[ جزء من مبنى كلية التربية في محافظة المهرة ]
ظهيرة أحد أيام شهر أغسطس من العام الماضي 2021 كنتُ مدعوا للغداء في منزل الأستاذ مختار عويض الجعفري وكيل محافظة المهرة، في مدينة الغيضة، وكان حاضرا في ذات المكان الدكتور العزيز محمد القدسي رئيس جامعة إقليم سبأ في مارب.
قال حينها الأستاذ الجعفري إنه استدعى الدكتور القدسي من مارب ليتناقش معه حول تجربتهم في إنشاء جامعة مارب، ليستفيدوا منها في إنشاء جامعة المهرة، التي كان قرار صدورها قد صدر إبان رئاسة الرئيس عبدربه منصور هادي، أو على وشك الصدور حينها.
كان الحماس متدفقا لدى الأستاذ الجعفري، في إخراج قرار الجامعة إلى الوجود، وجرى بذل العديد من الخطوات والمراجعات لدى الجهات الحكومية، خاصة رئاسة الجمهورية، ليخرج هذا القرار إلى النور، ويحقق واحدة من أسمى الأمنيات لدى أبناء محافظة المهرة.
وبالتأكيد فإن إنشاء جامعة في المهرة يعد إنجازا عظيما، في تاريخ المحافظة، واستحقاقا مهما لأبنائها، وهو حصاد عملية تراكمية طويلة من العمل المستمر في قطاع التعليم طوال أكثر من خمسة عقود ماضية، ويعد اليوم تتويجا لتلك المسيرة التي شارك فيها عدة قيادات محلية عملت في الحقل التعليمي.
إن استعراض سريع لمسيرة وتاريخ التعليم في المهرة منذ خضوعها لسيطرة الاحتلال البريطاني حتى اليوم، يجعلك تشعر بقيمة إنشاء جامعة في المهرة، والذي لن يكون مثمرا حتى يخرج إلى النور فعلا، ويشع ضوئه إلى كل ربوع وربى هذه المحافظة، الأصيلة في تأريخها، ونقاء أبنائها، وفرادتهم.
عهد الاحتلال البريطاني
فطوال تواجد الاحتلال الإنجليزي في المهرة، والذي دام 129 عاما، لم يبن في المحافظة سوى مدرسة واحدة، هي مدرسة الشعب، في العام 1965م، أي بعد انطلاق شرارة ثورة أكتوبر في ردفان وعدن، بعامين، وعلى وقع الحماس الثوري الملتهب في مدن الجنوب، المطالب بخروجه من اليمن، وكان يدرس في تلك المدرسة أربعين طالبا فقط، للمرحلة الابتدائية، من الصف الأول حتى الرابع.
عهد الاستقلال
وبعد الاستقلال الناجز في 1967 لم يكن في المهرة تعليم يتجاوز الصف الرابع، وافتتح الصف الخامس في العام 1970، مع حكم دولة اليمن الديمقراطي، ومع ذلك لم يكن المنهج حينها يمنيا، بل مناهج سودانية وجزائرية ومصرية، وكل المدارس كانت في مبان مستأجرة من الأهالي، وكانت صغيرة وضيقة، ويدرس الطلاب تحت الأشجار، أو في الخيام، بل إن أغلب المعلمين الذين كانوا يعملون في تلك المدارس كانوا من خارج المحافظة، وتحديدا من حضرموت المجاورة.
مع تولي الرئيس الراحل سالم ربيع علي (سالمين) أعيد النظر في العملية التعليمية، في كل مدن الجنوب، ومنها المهرة، التي أنشئ فيها مكتبا للتربية في العام 1973م، وتولى إدارته عضو مجلس النواب السابق الراحل محمد سالم بادينار، كأول مدير للتربية والتعليم، ثم أعقبه الأستاذ سالم حسن معيلي، والإثنين عملا كمحافظين للمهرة، في فترات متعاقبة.
