[ محمد سالم باسندوة رئيس الوزراء اليمني الأسبق ]
يستريح الرجل المتقدم في السن (88 عاماً)، على أريكةٍ في صالون شقته، وأمامه شرفةٌ زجاجيةٌ عريضة يطل منها على وسط القاهرة متأملاً صيرورات الحياة وحكايات الدنيا في المدينة التي أصبحت ملاذاً لعشرات من كبار رجال السياسة اليمنيين الذين أجبرتهم سنوات الحرب الدائرة في بلادهم على هجر بيوتهم وذكرياتهم.
وراء مقعد محمد سالم باسندوة، رئيس الوزراء اليمني الأسبق وأحد أشهر وزراء الخارجية العرب ممن لا يزالون على قيد الحياة ما يشبه معرضاً من الصور النادرة أعد بطريقةٍ فنية واحترافية ليحكي قصة توثق لحياة الرجل منذ أن كان واحداً من أبطال حرب التحرير ضد الوجود الاستعماري البريطاني في جنوب اليمن، مروراً بسلسلةٍ طويلة من المناصب القيادية الرفيعة في حكومات عدة متعاقبة، وانتهاءً بتوليه رئاسة ما عرف بحكومة (الوفاق الوطني) عقب الانتفاضة الشعبية التي أفضت إلى تنحي الرئيس الراحل علي عبدالله صالح عن السلطة العام 2012.
لكن ترتيب الصور في هذا المعرض المتناسق بدا وكأنه أُعد خصيصاً ليروي في الواقع فصولاً من تاريخ السياسة العربية وحتى الدولية، على الأقل من منظور اللقاءات التي جمعت الرجل بأقطاب هاتين السياستين حول العالم خلال أكثر من نصف قرن مضى.
لكل واحدة من الصور حكايتها عن الظرف السياسي الخاص الذي التقطت أثناءه، وأغلبها تم خلال أزمات إقليمية وعالمية سواءٌ في زمن الحرب الباردة أو ما بعدها مع زعماء وقادة كبار عرب وعالميين من بينهم جمال عبدالناصر وأنور السادات والحبيب بورقيبة وفرانسوا ميتران وجورج بوش الأب وملوك وأمراء عرب وغيرهم.
وإلى جانب تلك الصور توجد نماذج من الأوسمة والهدايا التذكارية التي يرمز تلقيه إياها إلى احترام الدور الذي لعبه في معالجة تلك الأزمات، مع أن دوره خلال الحروب التي شهدها شطرا اليمن قبل توحيدهما العام 1990 كان ما يزال موضع تحفظ لدى البعض.
وفي التفاتة إنسانية لم يفت باسندوة أن يضع ملحقاً بذلك المعرض يضم صوراً لزوجته وأبنائه وأحفاده ممن عاشوا معه رحلة حياته المثيرة إلى جانب مصحف نفيس بخط اليد محفوفاً بزخارف ملونة بديعة.
مخاضات وملاحم
غير أن القراءة ولو ملياً في تلك الصور لا تغني البتة عن الاطلاع على مذكراته "البداية ؛ النضال من أجل الاستقلال" حيث يعرض باسندوة فيها لسيرة حياته النقابية والسياسية الممتدة لنحو ستة عقود من الزمن بدءا من اشتغاله بالصحافة، مروراً بانخراطه في حرب التحرير ضد المستعمر البريطاني في جنوب البلاد. وكذلك خبراته وتجاربه عبر سلسلةٍ من المواقع والمناصب الرفيعة التي تبوأها ولقاءاته المهمة مع عديد من الزعماء والقادة العرب.
ومن بين هؤلاء القادة الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر الذي وافق على تأسيس مكتب في القاهرة لحزب الشعب الاشتراكي الذي كان يقوده إلى جانب رفيقه عبدالله الأصنج رئيس الحزب.
كما يعرض في مذكراته لانخراطه كسياسي في التفاوض، إلى جانب قادة سياسيين آخرين مع سلطات الاحتلال البريطاني حول ترتيبات جلائها من جنوب البلاد، وصولاً إلى إنجار حلم الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر/تشرين الثاني العام 1967.
يظل من الواضح أنه إذا أردنا استجلاء دور باسندوة في تلك المراحل فلا بد من البحث في مذكرات رفاقه عما أغفله في مذكراته التي اتسمت بالإيجاز والاقتصاد في استعراض تفاصيل أدواره المختلفة خلال وما بعد حرب التحرير.
