مشترك في مؤتمر التجمع اليمني للإصلاح. ودفع روحه ثمنًا لتلك الخطوة مكرسًا لمبادئه حتى آخر لحظات حياته.
قُتل جار الله عمر بعد لحظات من مطالبته بقانون ينظم حمل السلاح عام 2002. وباغتياله انتهى دور الحزب الاشتراكي اليمني في الحياة السياسية.