ووفقا لإحصائيات رسمية فقد ارتفع عدد المدارس في المهرة من 19 مدرسة في العام 1975 إلى 33 مدرسة في العام 1990م، وما كان لهذا النسبة أن ترتفع طوال تلك السنوات لولا الجهود التي حاول المحافظون المتناوبون على المهرة منذ الاستقلال بذلها لتحقيق التنمية التعليمية، وكان ذلك بمثابة اللبنات الأولى للتعليم، رغم محدوديتها، بالنظر لطبيعة الدولة التي ولدت حديثا، وللبعد الجغرافي للمهرة عن المركز الأم في عدن، والبيروقراطية والمركزية الشديدة التي كان يتسم بها النظام الحاكم في عدن، يحكي أحد المسؤولين لمجلة العربي في عددها رقم 159 والتي نشرت استطلاعا عن المهرة في فبراير من العام 1972م أنهم إذا احتاجوا لصندوق من الورق في المهرة، فيجب أن تكون هناك موافقة مسبقة من الحكومة في عدن.
ومع ذلك أسهمت الدولة بمواردها الشحيحة والمحدودة وقتها في الاهتمام بالتعليم، ودخل المجتمع أيضا في عملية المشاركة، من خلال المبادرات الأهلية، والدعم المقدم من أبناء المهرة المغتربين في دول الجوار، فعلى سبيل المثال في فترة المحافظ الراحل أحمد سالم مخبال الذي تولى إدارة المهرة كمحافظ من العام 1972 حتى العام 1976م، جرى بناء مدرسة سالمين للبدو الرحل، بمنطقة الجحي بمديرية الغيضة، والتي تم تشييدها بمبادرات مجتمعية، وكان يجري تجميع البدو من عدة مناطق وملاحقتهم بسيارات الجيش لأخذهم بشكل إلزامي إلى المدرسة للتعلم، بسبب قلة أعداد المتعلمين وقتها، وعزوف البعض عن الالتحاق بالمدارس النظامية، ويظل الطالب في المدرسة في السكن الداخلي التابع لها حتى اكتمال العام الدراسي، وفي العطلة الصيفية يجري اعادتهم لمناطقهم لقضاء العطلة، ومع دخول العام الجديد تذهب سيارات الجيش لمناطقهم لتعيدهم من جديد إلى المدرسة، وهذه الشهادة سمعتها من المحافظ الأستاذ محمد عبدالله كدة في حديث بمنزله بالغيضة، وهو الرجل الذي عمل كمحافظ للمهرة ثلاث مرات.
وبشكل عام فقد واجه التعليم في المهرة خلال الفترة من العام 1967 حتى العام 1990 العديد من الصعوبات منها عدم وجود مدارس بالشكل الكافي، وعدم وجود المعلمين المتخصصين، وقلة الطلاب الملتحقين، وصعوبة المواصلات، وغياب الاستراتيجية لتطوير التعليم، والهجرة المستمرة.
عهد الوحدة اليمنية
ومع تحقق الوحدة اليمنية في الـ22 من مايو 1990م، بدأ عهدا جديدا في المهرة، ليس في الجانب التعليمي فحسب، بل في مختلف الجوانب، ويمكن القول بتعبير أدق أن هذا التاريخ مثل الميلاد الحقيقي لمحافظة المهرة، وكافة أبنائها، وكان بمثابة المداميك الأولى لمسيرة التنمية بشكلها الفعلي، والتي يجني المهريون اليوم ثمارها، وهي حصاد جهود شخصيات متعاقبة في المهرة، في كل الدوائر الحكومية.
وارتفع عدد المشاريع المنفذة خلال 14 عاما (1990 - 2004) إلى 97 مشروعا في قطاع التعليم، وأصبح هناك 95 مدرسة للتعليم الأساسي، و11 مدارس لتعليم الثانوية، وثلاث مدارس رياض أطفال، وامتدت المدارس لتشمل مديريات ريفية، ومناطق بعيدة لأول مرة، وبما يغطي كل التجمعات السكانية، وقفز عدد طلاب التعليم الأساسي من 7112 طالب في العام 1990، إلى 11679 طالب في العام 2001م، إلى 16526 طالب في العام 2004م، أما الثانوي فقد ارتفع من 389 طالب في العام 1990 إلى 1291 في العام 2004م، ووصل عدد الطلاب إجمالا في المهرة خلال العام 2019م إلى 31956 طالب وطالبة، وبلغت التكلفة لتلك المشاريع في ذات الفترة 13.507.25 ريال يمني.