الهجرة السياسية نحو الشمال
في ختام الجزء الأول من مذكراته الجديرة بالدراسة والبحث تناول باسندوة المقدمات التي قادت في نهاية المطاف إلى بروز "الجبهة القومية" ذات التوجه القومي اليساري كقوة منافسة استولت على مقاليد السلطة، واضطراره بعد ذلك إلى النزوح نحو شمال البلاد في مستهل مرحلة تالية من حياته السياسية لا تقل أهمية وإثارة عن مرحلتها السابقة، لعله أوشك على إتمام تدوينه لفصولها وإخراجها إلى النور ليكتمل بها طوق المعرفة لتجربته وحياته في الحرب والسلام، وخلال مرحلة بناء الدولة الوطنية وبعهدها.
قراءة استباقية
لم يعِد باسندوة بموعد محدد لصدور الجزء التالي من مذكراته الذي يتوقع أن يغطي مساحة طويلة من تجربته السياسية في شمال البلاد، غير أنه يمكن اعتماداً على مجموعة من اللقاءات والأحاديث الطويلة معه الإشارة إلى بعض من محطات هذه المرحلة.
بين اثنتين من تلك الحروب التي عاش باسندوة في خضمها بين شطري اليمن جاءت معرفتي به، في الأولى كان وزيراً للإعلام، ومشغولاً بالتعبئة لحرب العام 1979 رداً على تورط بعض منافسيه السابقين في دولة الجنوب في اغتيال رئيس الشطر الشمالي الراحل أحمد الغشمي.
وفي الثانية بعد أن عاد باسندوة من وزارة الخارجية ليتسلم حقيبة الإعلام بعد حرب العام 1994 بين شريكي قرار الوحدة، وهما الزعيمان الراحل علي عبدالله صالح ونائبه علي سالم البيض.
زيارة القاهرة
عندما زرته مؤخراً في العاصمة المصرية لاحظت أن السنوات قد أخذت بعضاً من حيويته رغم أنه بدا في صحة جيدة، حيث تعذرت عليّ مناقشته في بعض الأمور التي استوقفتني بعد قراءة كتابه "البداية" أو الجزء الأول من مذكراته المهمة.
كنت قد داومت على حضور مجلس مقيل باسندوة في صنعاء الذي كان يرتاده كثير من الساسة والمثقفين وزوار البلاد العرب والأجانب، وكان من بين زواره بانتظام صديقه عبدالعزيز بوتفليقة الرئيس الجزائري الراحل.
لا شيء غامضاً مما عرفته عن قرب وبُعد في حياة باسندوة العامة أو الخاصة التي تمتع خلالها بنقاء في السريرة. في الوقت نفسه فإن باسندوة، المحارب القديم ظل على صلابته في كثير من المعتركات التي استلزمت منه القوة والثبات. إلاَّ أن ذلك لم يحل بينه وبين من يظهر أمام كاميرات الصحافة والإعلام ذات يوم وهو يذرف دموعه الشهيرة خلال خطاب له أمام مجلس النواب أثناء توليه رئاسة حكومة الوفاق الوطني العام 2012 عندما تقدم بطلب مثير للجدل للموافقة على قانون يمنح الحصانة لصديقه (اللدود) علي عبدالله صالح الرئيس القوي السابق لتجنيب البلاد أي رد فعل عنيف إزاء انتفاضة شبابية عارمة كانت تطالب برحيله ومحاكمته.
لكن الصراحة والشجاعة الأدبية والواقعية السياسية كانت أيضاً من السمات المشهود بها له. ولا بد أن اليمنيين وغيرهم يتذكرون مقولته الشهيرة عقب تحقيق الوحدة اليمنية التي اقترن قيامها بإعلان الديمقراطية والتعددية السياسية كأساس لحكم البلاد، حيث قال "إن اتفاق شريكي قرار الوحدة (حزبا المؤتمر والاشتراكي) سيكون خطراً على الديمقراطية، وإن اختلافهما سيمثل خطراً على الوحدة".
وبعد اختلافهما خلال ما عُرف بحرب الانفصال العام 1994 قال: "لقد خربوا الاثنتين معا، الوحدة والديمقراطية".