هذه الأرقام تكشف بوضوح التطور والتوسع التدريجي في العملية التعليمية بمحافظة المهرة، بعد تحقيق الوحدة اليمنية، ويمكن وصفها بالثورة التعليمية، التي استطاعت المحافظة خلالها تطويق درجة الأمية، وتعزيز التعليم في كل مديرياتها طوال السنوات الماضية، لتتغلب على صعوبات الماضي، وتوجد واقعها الخاص، ومخرجاتها الحيوية من أبناء المحافظة.
كلية التربية البذرة الأولى
كل تلك المدارس والتحديث والتطور المستمر لها في المهرة، ولد الحاجة لبناء صرح تعليمي جامعي خاص بالمحافظة، وبدأ التفكير بذلك الصرح في وقت مبكر، وتحديدا بعد حرب صيف 1994م، عندما تولى إدارة المحافظة الأستاذ والأديب والعالم حسن مقبول الأهدل الذي عمل محافظا للمهرة خلال الفترة 1995 – 2000م، وكان حينها محسوبا على حزب التجمع اليمني للإصلاح، إبان فترة ائتلاف الحكم بين حزبي المؤتمر والإصلاح.
في العام 1995م بدأ التفكير الجاد في إنشاء كلية التربية في المهرة كنواة للجامعة، وكان العائق الأكبر حينها كما يروي الأهدل عدم توفر الطلاب المتخرجين من الثانوية الذين يمكن إنشاء كلية لهم في ذلك الوقت، وهذا الأمر يشير إلى أي مدى كان مستوى الحضور التعليمي متأخرا ومنعدما.
وقرر وقتها المجلس التنفيذي للمحافظة التوسع في إنشاء المدارس الثانوية في مديريات الغيضة وقشن وسيحوت وحوف، وللعلم كانت هذه المديريات تشكل جميع محافظة المهرة، ثم صدر قرار جمهوري في العام 1999م باستحداث خمس مديريات أخرى هل كلا من: حصوين، المسيلة، منعر، حات، شحن، وبدأ التوسع التدريجي في المدارس الثانوية، بغية إيجاد أكبر عدد من المتخرجين في الثانوية العامة.
وجرى التواصل من قبل إدارة المحافظة حينها مع جامعة عدن لبناء كلية تربية في المهرة، حيث كانت كلية التربية في حضرموت وقتذاك تتبع جامعة عدن، لكن جامعة عدن وافقت مشترطة تحمل السلطة المحلية في المهرة بعض الأعباء المالية، كالمرتبات والسكن، وتعثرت ولادة كلية التربية.
في العام التعليمي 96- 97م، بدأت مخرجات التعليم الثانوي أكثر تحسنا، وفرض هذا التعجيل بإنشاء كلية التربية في المهرة، وجرى عرض إنشاء الكلية على الدكتور علي هود باعباد رئيس جامعة حضرموت التي تأسست في العام 1993م، وأبدى استجابة كبيرة لذلك، وجرى ترتيب الأمور المتصلة بالتجهيزات، وانصدم المشاركون آنذاك بتوفير المقر للكلية، لعدم وجود مبان حكومية، وتم الاتفاق لاحقا على اختيار مبنى مول بنائه البنك الدولي كسكن للطابات ليصبح مقرا للكلية.
وفي العام 1998م جرى الترتيب النهائي للكلية، وتقديم الطلب من قبل المحافظ الأهدل للرئيس السابق علي عبدالله صالح، الذي اعتمد الميزانية المالية، وكان ذلك إيذانا بانطلاقها في شهر أكتوبر من ذات العام، بعدد 92 طالبا، وطالبة، و37 إداريا، وبدأت بقسمي اللغة العربية والتربية الإسلامية، ثم أضيف لها قسم الرياضيات في العام 2000م، وقسم اللغة الإنجليزية في العام 2003م، والأمل لدى أولئك المؤسسون أن تصبح تلك الكلية نواة لجامعة متكاملة في المهرة.
وبعد تسعة أعوام من الافتتاح، ونظراً لإقبال الطلاب فقد جرى بناء مقر جديد للكلية في مساحة إثنين كيلو متر مربع في العام 2003م بتكلفة نحو 150 مليون ريال تقريباً على نفقة الدولة.
كان إنشاء كلية للتربية خطوة عظيمة قياسا في ظروف لحظتها، فقد نقلت التعليم في المحافظة إلى مستوى متقدم، وأخرجته من الكتاتيب إلى رحاب الكلية، ووفرت على الطلاب عناء السفر إلى المحافظات البعيدة، ومنحتهم فرصة مواصلة التعليم الجامعي العالي، لتبدأ معها مرحلة جديدة من التعليم، وتخرج منها أجيالا عديدة من أبناء المحافظة الذين انخرطوا في مختلف التخصصات.
المطالب بالجامعة
وخلال تولي الرئيس هادي للحكم، جرى التواصل معه من قبل نخبة واسعة من أبناء المهرة، الذين تخرج الكثير منهم من كلية التربية لإنشاء جامعة في المهرة، بعد ارتفاع عدد طلاب الثانوية منها، وارتفاع عدد السكان، للحصول على قرار بإنشاء جامعة المهرة، وبذلت جهود حثيثة من عدة محافظين متعاقبين لإخراج هذا القرار إلى النور.
واليوم يتحقق هذا الحلم، ويصدر القرار الجمهوري رقم (23) لسنة 2022م، بإنشاء جامعة المهرة، في مدينة الغيضة، وتتمتع بالشخصية الاعتبارية، ويكون لها الاستقلال المالي والإداري في حدود القوانيين والأنظمة النافذة، وتبع هذا قرارا جمهوريا رقم (24) لسنة 2022م، بتعيين الدكتور أنور محمد على كلشات رئيسا لجامعة المهرة، وهي خطوة تتسق مع قانون التعليم العالي الذي ينص عند إنشاء جامعة على تسمية رئيسها في نفس الوقت، ليتسنى البدء بالتجهيزات اللازمة لاستكمال التجهيزات.
هذا الحلم الذي يتحقق بعد جهود متواصلة من العمل في الحقل التعليمي بالمهرة، سيفتح أفقا جديدا للمحافظة وأبنائها، وسيعمل على نقل المحافظة إلى مستوى أفضل، بما يخدم الطلاب والطالبات فيها، وهو ثمرة واضحة لسلسلة من النضال والكفاح التعليمي في المهرة الذي عمل عليه أجيال متعاقبة من التربويين، والمحافظين، والمعلمين، والمسؤولين في مختلف مواقعهم.
ولعل ما يميز هذه الولادة العظيمة لجامعة المهرة أن يكون أول رئيس لها أحد أبناء المحافظة، وهو الدكتور أنور كلشات الذي تلقى تعليمه الجامعي في المهد الأول للتعليم الجامعي بالمهرة، ممثلا بكلية التربية، التي تخرج منها في العام 2008م، وهو بهذا يكون قد جاء لرئاسة الجامعة من نواتها الأولى، ويمثل اليوم أحد أبرز مخرجاتها، مثلما سيصبح أول مهندسي نشأتها وإخراجها إلى الوجود.
ومن الجدير بالإشارة هنا أن كلية التربية السالف ذكرها واجهتها العديد من الصعوبات، وافتقرت للكثير من الإمكانيات، الأمر الذي يحتم على رئيسها الدكتور أنور كلشات أن يكون حريصا على تزويد الجامعة بأحدث التقنيات الحديثة في مجال التعليم، وأن تبدأ الجامعة من متطلبات التعليم الجامعي الحديث والمعاصر، لتصبح جامعة نموذجية.
المراجع:
المهرة حقائق وأرقام – حسن مقبول الأهدل.
مسيرة التعليم في محافظة المهرة – مكتب التربية والتعليم في المهرة.
كتاب الإحصاء السنوي للجهاز المركزي للإحصاء 2019م
كتاب المهرة في عهد الوحدة المباركة
مجلة العربي العدد 159
شهادات حية للكاتب من عدة شخصيات حكومية في المهرة